«صرخة الآلام» المكسيكية

«صرخة الآلام» المكسيكية
TT

«صرخة الآلام» المكسيكية

«صرخة الآلام» المكسيكية

تناولنا في المقال السابق تجمع سحب الثورة في الساحة المكسيكية في مطلع القرن التاسع عشر، حيث بدأ الشعب المكسيكي المكون أغلبيته من الهنود والعبيد ومن فوقهم طبقة من المخلطين وفوقها طبقة الإسبان المولودين في المكسيك والمعروفين باسم «كريويوس Creollos» يعانون جميعا من الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتردية التي بدأت تؤثر في التركيبة والفكر السياسيين، وقد ساهم بشكل كبير في انتشار الفكر الثوري مجموعة من التطورات الأساسية إلى جانب الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة، وعلى رأسها اندلاع الثورتين الفرنسية والأميركية ونجاحهما في القضاء على النظام الحاكم في الدولتين، خاصة الولايات المتحدة التي كانت تمر بظروف مشابهة بعض الشيء للمكسيك، ومن المفارقات الملحوظة أن حركة الثورة في كل من الولايات المتحدة والمكسيك اعتمدت بشكل مباشر على طبقة أبناء المستعمرين في الثورتين، فلقد أثرت طبقة الكريويوس مباشرة على حسم الأمر لصالح الثورة.
كما أشرنا في مقال الأسبوع الماضي فإن السلك الكنسي كان له دوره المباشر في اندلاع الثورة المكسيكية، خاصة بعدما اتخذ الملك الإسباني قرارا بمنع اليسوعيين من العمل داخل المكسيك بسبب توجهاتهم السياسية الليبرالية، ولكن الحركة الكنسية كانت قد أدركت خطورة ما آلت إليه الأمور في البلاد، ورغم أن بعض أعضاء السلك الكنسي كانوا إلى جانب الملكية ورفضوا فكرة الثورة، فإن رجال الكنيسة كان لهم دورهم الهام في هذا الصدد، لا سيما بعدما خرجوا من العباءة الفكرية والثقافية الضيقة للكنيسة في روما، وبالفعل اندلعت شرارة الثورة في المكسيك على أيدي الأب «ميجيل إيدالجو» Hidalgo في مدينة دولورس في 15 سبتمبر (أيلول) 1810 فيما عرف بصرخة الآلام أو «Grito de Dolores» التي أطلقها من كنيسته وجمعت خلفه الثورة المكسيكية كلها، وهي الخطبة التي أنهاها بعبارة «تحيا المكسيك ويحيا الاستقلال»، وفي أقل من أيام معدودات انضم لهذا الثوري جيش بلغ قوامه قرابة عشرة آلاف ثوري استطاعوا أن يقهروا القوات الملكية بقيادة الوالي الإسباني في البلاد، وعندما أصبحت المكسيك في متناول أيدي إيدالجو وجنراله الشهير «جيريرو» تأخر الرجل، وهو ما سمح للقوات الملكية بإعادة السيطرة على الجيش وتجميعه مرة أخرى، والتقى الجيشان في معركة كالديرون حيث مني الثوار بهزيمة ساحقة اضطر بعدها فلول الثوار للهروب، ولكن سرعان ما قبضت القوات الملكية على إيدالجو وبعض رجاله وقامت بتنفيذ حكم الإعداد عليه مع بعض أتباعه عام 1811.
لقد كان هذا العام هاما في الثورة المكسيكية، فلقد سيطر على إسبانيا تيار ليبرالي من أجل وضع دستور جديد للبلاد تضمن زيارة وفد مكسيكي شارك في وضع هذا الدستور، حيث عرضت مطالب الثورة المكسيكية، وتضمن هذا الدستور العديد من المطالب التي كانت للثوار في ممالك إسبانيا المختلفة، ولكن مع سقوط نابليون في فرنسا وإعادة الحكم الملكي لإسبانيا عادت سياسة القبضة الحديدية للبلاد، ولكن هذه الخطوة التي صاحبت بعدها بقليل، بموت إيدالجو، تفتت الحركة الثورية بين مقاطعات المكسيك، ولكن وهجها لم يخمد حتى مع ضعفها العسكري، وسرعان ما آلت قيادة الحركة الثورية إلى قائد آخر هو «موريلوس» و«إيجناسيو رايون» ومجموعة من الرجال والعسكريين من فلول حركة إيدالجو، وقد استمرت المحاولات المستميتة لخلخلة الحكم الإسباني ونيل الاستقلال، ولكن بدا واضحا الصعوبة التي واجهتها الثورة، فمركز الثقل لم يتحول بعد لصالح الثورة بعد، فالحركة شملت الهنود والمخلطين وبعض الدماء الإسبانية، ولكن طبقة الأغنياء الإسبان والمخلطين لم تكن على استعداد لترك مكاسبها ومصالحها من أجل فكرة الاستقلال، وهنا الاختلاف الأساسي مع الثورة الأميركية التي كانت سياسات بريطانيا تضرب مباشرة في مصالح الطبقات الغنية، فإن السياسيات الإسبانية منحت هذه الطبقة حقوقها كاملة.
