معرض الشارقة للكتاب يحتفي بمرور 35 عامًا على انطلاقته

تشارك فيه 1681 دار نشر عربية وأجنبية من 60 دولة

إقبال كبير على المعرض منذ الأيام الأولى
إقبال كبير على المعرض منذ الأيام الأولى
TT

معرض الشارقة للكتاب يحتفي بمرور 35 عامًا على انطلاقته

إقبال كبير على المعرض منذ الأيام الأولى
إقبال كبير على المعرض منذ الأيام الأولى

على مدى الـ34 عامًا الماضية، حرص معرض الشارقة الدولي للكتاب الذي ينعقد حاليًا، بين 2 و12 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، على أرض المعارض الأكسبو في إمارة الشارقة، على أن يكون متميزًا على صعيد التنظيم والابتكار وتقديم الكلمة المقروءة. والمعرض في الأصل مشروع ذاتي أراد منه حاكم الشارقة الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي أن يساهم في خلق مجتمع قارئ، وأن يساهم الكتاب في تنمية الإمارة. وهو يعبّر أيضًا عن الشغف الذي يتميز به حاكم الشارقة، بوصفه كاتبًا ومؤلفًا وباحثًا. ولذلك يحرص على حضور افتتاحه، واللقاء بدور النشر العربية والعالمية.
ومن خلال هذه العناية والاهتمام، أصبح معرض الشارقة من أكثر المعارض حميمية في لقاء الجمهور مع دور النشر التي تتزايد في مشاركتها كل عام، حتى وصل عددها هذا العام إلى نحو 1681 دارًا جاءت من 60 دولة. وفي كل دورة، يفاجئ المعرض الجمهور بتظاهرة أو مشروع جديد من شأنه أن يدعم أنشطة المهرجان. وجديد هذا العام إطلاق جائزة جديدة باسم جائزة الشارقة للترجمة (ترجمان)، وتبلغ قيمتها المادية مليوني درهم، وهي جائزة عالمية في الترجمة والتأليف تهدف إلى تشجيع الترجمات العالمية الراسخة التي تتخذ من المنجز الإنساني الفارق في أبعاده الثقافية والفكرية منطلقات قومية ترتكز عليها في بناء حضارة الإنسان، ومد جسور التواصل بين الشرق والغرب، مع سعيها لدعم النشر الجاد القادر على تأكيد دور الكلمة، وتفعيل الأفكار الخلاقة القادرة على دفع المشهد الثقافي نحو التكامل المأمول.
وكما قال مدير معرض الشارقة أحمد بن ركاض العامري، لـ«الشرق الأوسط»، فإن حاكم الشارقة يؤمن بأن الثقافة هي الوسيلة الوحيدة لمّد الجسور بين الأمم. وقد درجت العادة على أن يوقع حاكم الشارقة كتبه الجديدة في أثناء افتتاح المعرض، ومؤلفه الجديد لهذا العام هو «صراع القوى والتجارة في الخليج: 1620 - 1820».
وفي يوم الافتتاح، تم الإعلان أيضًا عن الفائزين في جائزة «اتصالات» لكتاب الطفل، وحاز كتاب «أريد أن أكون سلحفاة» للكاتبة المصرية أمل فرح على جائزة أفضل نص وغيرها. ويحرص المعرض على أن يكرّم كل عام شخصية من الشخصيات العربية أو العالمية، وكان اختيار هذا العام هو وزير الثقافة اللبناني الأسبق غسان سلامة. كما يسعى المعرض إلى تكريم دور النشر، ومنح الجوائز التي شملت هذا العام جائزة الشارقة للكتاب الإماراتي، وجائزة أفضل كتاب عربي، وجائزة أفضل كتاب أجنبي، وجائزة الشارقة لتكريم دور النشر. وعلى مدى السنوات الـ34 الماضية، حرص معرض الشارقة الدولي للكتاب على أن يكون وجهة متفردة تحتضن القدرات الإبداعية الجماعية، وتتيح مناقشة الأحلام والأفكار والتحديات.
