قراءة ميدانية لمعركة إنهاء «داعش»

للتنظيم قدرة كبيرة على التحول من أجل الاستمرار

قراءة ميدانية لمعركة إنهاء «داعش»
TT

قراءة ميدانية لمعركة إنهاء «داعش»

قراءة ميدانية لمعركة إنهاء «داعش»

شهد الأسبوعان الأخيران الهجوم المنتظر على مدينة الموصل، معقل تنظيم داعش المتطرف في العراق. وفي الوقت الذي تؤكد القوات الأميركية والحكومية العراقية أن المعركة ستكون حاسمة، يرى بعض المحللين أنها قد لا تؤدي بالضرورة إلى وضع حدٍّ نهائي للتنظيم الذي برهن خلال السنوات القليلة الماضية قدرته على التطور والاستمرار.
انشق تنظيم داعش المتطرف الإرهابي عن تنظيم القاعدة في عام 2013، وحين بدأ بالاستيلاء على الأراضي في أوائل عام 2014، لم يُعره الرئيس الأميركي باراك أوباما في حينه أي أهمية بل استخف بقدراته، واصفا إياها بفريق من الصغار في الحركة الراديكالية. غير أن «داعش» ما لبث أن أحكم قبضته على الموصل، أكبر ثاني مدينة في العراق في شهر يونيو 2014 بعد حملة خاطفة شنها على شمال غربي البلاد من أراضي سوريا. وخلال العامين المنصرمين، تمكّن التنظيم من التحكّم بالمدينة والسيطرة عليها والتقدّم بشكل مطرِّد مستوليًا على كثير من الأراضي في العراق وسوريا، حاصلا على مبايعة غيره من المجموعات المتطرفة في المنطقة. مع هذا، خلال الأشهر الأخيرة الماضية، مُني هذا التنظيم الإرهابي بهزائم كبيرة، وتقلّصت مساحة مناطق سيطرته الجغرافية بنسبة 30 في المائة خلال سنتين بحسب مركز الدراسات «آي إتش إي جاينز» IHS JANE.
ونقلا عن موقع «السورية نت» تكبد «داعش» الخسائر التالية على صعيد سيطرته الجغرافية في كل من سوريا والعراق:

سوريا
1 - عين العرب (كوباني): المدينة السورية ذات الغالبية الكردية الواقعة على الحدود مع تركيا في أقصى شمال شرقي محافظة حلب بشمال سوريا. ولقد باتت عين العرب رمزًا للقتال ضد «داعش» بعدما خاض مقاتلو الميليشيات الكردية معارك عنيفة طالت أكثر من أربعة أشهر لينجحوا أخيرًا في يناير 2015 في طرد مقاتلي التنظيم منها بدعم للمرة الأولى من التحالف الدولي بقيادة واشنطن.
2 - تل أبيض: وهي مدينة سورية أخرى تقع أيضًا على الحدود مع تركيا في ريف محافظة الرقّة الشمالي، وقد سيطر عليها الأكراد في يونيو عام 2015. وتعد تل أبيض ذات الغالبية العربية مدينة مهمة على خط الإمداد الرئيسي ونقطة عبور للأسلحة والمقاتلين بين تركيا ومدينة الرقّة، معقل «داعش» الأبرز في سوريا.
3 - تدمر: سيطر التنظيم المتطرف على «عروس البادية» التي تتبع محافظة حمص، وتبعد مسافة 200 كم عن دمشق باتجاه وسط سوريا، في مايو (أيار) 2015، وعمد إلى تدمير الكثير من آثارها المدرجة على لائحة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو)، بينها معبدي بل وشمين. وبدعم من الطيران الحربي الروسي، تمكن جيش نظام الأسد من استعادة السيطرة على تدمر في 27 مارس (آذار) 2016.
4 - منبج: استعادت ميليشيا قوات سوريا الديمقراطية - وهي ميليشيات تشكل ميليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية عمودها الفقري، مع بعض المقاتلين العرب وتتلقى الدعم من الولايات المتحدة - مدينة منبج الواقعة في الريف الشمالي الشرقي بمحافظة حلب في السادس من أغسطس 2016، وذلك بعدما خضعت لسيطرة التنظيم المتطرف عام 2014. وكانت منبج تعد أحد أبرز معاقله في محافظة حلب لا سيما أنها على خط الإمداد الرئيس الذي كان متبقيًا للتنظيم بين الرقّة والحدود التركية.
5 - جرابلس: وهي أيضًا مدينة سورية تقع على الحدود التركية وعلى ضفاف نهر الفرات، إلى الغرب من عين العرب وشمال شرق منبج. ولقد طردت القوات التركية والفصائل المقاتلة السورية المدعومة من أنقرة، ولا سيما «الجيش السوري الحر»، التنظيم المتطرف منها في 24 أغسطس 2016 ضمن إطار عملية «درع الفرات» التي تشنها القوات التركية ضد التنظيم والميليشيات الكردية الانفصالية على حد سواء.
6 - الحدود التركية السورية: في الرابع من سبتمبر طردت القوات التركية والفصائل المدعومة منها مقاتلي «داعش» من آخر منطقة واقعة تحت سيطرته على الحدود بين البلدين.
7 - دابق: سيطرت فصائل سورية معارضة مدعومة من أنقرة في 16 أكتوبر على بلدة دابق الحدودية مع تركيا والتي لها أهمية رمزية لدى التنظيم، وعلى بلدة صوران المجاورة.

العراق
1 - تكريت: في 31 مارس 2015 أعلنت القوات العراقية استعادة مدينة تكريت الواقعة على بعد 160 كيلومترًا شمال بغداد، بعدما شنت أكبر عملية لها منذ هجوم التنظيم في يونيو 2014 الذي سمح له بالسيطرة على مساحات واسعة من البلاد. وشاركت واشنطن وطهران من خلال ميليشيا «الحشد الشعبي» الشيعية في عملية القوات العراقية.
2 سنجار: في 13 نوفمبر 2015 استعادت الميليشيات الكردية من تنظيم داعش، مدعومة بغارات جوية لقوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن، مدينة سنجار في شمال غربي العراق، قاطعة بذلك طريقًا استراتيجيًا كان يستخدمه مقاتلوه بين العراق وسوريا. ويذكر أن التنظيم المتطرف كان قد استولى على سنجار في أغسطس 2014، وارتكب فظائع بحق السكان وغالبيتهم العظمى من الأقلية الإيزيدية.
3 الرمادي: في 9 فبراير (شباط) 2016 تمت استعادة مدينة الرمادي، عاصمة محافظة الأنبار السنّية، وهي تقع على بعد 100 كلم غرب من العاصمة العراقية بغداد، من «داعش» الذي كان قد سيطر عليها في مايو 2015.
4 الفلّوجة: المدينة العراقية السنيّة التي تقع على مسافة 50 كلم غربي بغداد، كانت أولى المدن التي سيطر عليها التنظيم مطلع عام 2014 وأعلن الجيش العراقي استعادة الفلوجة في 26 يونيو 2016 بعد شهر على شن هجوم كبير انتهى بتهجير عشرات الآلاف من سكان المدينة.
5 القيارة: في 9 يوليو 2016، سيطرت القوات الحكومية العراقية مدعومة من قوات التحالف الدولي على قاعدة جوية مهمة قرب القيارة، التي تبعد مسافة 60 كلم جنوبي مدينة الموصل. وفي 25 أغسطس طردت القوات الحكومية العراقية مقاتلي التنظيم من البلدة تأهبًا لمعركة الموصل، آخر معاقل التنظيم الرئيسة في العراق.
6 - الشرقاط: أعلنت القوات العراقية في 22 سبتمبر استعادة السيطرة على بلدة الشرقاط التي تحظى بأهمية استراتيجية كبرى بالنسبة لمعركة الموصل، كونها تقع على طريق الإمداد الرئيسي إلى بغداد التي تبعد عنها مسافة 260 كلم، والشرقاط آخر معاقل التنظيم في محافظة صلاح الدين.

معركة الموصل
وبالعودة إلى الموصل، يتوقع الخبراء أن تستغرق المعركة شهرين أو ثلاثة، وأن تدور المرحلة الأولى منها على أطراف المدينة. ويعتبر الخبراء أن المعركة الأصعب هي التي ستخاض داخل المدينة خاصة في الأحياء القديمة، وفق ما شرحه في حديث إلى «الشرق الأوسط» الناشط المتحدر من الموصل غانم العابد، متوقعًا أن يغادر التنظيم أطراف الموصل مثل حي عرابي متوجهًا إلى سوريا إن لم يتمكن من الصمود. ومن ناحية ثانية، أيضًا في حديث إلى «الشرق الأوسط» يقر الشيخ العراقي أحمد السامرائي «أن الشعب العراقي ملّ من (داعش) ولم يعد يؤيده، حتى لو أنه يشعر بالخوف من الابتزازات التي قد يمارسها عليه الحشد الشعبي المقرب من إيران». وهنا يضيف غانم العابد في السياق نفسه قائلا: «إن الكل يعلم أن الحكومة العراقية سلّمت بنفسها الموصل للتنظيم الإرهابي، إنما في الحقيقة ليس هناك من يدعمه فعليًا، على الرغم من أن الميليشيات الشيعية و(داعش) وجهان لعملة واحدة».
يذكر أن تنظيم داعش يواجه حقًا معارضة متصاعدة ضمن مناصريه بحيث عمد خلال الأسبوعين الماضيين إلى تصفية 58 شخصا في الموصل تمردوا ضده بحسب وكالة «رويترز»، بمن فيهم مساعد مقرب من زعيم التنظيم «أبو بكر البغدادي».