استمرت هذه المعادلة الثورية المختلة لقرابة عشر سنوات تفرقت فيها حروب العصابات الثورية إلى جانب التيار الثوري الأساسي بقيادة موريلوس الذي سعى لاستصدار وثيقة استقلال للبلاد عقب انتصارات محدودة، ولكن القوات الملكية كانت له بالمرصاد، حيث لاقى مصير إيدالجو وتم إعدامه مع مجموعة من رجاله في 1815، وقد بدأت القوات الملكية تستعد لتصفية الثورة واقتلاع قيادتها مرة أخرى من البلاد خاصة «جيريرو»، هذا العسكري المحنك، حيث أرسل الوالي الإسباني جيشا بقيادة «إتوربيدي Iturbide» المعروف عنه دوره الحاسم في هزيمة إيدالجو، وبمجرد أن بدأ النزاع المسلح بين الجيشين جاءت الأخبار عبر الأطلنطي لتعلن عزل الملك الإسباني فرديناند السابع وعودة الحكم الليبرالي في البلاد، وهو ما غير المعادلة تماما، فهذه الحكومة قد تغير المعادلة الاقتصادية والاجتماعية في المستعمرات الإسبانية، وهو ما قد يفقد طبقة الـCriollos كل مميزاتها السياسية والاجتماعية، بما في ذلك إمكانية منح الاستقلال.
على الفور تغير موقف إتوربيدي من مهاجم للثورة والثوار إلى مساند لهم، وبدأ يتفاوض مع جيريرو من أجل شروط الاتحاد، وبالفعل جرى الاتفاق على «خطة إيجوالا» التي تضمنت ثلاثة عناصر أساسية هي استقلال المكسيك عن إسبانيا ووضعها تحت حكم أي طرف من أسرة البوربون أو أخرى، واحتفاظ الكنيسة الكاثوليكية بمميزاتها باعتبارها ممثلة الدين الرسمي للبلاد، إضافة إلى المساواة بين أبناء الإسبان من ناحية والإسبان المقيمين في المكسيك، بينما حقوق المخلطين تقل بعض الشيء. وهكذا تم الاتفاق على إعلان استقلال البلاد في المكسيك مستغلين انشغال إسبانيا بظروفها السياسية الخاصة، وبالفعل تم التوقيع على اتفاقية قرطبة في أغسطس (آب) 1821 بمشاركة ممثلين عن الدولة الإسبانية التي أعلنت استقلال البلاد، تبعها دخول الجيش المكسيكي العاصمة، فأقام إتوربيدي مجلسا Junta من العسكريين قام بدوره بتعيين كونغرس أو برلمان تضمن أغلبية مؤيدة لإقامة إمبراطورية مكسيكية يرأسها فرد من عائلة البوربون الإسبانية مقابل قوة أخرى ترى منح الحكم لإتوربيدي نفسه باعتباره الشخص الذي حسم دفة الأمور لصالح الاستقلال، وعندما رفضت إسبانيا التصديق على اتفاقية الاستقلال لم يجد البرلمان المكسيكي إلا خيار منح الإمبراطورية لإتوربيدي الذي انفرد بحكم البلاد من خلال مجموعة عسكرية تساند حكمه بجواره، ولكنه لم يدرك أن البلاد لن تقبل به ديكتاتورا بعدما ذاق الشعب الحرية، فاضطر الرجل للتنازل عن الحكم بعدما اتحد الجنرال سانتانا مع قائد جيوش إتوربيدي وتم الاتفاق على عزله من الحكم ليتولى فيكتوريا الحكم في البلاد، وتبدأ المكسيك في سلسلة من الفوضى السياسية التي دامت حقبا طويلة.
وهكذا أسفرت صرخة الآلام التي أطلقها «إيدالجو» لبدء شرارة الاستقلال لتنال المكسيك استقلالها المنشود بعد إحدى عشرة سنة عن الحكم الإسباني، عن خروج المكسيك من آلام المستعمر لتعاني آلام جهل بني الوطن كما سنرى.



شيغيرو إيشيبا... رئيس وزراء اليابان الجديد يعدّ العدة لتجاوز الهزيمة الانتخابية الأخيرة

إيشيبا
إيشيبا
TT

شيغيرو إيشيبا... رئيس وزراء اليابان الجديد يعدّ العدة لتجاوز الهزيمة الانتخابية الأخيرة

إيشيبا
إيشيبا

الأحداث المتلاحقة والمتسارعة في اليابان شرعت أخيراً الأبواب على كل الاحتمالات، ولا سيما في أعقاب حدوث الهزيمة الانتخابية التي كانت مرتقبة للحزب الديمقراطي الحر الحاكم. هذه الهزيمة جاءت إثر تبديل «استباقي» في زعامة الحزب المحافظ - المهيمن على السلطة في اليابان معظم الفترة منذ الخمسينات - في أعقاب قرار رئيس الحكومة السابق فوميو كيشيدا الاستقالة (حزبياً ومن ثم حكومياً) في أعقاب التراجع الكبير في شعبية الحزب، وتولّي غريمه الحزبي الأبرز شيغيرو إيشيبا المنصبَين. ومن ثم، دعا إيشيبا بنهاية سبتمبر (أيلول) الماضي إلى إجراء انتخابات عامة عاجلة ومبكّرة يوم 27 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي عن إجراء انتخابات عاجلة، انتهت بفقدان الائتلاف الحاكم المكوّن من الديمقراطيين الأحرار وحليفه حزب «كوميتو» الغالبية البرلمانية.

ألحق الناخبون اليابانيون الأحد الماضي هزيمة مؤلمة بالحزب الديمقراطي الحر، الذي هيمن مع استثناءات قليلة على حكم البلاد منذ عام 1955، وكانت هزيمته الأخيرة الأولى له التي تفقده الغالبية المطلقة في مجلس النواب منذ 15 سنة. وهنا، يتفق المراقبون على أن الحزب المحافظ والكبير النفوذ إنما حصد نقمة الشارع وغضبه بسبب التضخم المتصاعد والتباطؤ الاقتصادي وضعف قيمة العملة الوطنية «الين»، ناهيك من الفضائح المالية التي تورّطت بها قيادات حزبية، وصلات بعض الأعضاء بـ«كنيسة التوحيد» (الحركة المونية). وهكذا أخفق الحزب مع حليفه الصغير في جمع ما هو أكثر من 215 مقعداً من أصل 465 في حين كانت الغالبية المطلقة تحتاج إلى 233 مقعداً.

نكسة مبكرة للزعيم الجديد

هذه الهزيمة المريرة شكّلت أيضاً نكسة كبرى ومبكرة لزعيم الحزب ورئيس الوزراء الجديد شيغيرو إيشيبا، الذي أخفق رهانه بامتصاص النقمة الشعبية وترسيخ موقعه عبر الانتخابات المبكّرة.