والمعرض زاخر بالفعاليات، ومن أهمها ندوة «الثقافة العربية.. من أين؟ وإلى أين؟» التي نظمتها هيئة الشارقة للكتاب، وشارك فيها كل من: الدكتور صابر عرب، والدكتور غسان سلامة، والدكتور مصطفى الفقي، وأدارها الإعلامي محمد خلف، والتي اتفق المشاركون فيها على أن الثقافة العربية تحتاج إلى المزيد من الدعم، كالذي تقوم به الشارقة بشكل متفرد في الوقت الحاضر، وأنه لا خوف على اللغة العربية باعتبارها هوية ثقافية من تقادم الزمان، وكثرة الآيديولوجيات المحيطة بها سابقًا ولاحقًا، وإنما هناك قلق من الثورة التقنية التي تفرض نفسها. وقد سخر الدكتور مصطفى الفقي من الرأي القائل إن اللغة العربية تقف عائقًا أمام مسيرة التقدم، في حين أنها استطاعت استيعاب جميع الحضارات السابقة، بما فيها الفرعونية والإغريقية واليونانية والرومانية، وواكبت جميع العلوم والمخترعات.
وفي ندوة «الكتابة بين الذهن والروح»، شارك كل من الكاتب الإماراتي علي أبو الريش، والمغربي طارق بكاري، والنيجيري أبو بكر آدم، الذين اتفقوا جميعًا على أن خطاب الروح يأخذ أبعادًا مختلفة، وأن الأدب هو موطن المشاعر. وأدار الندوة محمد ولد سالم. وقد أكد المشاركون على أن الكتابة الأدبية تختلف كثيرًا في أساليبها عن الكتابة العلمية، حيث تهدف الأولى إلى مخاطبة الروح والجماليات، فيما الثانية تقصد العقل. وبناءً على ذلك، اختلفت أساليب الكتابة الأدبية.
وفي ندوة «تاريخ إعارة الكتب»، أكد الدكتور عبد الحكيم الأنيس، الباحث في دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري، على أن الوصول إلى الكتاب بطريقة مجانية لا يكون إلا بالإعارة، وذلك خلال استعراضه لتاريخ إعارة الكتب، مضيفًا أن الجميع يسعى للحصول على المعرفة التي قد تكون مدفوعة الثمن، أو مجانية، ومؤكدًا أن مبدأ الإعارة قديم جدًا، وكان معروفًا ومنتشرًا لدى الأمم السابقة.
ويتميز المعرض بحضور دور النشر الأجنبية، ومنها دور النشر الهندية، فحجم الجالية الهندية الحالية يقدر بمليوني مقيم يقبلون على شراء كتبهم الآتية من القارة الهندية، وبأسعار رمزية. وقد التقى الجمهور مع المؤلف الهندي هيرانيا جاربام، وقدم س. جوبالا كريشنان محاضرة عن الهنود وشعب الملايا.
وللشعر نصيب كبير يتمثل في الأمسيات الشعرية، ومنها أمسية بعنوان «أجنحة القصيدة» شارك فيها كل من: الشاعر محمد بن عبد الرحمن المقرن (السعودية)، والشاعر علاء جانب من (مصر)، وأدارها الشاعر محمد البريكي. كما أن هناك أمسيات شعرية أخرى: الأولى بعنوان «أطياف»، بحضور الشاعرين سعيد معتوق وأكرم قنبس، وأدارها حمادة عبد اللطيف. والأمسية الثانية بعنوان «جماليات»، وتضم كلاً من الشاعرين جميل داري، وماجد عودة، وأدارتها منى أبو بكر.
وعادة ما تُقام هذه الأمسيات في المقاهي الأدبية المصاحبة للمعرض. ولعل مشاركة مجموعة كبيرة من الكتّاب والأدباء والمثقفين العرب يعطي زخمًا ثقافيًا كبيرًا للمعرض، وقد حضر هذا العام: أحلام مستغانمي، وواسيني الأعرج، ومحمد ربيع، وربعي المدهون الفائز بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) لعام 2016، والقاص محمود شقير، وإبراهيم نصر الله الفائز بجائزة «كتارا 2016»، والشاعر العراقي فاضل السلطاني، ومحمد المقرن، والشيخ ماجد الصباح، وطالب الرفاعي، وشربل داغر، وجورج يرق، وحامد الناظر، وطارق بكاري، ومحمود حسن سالم، وغيرهم.
ولا يخلو المعرض في كل عام من العروض الموسيقية والمسرحية، فقد قدمت هذا العام فرقة «براينت آرت» الصينية عروض «سيرك بكين» المبهرة التي جذبت جمهورًا واسعًا، وخصوصًا من الأطفال، من أجل كسر إيقاع الروتين، من خلال الألعاب التي شارك فيها 12 لاعبًا ولاعبة استطاعوا أن يبرزوا مهاراتهم بألعاب الخفة اليدوية والرشاقة والأكروبات والقفز بطريقة بهلوانية.
ويأخذ المعرض زواره الصغار في رحلة للتعرف على المانجا اليابانية، في رحلة مميزة لإثراء خيال الأطفال، وتنمية إبداعاتهم الفنية، تحت عنوان «كن مبدعًا»، وهي عبارة عن ورشة فنية عن «شخصيات مانجا»، التي قدمتها الفنانة كارين روبيز من المملكة المتحدة. ويتعلم الأطفال المشاركون في الورشة كيفية رسم وجوه مختلفة اعتمادًا على أسلوب فن المانجا، وذلك من خلال مشاهدتهم للقصة، وإعادة رسم الشخصيات، حسب تخيلاتهم لها.
كما قامت الفنانة كارين بقراءة قصة للأطفال من التاريخ الياباني، وطلبت منهم بعد ذلك رسم وجه الشخصية، والأزياء التي ترتديها، ليكون لديهم قدرة على تخيل الأشكال المختلفة، واختيار أسلوبهم الخاص في الرسم، إضافة إلى رسم تعابير الشخصية لتوسيع مداركهم الفكرية.
ومن ضمن الفعاليات، وقعت الكاتبة الإماراتية المتخصصة بأدب الخيال العلمي نورة النومان الجزء الثالث من روايتها «أجوان» الذي يحمل عنوان «سيدونية»، لتستكمل بذلك السلسلة الروائية التي وضعت من خلالها حجر الأساس لأدب الخيال العلمي الإماراتي. وتنوعت فقرات العرض التي قدمها شارع سمسم خلال أكثر من ساعة ونصف الساعة، بعنوان «لنكن أصدقاء»، وهو العرض الأول له في الشرق الأوسط، حول موضوعات تعليمية في قالب غنائي ترفيهي، منها: الصداقة، والتواصل حول العالم، والطعام الصحي، وأهمية تنظيم الوقت لأداء العمل، والتعاون للحصول على النجاح، وغيرها.
والنحت على رصاص الأقلام نوع جديد من الفن يدخل الإمارات تحت أجنحة معرض الشارقة الدولي للكتاب، ليوجه رسائل من القلم إلى الجمهور، تبدأ بالبحث عن حقيقة الأشياء، وتنتهي بطلب المعرفة من الكتب التي سطرتها الأقلام؛ 10 قيم رمزية أطلقها المعرض هذا العام، وأبدعتها أنامل الفنان الروسي سلافت فيداي، فما هذه الرموز، وما الرسائل التي يوجهها المعرض للجمهور؟
إن دور النشر العربية والعالمية حاضرة بقوة هذا العام، وتنتظر تحقيق مبيعات كبيرة كما في السنوات الماضية، ولعل بيانات المبيعات التي تنشرها إدارة المعرض في خاتمة المعرض هي خير دليل على ذلك. ولكن ذلك لا يمنع وجود شكوى من دور النشر العربية من قلة الإقبال على اقتناء الكتاب في زمن انفجار الثورة المعلوماتية وطغيان الكتاب الإلكتروني.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.