لن تكون النهاية
ولكن على الرغم من أن هذه الأحداث كلها وضعت «داعش» في موقف دفاعي، فإن سقوط الموصل لن يؤدي بالضرورة إلى نهايته، وهو الذي تمكن من البقاء على قيد الحياة حتى الآن، والذي يُعتقد أنه لا يزال يملك ما يزيد عن 10 إلى 15 ألف مقاتل بعد أن كانوا 30 ألف مقاتل في عام 2014. ويبقى الخطر الرئيسي الذي قد تواجهه القوات العراقية وقوات التحالف، متمثلا في قدرة التنظيم على التحرك بشكل سرّي. فقد برهنت الأحداث السابقة أنه كلما وجد التنظيم نفسه أمام خطر تصفيته، لجأ إلى أساليب التحرّك السري بدلا من القوة العسكرية التقليدية. وهكذا، تمكن من الصمود والاستمرار سنة بعد سنة ومن مواجهة عمليات مكافحة الإرهاب التي شنتها القوات الحكومية العراقية والأميركية في الموصل بين عامي 2004 و2009.. وعاد وظهر على الساحة من جديد ما إن غادرت القوات الأميركية المدينة في عام 2010.
بناءً عليه، يحذِّر الخبير باتريك جونسون والخبير باتريك رايان، في تقرير نشر أخيرًا على موقع War on the Rocksأنه بناء على تحليل تصرفات «القاعدة» سابقًا في العراق، على المحللين وصنّاع القرار توخي الحذر قبل أن يعلنوا كم سيكون من السريع أو السهل إلحاق الهزيمة بـ«داعش» من قبل قوات التحالف سواء في الموصل أو أماكن أخرى. ذلك أن التنظيم أثبت مرارًا وتكرارًا قدرته على التحوّل من «دويلة تتمتع بقدرات عسكرية وإمكانية الحُكم علانية، إلى مجموعة إرهابية سريّة تعمل تحت الأرض بغية الحفاظ على نفوذها وسيطرتها على السكان المحليين مع تقليل إلى أقل حدّ ممكن خسائرها».
وبالتالي، قد يلجأ «داعش» من جديد إلى هذا النهج، ويعمد إلى تعطيل وتشتيت وحداته العسكرية مع تعزيز في الوقت عينه قوته الاستخبارية، والأمنية والإدارية. وعليه، لا بد للتحالف بين القوات العراقية والأميركية أن يتوقع هذا التغيير في أسلوب العمل، ويستعد لتنفيذ حملة ضد مقاتلي «داعش» والعناصر الموالية القادرة على العمل سرا. وإلا فستستمر المنظمة بالابتزاز والترهيب وتنفيذ الاغتيالات قبل أن تعود إلى الحياة من جديد بعد أن تحوِّل القوات العراقية اهتمامها إلى مكان آخر.
إن الهجوم المنفذ في الموصل يشكل المرحلة الأولى من حملة «التطهير، وبسط الاستقرار، والبناء» التي سيتم إطلاقها خلال الأشهر أو حتى السنوات المقبلة. وفي الهجمات الأخيرة لاحظنا أن «داعش» يراجع تكتيكيًا، ما قد يشير إلى أنه خلال فترة «بسط الاستقرار» قد يعمد إلى استنفاد قوة القوات العراقية»، وفق مصدر أمني عراقي تحدث، شرط عدم الكشف عن هويته. ومن ثم، فإن قوات التحالف والقوات الحكومية العراقية لن يكون عليها فقط القضاء على «داعش» عسكريًا، بل أيضًا تدمير شبكاته السرية من خلال عمل استخباراتي شامل، مع ضمان أمن السكان الذي يعتبر عنصرًا أساسيًا لمنع المنظمة الإرهابية من العودة إلى الحياة من جديد.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.