وحقاً، أعلن إيشيبا في أول تعليق له على النتيجة نقلته شبكة «سي إن إن» الأميركية، أن الناخبين «أصدروا حكماً قاسياً» بحق حزبه الذي عليه أن «يأخذه بجدية وامتثال». لكنه أردف أنه لا يعتزم التنحي من رئاسة الحكومة، موضحاً «بالنسبة لي، فإنني سأعود إلى نقطة البداية، وأسعى للدفع قدماً بتغييرات داخل هيكل الحزب، وتغييرات أخرى أعمق لمواجهة الوضع السياسي». وفي حين ذكر إيشيبا أنه ليس لدى الحزب أي فكرة جاهزة لتحالف جديد فإن كل سياسات الحزب ستكون مطروحة على بساط البحث.

بطاقة هوية

وُلد شيغيرو إيشيبا يوم 4 فبراير (شباط) 1957 لعائلة سياسية مرموقة، مثله في ذلك الكثير من ساسة الحزب الديمقراطي الحر. إذ إن والده جيرو إيشيبا كان محافظاً لإقليم توتوري، الريفي القليل السكان بجنوب غرب اليابان، بين عامي 1958 و1974، قبل أن تُسند إليه حقيبة وزارة الداخلية. من الناحية الدينية، رئيس الوزراء الحالي مسيحي بروتستانتي تلقى عمادته في سن الـ18 في توتوري، كما أن جد أمّه قسٌّ من روّاد المسيحية في اليابان.

تلقّى شيغيرو دراسته الجامعية وتخرّج مجازاً بالحقوق في جامعة كييو، إحدى أعرق جامعات اليابان الخاصة، ومقرها العاصمة طوكيو، وفيها التقى زوجته المستقبلية يوشيكو ناكامورا، وهما اليوم والدان لابنتين.

وبعد التخرّج توظّف في مصرف «ميتسوي»، قبل أن يسير على خُطى والده فيدخل ميدان السياسة بتشجيع من صديق والده ورئيس الوزراء الأسبق كاكوي تاناكا (1972 - 1974).

وبالفعل، انتُخب وهو في سن التاسعة والعشرين، عام 1986، نائباً عن الديمقراطيين الأحرار في البرلمان (مجلس النواب) عن دائرة توتوري الموسّعة حتى عام 1996، ثم عن دائرة توتوري الأولى منذ ذلك الحين وحتى اليوم. وعُرف عنه طوال هذه الفترة اهتمامه ودرايته بملفّي الزراعة والسياسة الدفاعية. وحقاً، خدم لفترة نائباً برلمانياً لوزير الزراعة في حكومة كييتشي ميازاوا.

مسيرة سياسية مثيرة

في واقع الأمر، لم تخلُ مسيرة شيغيرو إيشيبا السياسية من الإثارة؛ إذ تخللها ليس فقط الترّقي في سلّم المناصب باتجاه القمّة، بل شهدت أيضاً مواقف اعتراضية واستقلالية وضعته غير مرة في مسار تصادمي مع حزبه وحزب والده.

في عام 1993، خرج من صفوف حزبه الديمقراطي الحر ليلتحق بحزب «تجديد اليابان» الذي أسسته قيادات منشقة عن الحزب بقيادة تسوتومو هاتا (رئيس الوزراء عام 1994) وإيتشيرو أوزاوا (وزير داخلية سابق) حتى عام 1994. ثم انتقل إلى حزب «الحدود الجديدة» الذي أُسس نتيجة اندماج «تجديد اليابان» مع قوى أخرى، وفيه مكث بين 1994 و1996، وبعدها ظل نائباً مستقلاً إلى أن عاد إلى صفوف الديمقراطيين الأحرار ويستأنف ضمن إطار الحزب الكبير ترقّيه السياسي السريع ضمن قياداته.

