عودة الديني وراهنيته، عنوان إشكالي، له آثاره المفاهيمية والفكرية والقيمية على المجتمعات المعاصرة، لأنه لا يتعلق بالمجتمعات الغربية وحدها، بل وبالمجتمعات الإسلامية التي اتخذ فيها أشكالا مختلفة. فبأي معنى يمكننا أن نتحدث عن عودة الديني إلى العالم المعاصر؟ وما دلالات هذه العودة؟ وهل تعبر هذه العودة إلى الفضاء الغربي، عن عجز في منظومات الحداثة وما بعد الحداثة، أم إنها لم تنقطع أصلا، بل اتخذت أشكالا مختلفة؟ وهل يحق لنا الحديث عن عودة الديني في الفضاء الإسلامي؟ وكيف تمظهرت هذه العودة؟
تعبر عودة الديني وراهنيته عن مكر العقل والتاريخ؛ فبعدما اعتقدت الحداثة أنها أزالت السحر عن العالم، وحذفت كل أشكال الدين ودلالاته الإيمانية والمقدسة، عن كل تفاصيل الحياة في الفضاء العمومي الغربي، وقزمت من تأثيراته وتداعياته، انبثق سؤال الإيمان وجدواه مجددا، بعدما سادت العبثية واللامعنى الوجود الإنساني، وتفتحت مع الحداثة أبواب العدمية.
لقد اعتقد العقل الحداثي الغربي، أن الدين أمر يعود إلى الماضي، وهو من سمات المجتمعات البدائية السابقة للحداثة، وأنه إما سيضعف بشكل كبير أو سيختفي كليا، وفي أفضل الأحوال، سيصبح أمرا خاصا بالفرد في المجتمعات العلمانية الحديثة. لكن التاريخ العالمي اتخذ هذه الأيام، مسارات مختلفة عن كل التوقعات؛ إذ تمظهر الديني في مختلف الحركات الدينية في العالمين الغربي والإسلامي. وهذا ليس مجرد إعادة إحياء لأشكال تقليدية، بل بناء لظواهر حديثة للغاية؛ فالجديد في لحظتنا الراهنة، يتمثل في الحضور المتزامن لجميع ديانات العالم، ووجودها بشكل منفصل عن سياقها الزماني والمكاني، مما يجعلها عرضة لاستحواذ النزعات الفردية والأصولية عليها. فراهنية الديني وعودته، ارتبطتا بحاجات الشعوب إليه، حيث خضع لملابسات التجربة التاريخية؛ إذ يمكن للدين أن يلتقي مع الاستبداد في ظروف معينة، مثلما يمكنه أن يكون مقارعا للاستبداد والمستبدين في أوضاع مغايرة. وبهذا المعنى، لم يعد الدين، حسب ريجيس دوبري، أفيون الشعوب، بل «أصبح فيتامينها»، ومخلصها من كل أشكال السيطرة والاستلاب والاستغلال. كما أن الهويات الخاصة، والطوائف الدينية، تسعى لأن تحصل على الاعتراف بها من داخل ذاتها، ولما هي عليه. لقد كشفت صيرورة التاريخ أقنعة المقدس، ولم تتخلص من هذه الأقنعة، بل ألبست الإنسان تلك الأقنعة، وجعلت من أنسنة المقدس هدفا من أجل التوازن، لسد الفراغ المركب الذي أحدثته تلك الصيرورة. إن راهنية الديني أو عودته، تتجلى في سيرورة أنسنة الإلهي، وسيرورة تأليه الإنسان، بحيث يصبح الدين أقل عقائدية، وأكثر روحانية، لكي لا تتسع الهوة بينه وبين الحياة.
إذا كان عنوان الحداثة هو السيطرة والتحكم نتيجة التطور العلمي والتقني، فإن عنوان ما بعد الحداثة، هو الحيرة المعرفية، والارتباك المنهجي، والفراغ القيمي. أمام هذا الوضع، جرت عودة الدين، وازدادت الحاجة إلى الإيمان والاعتقاد والتدين. وجرت، بالتالي، إعادة الاعتبار إلى الدين، باعتباره شعورا بالتبعية المطلقة، والعجز الإنساني أمام القوى الخارجية.