في أعقاب العودة عام 1997، تبوّأ إيشيبا عدداً من المسؤوليات، بدأت بمنصب المدير العام لوكالة الدفاع – أي حقيبة وزير الدفاع منذ أواخر 2007 –. ولقد شغل إيشيبا منصب وزير الدفاع بين عامي 2007 و2008 في حكومتي جونيتشيرو كويزومي وياسوو فوكودا، ثم عُيّن وزيراً للزراعة والغابات والثروة السمكية في حكومة تارو آسو بين 2008 و2009. وكذلك، تولّى أيضاً منصب الأمين العام للحزب الديمقراطي الحر بين 2012 و2014.

مع الأخذ في الاعتبار هذه الخلفية، كان طبيعياً أن يدفع طموح إيشيبا الشخصي هذا السياسي الجريء إلى التوق لخوض التنافس على زعامة الحزب، وبالتالي، رئاسة الحكومة.

بالمناسبة، جرّب شيغيرو إيشيبا حظه في الزعامة مرّات عدة. وكانت المرة الأولى التي يرشح نفسه فيها عام 2008 إلا أنه في تلك المنافسة احتل المرتبة الخامسة بين المتنافسين. بعدها رشح نفسه عامي 2012 و2018، وفي المرتين كان غريمه رئيس الوزراء الأسبق الراحل شينزو آبي... «وريث» اثنتين من السلالات السياسية اليابانية البارزة، والزعيم الذي شغل منصب رئاسة الحكومة لأطول فترة في تاريخ المنصب.

ثم في أعقاب استقالة آبي (الذي اغتيل عام 2022) لأسباب صحية عام 2020، رشّح إيشيبا نفسه، إلا أنه خسر هذه المرة وجاء ثالثاً، وذهبت الزعامة ورئاسة الحكومة ليوشيهيدي سوغا. وفي العام التالي، بعدما أحجم إيشيبا عن خوض المنافسة، فاز الزعيم ورئيس الحكومة السابق السابق فوميو كيشيدا. بيد أن الأخير قرّر في أغسطس (آب) أنه لن يسعى إلى التجديد الموعد المقرر في سبتمبر (أيلول). وهكذا، بات لا بد من الدعوة إلى إجراء انتخابات الزعامة الأخيرة التي فاز بها إيشيبا، متغلباً بفارق بسيط وفي الدورة الثانية على منافسته الوزيرة اليمينية المتشدّدة ساني تاكاييشي، التي كانت تصدرت دور التصويت الأولى. وهكذا، صار زعيماً للحزب الديمقراطي الحر ومرشحه لرئاسة الحكومة الرسمي، وعلى الأثر، اختاره مجلس النواب رئيساً للوزراء في مطلع أكتوبر (تشرين الأول) المنصرم.

أفكاره ومواقفه

على الرغم من طول بقاء إيشيبا في قلب الحلبة السياسية، فإن طبيعته الاستقلالية، عقّدت أمام المحللين وضعه في خانة واضحة. فهو تارة يوصف بأنه وسطي ليبرالي، تارة أخرى يوصف بـ«الإصلاحي»، وفي أحيان كثيرة يُعرّف بأنه يميني محافظ، بل متشدد. ومما لا شك فيه، أن طبيعة تركيبة الحزب الديمقراطي الحرّ، القائمة على أجنحة تسمح بتعدّد الولاءات الشخصية وتوارثها داخل أروقة تلك الأجنحة، وهذا من دون أن ننسى أن بداية الحزب نفسه جاءت من اندماج حزبين محافظين هما الحزب الحر (الليبرالي) والحزب الديمقراطي الياباني عام 1955.

على المستوى الاجتماعي، أبدى إيشيبا مواقف متحررة في عدد من القضايا بما في ذلك تأييده شخصياً زواج المثليين، كما أنه من مؤيدي ترك الخيار لكل من الزوجين بالاحتفاظ بالاسم الأصلي قبل الزواج. أما على الصعيد الاقتصادي، وتأثراً بكونه ممثلاً لمنطقة ريفية قليلة السكان، فإنه أبدى ولا يزال اهتماماً كبيراً بالتناقص السكاني وضرورة الاهتمام بالاقتصاد الريفي؛ ما يعني العمل على تقليص الفوارق بين الحواضر الغنية والأرياف الفقيرة.

لم تخلُ مسيرة إيشيبا السياسية من الإثارة... إذ اتخذ مواقف اعتراضية واستقلالية

وضعته أكثر من مرة في مسار تصادمي مع حزبه

السياسة الدولية

في ميدان العلاقات الخارجية والسياسة الدولية، تُعرف عن إيشيبا مواقفه المتشددة المتوافقة مع أفكار التيار المحافظ داخل الحزب الحاكم، وبالأخص إزاء التصدي لخطر نظام كوريا الشمالية وقضية تايوان، حيث يقف بقوة بجانب نظامها الديمقراطي في وجه التهديد الصيني.

وفيما يتعلق بالعلاقات مع الولايات المتحدة، حليف اليابان الأكبر، رأى رئيس الوزراء الحالي قبل أشهر أن سبب إحجام واشنطن عن الدفاع هو أن أوكرانيا ليست عضواً في حلف دفاع مشترك مثل حلف شمال الأطلسي (ناتو). واستطراداً، في ربط الوضع الأوكراني بحالة تايوان، يعتبر إيشيبا أن تأسيس حلف أمني آسيوي خطوة ضرورية لردع أي هجوم صيني على تايوان، لا سيما في «التراجع النسبي» في القوة الأميركية.

وفي التصور الذي عبَّر عنه إيشيبا بـ«ناتو» آسيوي يواجه تهديدات روسيا والصين وكوريا الشمالية، يجب أن يضم الحلف العتيد دولاً غربية وشرقية منها فرنسا، وبريطانيا وألمانيا، وكذلك الهند، والفلبين، وكوريا الجنوبية، وأستراليا وكندا.

من جهة ثانية، تطرّق إيشيبا خلال الحملة الانتخابية إلى التحالف الأميركي - الياباني، الذي وصفه بأنه «غير متوازٍ» ويحتاج بالتالي إلى إعادة ضبط وتوازن. وكان في أول مكالمة هاتفية له بعد ترؤسه الحكومة اليابانية مع الرئيس الأميركي جو بايدن، أعرب عن رغبته في «تعزيز الحلف» من دون أن يعرض أي تفاصيل محددة بهذا الشأن، ومن دون التطرق إلى حرصه على إجراء تغييرات في الاتفاقيات الثنائية كي يتحقق التوازن المأمول منها.

التداعيات المحتملة للنكسة الانتخابية الأخيرة

في أي حال، نكسة الحزب الديمقراطي الحر في الانتخابات العامة الأخيرة تفرض على شيغيرو إيشيبا «سيناريو» جديداً ومعقّداً... يبداً من ضمان تشكيلة حكومة موسّعة تخلف حكومته الحالية، التي لا تحظى عملياً بتفويض شعبي كافٍ. وهذا يعني الانخراط بمساومات ومفاوضات مع القوى البرلمانية تهدف إلى تذليل العقبات أمامه.

المهمة ليست سهلة حتماً، لكن خبرة الساسة اليابانيين التقليديين في التفاوض والمساومات أثبت فعالياتها في مناسبات عدة، بما فيها الفضائح وانهيار التحالفات، وكانت دائماً تثمر عقد صفقات طارئة حتى مع القوى المناوئة.

شينزو آبي (آ. ب.)