إن ظاهرة «عودة الديني»، ارتبطت بالبراديغم (النموذج القياسي أو المعياري) العلماني، والبراديغم الإسلامي، على حد سواء، لتظهر في أشكال مختلفة، عما كان سائدا في التقاليد المسيحية - اليهودية أو الإسلامية. فحينما نتحدث عن عودة الديني، لا نقصد أن المسيحية اختفت أو أن الإسلام لم يعد حاضرا، بل ما نحاول مقاربته هو أن الديني لم يبق مفصولا عن المجال العمومي، وعن أسئلة السياسة والثقافة والمجتمع، بل أصبح يثير كثيرا من الإشكالات المتعلقة بالوجود الإنساني عموما. فالمجتمع العلماني، قزّم دور الدين في إطار دائرة الإيمان الفردي، وفي علاقة أحادية بين العبد وخالقه. لكن المجتمع ما بعد العلماني، لم يعد ينظر للديني فيه بتوجس، بل على أنه مكون أساسي في بناء حقائقه. الأمر نفسه بدأ يحدث في المجتمعات الإسلامية، لكن بصيغ مختلفة، أي وسيلة للمقاومة والتحرر، أو وسيلة للعنف والإرهاب، أو وسيلة للبناء الحضاري وتجاوز حالة الضعف والتأخر، والمساهمة في العالمية. فعودة الديني، مؤشر على أن العلمانية لم تستطع إقناع الروح الحرة داخل الإنسان، الذي ينزع بفطرته إلى الدين، واحتجاج على ثقافة مستلبة أو وهمية، أو كشكل مختلف للدخول في الحداثة. وهذه الأخيرة فقدت أسها، أي «تحرير العالم من سحره»، أي طرد الغامض والميتافيزيقي واللاهوتي. وبدا أنه بحاجة إلى «قوة غامضة» تقوده إلى الطريق القويم وتخرجه من عنق الزجاجة. فلم يتردد «آندريه توزيل» في أن يتوقف أمام الدور الإيجابي الممكن للدين، مستعيدا أعمال إرنست بلوخ، الذي رأى أن في الدين قوة محرضة على العدالة والإصلاح، في حال توفر الشروط السياسية والاجتماعية، رافضا اختصار الدين إلى دور تضليلي سلطوي المنطلق. يبرز في هذا المنظور، «لاهوت التحرير» الذي عرفته أميركا اللاتينية، وحاول أن يوحد بين الدعوة إلى الثورة والتعاليم المسيحية، مبتعدا عن «الإيمان المجرد»، ومعطيا تأويلا سياسيا للنصوص الدينية، ينقد الاستبداد والاستغلال، وينادي بمنظور للعالم يصالح بين الدين والمقولات الماركسية، وينطلق من الإنسان المضطهد؛ لا من الإنسان المؤمن أو الكافر.
إن «عودة الديني» تعبر عن قلق في العقل الغربي، يرجع إلى أنه يدرك التاريخ بشكل أحادي الاتجاه؛ إذ ينطلق من مجتمعات تقليدية إلى مجتمعات حداثية، من دون الأخذ بعين الاعتبار البعد التعددي والمشاركة الحضارية للثقافات والشعوب الأخرى. فخطاب الغرب نفسه حول الحضارة والحداثة والتقدم، لا يخرج عن التعاليم المسيحية المعلمنة؛ إذ يشكل فصلا جديدا في تاريخ الدين الذي يحمل رسالة الخلاص. لكن الخلاص هنا، هو خلاص أرضي يبشر بالجنة في الحياة الدنيا.
ما يلاحظ في الربع الأخير من القرن العشرين، أن هناك فكرتين: الأولى ترى في العلمنة سيرورة محتمة، وشرطا للحداثة، ونتيجة لها في آن واحد. والثانية تسجل عودة الديني، مدركة أنها احتجاج على حداثة مستلبة أو وهمية، أو باعتبارها شكلاً مختلفا للدخول في الحداثة. فعودة الديني تحيل إلى إعادة صياغة «الدين، وليست عودة إلى ممارسات سلفية مهجورة»، بل هي بلا صفة إقليمية، وليست هوية ثقافية. فعلى الرغم من أزمة الديني، التي هي أزمة ثقافة، فإن الاعتقادات الدينية وتحولاتها وانتقالاتها، قادرة على البقاء والازدهار.