 

حقائق

رؤساء وزارات اليابان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية

في عام 1955، أي بعد مرور عقد من الزمن على هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية، التقى حزبان سياسيان يمينيان وتفاهما على الاندماج في حزب تحوّل ما يشبه الظاهرة في الأنظمة الديمقراطية في العالم.الحزبان المقصودان هما الحزب الحر (أو الحزب الليبرالي) والحزب الديمقراطي الياباني، ولقد نتج من هذا الاندماج الحزب الديمقراطي الحر، الذي هيمن على مقدرات السياسة اليابانية منذ ذلك الحين باستثناء خمس سنوات، فقط خسر فيها السلطة لقوى معارضة أو منشقة عنها. وطوال الفترة التي تقرب من 70 سنة خرج من قادة الحزب الكبير زعماء نافذون رسخوا الاستقرار ورعوا الاستمرارية وأسهموا، بالتالي، في تحقيق «المعجزة الاقتصادية» اليابانية المبهرة.وفيما يلي، أسماء رؤساء الحكومات التي تولت السلطة منذ منتصف الخمسينات:- الأمير ناروهيكو هيغاشيكوني (من الأسرة المالكة) 1945- البارون كوجيرو شيديهارا (مستقل) 1945 – 1946- شيغيرو يوشيدا (الحزب الحر) 1946 – 1947- تيتسو كاتاياما (الحزب الاشتراكي) 1947 – 1948- هيتوشي آشيدا (الحزب الديمقراطي) 1948- شيغيرو يوشيدا (الحزب الديمقراطي الليبرالي / الحزب الحر) 1948 – 1954- إيتشيرو هاتاياما (الحزب الديمقراطي الياباني / الحزب الديمقراطي الحر) 1954 – 1956- تانزان إيشيباشي (الحزب الديمقراطي الحر) 1956 – 1957- نوبوسوكي كيشي (الحزب الديمقراطي الحر) 1957 – 1960- هاياتو إيكيدا (الحزب الديمقراطي الحر) 1960 – 1964- إيساكو ساتو (الحزب الديمقراطي الحر) 1964 – 1972- كاكوي تاناكا (الحزب الديمقراطي الحر) 1972 – 1974- تاكيو ميكي (الحزب الديمقراطي الحر) 1974 – 1976- تاكيو فوكودا (الحزب الديمقراطي الحر) 1976 – 1978- ماسايوشي أوهيرا (الحزب الديمقراطي الحر) 1978 – 1980- زينكو سوزوكي (الحزب الديمقراطي الحر) 1980 – 1982- ياسوهيرو ناكاسوني (الحزب الديمقراطي الحر) 1982 – 1987- نوبورو تاكيشيتا (الحزب الديمقراطي الحر) 1987 – 1989- سوسوكي أونو (الحزب الديمقراطي الحر) 1989- توشيكي كايفو (الحزب الديمقراطي الحر) 1989 – 1991- كيئيتشي ميازاوا (الحزب الديمقراطي الحر) 1991 – 1993- موريهيرو هوسوكاوا (الحزب الياباني الجديد) 1993 – 1994- تسوتومو هاتا (حزب «تجديد اليابان») 1994- توميئيتشي موراياما (الحزب الاشتراكي) 1994 – 1996- ريوتارو هاشيموتو (الحزب الديمقراطي الحر) 1996 – 1998- كايزو أوبوتشي (الحزب الديمقراطي الحر) 1998 – 2000- يوشيرو موري (الحزب الديمقراطي الحر) 2000 – 2001- جونيتشيرو كويزومي (الحزب الديمقراطي الحر) 2001 – 2006- شينزو آبي (الحزب الديمقراطي الحر) 2006 – 2007- ياسوو فوكودا (الحزب الديمقراطي الحر) 2007 – 2008- تارو آسو (الحزب الديمقراطي الحر) 2008 – 2009- يوكيو هاتوياما (الحزب الديمقراطي الياباني) 2009 – 2010- ناوتو كان (الحزب الديمقراطي الياباني) 2010 – 2011- يوشيهيكو نودا (الحزب الديمقراطي الياباني) 2011 – 2012- شينزو آبي (الحزب الديمقراطي الحر) 2012 – 2020- يوشيهيدي سوغا (الحزب الديمقراطي الحر) 2020 – 2021- فوميو كيشيدا (الحزب الديمقراطي الحر) 2021 – 2024- شيغيرو إيشيبا (الحزب الديمقراطي الحر) 2024.....