فالتجربة الدينية مرت عبر التاريخ بمراحل تعاقبت فيها تفسيرات وتأويلات، حاولت، قدر الإمكان، أن تواكب التطورات التي يعرفها الواقع الاجتماعي والسياسي. إلا أن ما يميز اللحظة الراهنة هو حضور الظاهرة الدينية بقوة في كل نزاعات العالم المعاصر، حيث أصبح الهروب من تحليلها وإعادة تأويلها، بمثابة مساهمة في نشر العنف والدمار للبشرية. وفي هذا الإطار، أكد يورغن هابرماس، أن المستقبل لـ«الدين العاقل». ففي مجتمع حديث قطع الصلة بالخرافات والأساطير، لم يبق من الدين غير «الجانب العقلي»، ففي هذا العالم المتعدد دينيا وثقافيا وعرقيا، يجب على الوعي الديني أن يقر بمبدأ الاختلاف مع المذاهب الأخرى، وأن يقبل سلطة العلم، التي تمتلك اليوم حق احتكار معرفة العالم. كما يجب عليه أن يتقبل القوانين والمبادئ التي تتأسس عليها الدولة، على الرغم من انبثاقها عن أخلاق غير دينية. فهابرماس، يقر بأن الدين يجب أن يعود إلى الفضاء العمومي، وأن يساهم في بناء حقائقه. لقد كانت فكرة الحداثة في تجليها العلماني، تقتضي في الأساس، فصل السلطات حتى لا يؤثر الشأن الديني على الشأن السياسي. كما تقتضي احترام تنوع المعتقدات، دفاعا عن حرية التفكير والاعتقاد وقبول القيم الكونية. لكن هذا المبدأ جرى نقضه، واختزال العلمانية في مهاجمة الدين ومحاربة وجوده في المجتمع، وجعلها وسيلة لإقصاء الرؤية الدينية من الحياة العامة. بعبارة أخرى، أينما حل العقل، لا يمكن القبول بالتعامل مع الدين. فنحن هنا أمام نوع من الاستعلاء في الفكر الفلسفي والسياسي.
لقد كان الاعتقاد السائد، عند كثير من العلمانيين في القرن العشرين، أن الدين وهمٌ يجب أن يتبدد، وأن الأديان هي مجموعة من الخرافات التي تمضي إلى الأفول، ولم تعد سارية المفعول. لكننا نشهد إعادة إحياء لكل ما هو «ديني»: فالحجاب، والمساجد، والصوامع، والأسماء الشرقية الإسلامية كلها، دلالات على هذا الوجود «المزعج»؛ إذ أصبحت هذه المظاهر، تحتل أهمية كبرى في الوعي الغربي.
إن الأمر هنا، يتعلق بالرؤية الجديدة والواضحة للدين الذي يأبى الأفول والإبادة. إن أساس المعضلة، لا يتعلق بالإسلام أو بالأديان، بل بإساءة فهم للعلمانية، ذلك أن الدين ما كان يومًا وسيلة بشرية لضبط الناس وإدارتهم، أو السيطرة عليهم، بل تلبس بالتحولات التي عرفتها المجتمعات الحداثية وما بعد الحداثية.
بشكل عام، إن عودة الديني في الغرب، جاءت استجابة لحاجة إلى المعنى، في ظل مجتمع مأزوم بكل أشكال الاستهلاك والتشيؤ والعلمنة. بينما يختلف الأمر في العالم الإسلامي، حيث يطغى الإسلام السياسي والرهان الآيديولوجي، بوصفهما أفقًا لتجاوز التخلف والاستبداد.
معنى عودة الديني إلى العالم المعاصر ودلالاته
على الوعي الديني أن يقر بالاختلاف ويقبل سلطة العلم التي تحتكر معرفة العالم
معنى عودة الديني إلى العالم المعاصر ودلالاته
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة