قراءة ميدانية لمعركة إنهاء «داعش»

للتنظيم قدرة كبيرة على التحول من أجل الاستمرار

قراءة ميدانية لمعركة إنهاء «داعش»
TT

قراءة ميدانية لمعركة إنهاء «داعش»

قراءة ميدانية لمعركة إنهاء «داعش»

شهد الأسبوعان الأخيران الهجوم المنتظر على مدينة الموصل، معقل تنظيم داعش المتطرف في العراق. وفي الوقت الذي تؤكد القوات الأميركية والحكومية العراقية أن المعركة ستكون حاسمة، يرى بعض المحللين أنها قد لا تؤدي بالضرورة إلى وضع حدٍّ نهائي للتنظيم الذي برهن خلال السنوات القليلة الماضية قدرته على التطور والاستمرار.
انشق تنظيم داعش المتطرف الإرهابي عن تنظيم القاعدة في عام 2013، وحين بدأ بالاستيلاء على الأراضي في أوائل عام 2014، لم يُعره الرئيس الأميركي باراك أوباما في حينه أي أهمية بل استخف بقدراته، واصفا إياها بفريق من الصغار في الحركة الراديكالية. غير أن «داعش» ما لبث أن أحكم قبضته على الموصل، أكبر ثاني مدينة في العراق في شهر يونيو 2014 بعد حملة خاطفة شنها على شمال غربي البلاد من أراضي سوريا. وخلال العامين المنصرمين، تمكّن التنظيم من التحكّم بالمدينة والسيطرة عليها والتقدّم بشكل مطرِّد مستوليًا على كثير من الأراضي في العراق وسوريا، حاصلا على مبايعة غيره من المجموعات المتطرفة في المنطقة. مع هذا، خلال الأشهر الأخيرة الماضية، مُني هذا التنظيم الإرهابي بهزائم كبيرة، وتقلّصت مساحة مناطق سيطرته الجغرافية بنسبة 30 في المائة خلال سنتين بحسب مركز الدراسات «آي إتش إي جاينز» IHS JANE.
ونقلا عن موقع «السورية نت» تكبد «داعش» الخسائر التالية على صعيد سيطرته الجغرافية في كل من سوريا والعراق:

سوريا
1 - عين العرب (كوباني): المدينة السورية ذات الغالبية الكردية الواقعة على الحدود مع تركيا في أقصى شمال شرقي محافظة حلب بشمال سوريا. ولقد باتت عين العرب رمزًا للقتال ضد «داعش» بعدما خاض مقاتلو الميليشيات الكردية معارك عنيفة طالت أكثر من أربعة أشهر لينجحوا أخيرًا في يناير 2015 في طرد مقاتلي التنظيم منها بدعم للمرة الأولى من التحالف الدولي بقيادة واشنطن.
2 - تل أبيض: وهي مدينة سورية أخرى تقع أيضًا على الحدود مع تركيا في ريف محافظة الرقّة الشمالي، وقد سيطر عليها الأكراد في يونيو عام 2015. وتعد تل أبيض ذات الغالبية العربية مدينة مهمة على خط الإمداد الرئيسي ونقطة عبور للأسلحة والمقاتلين بين تركيا ومدينة الرقّة، معقل «داعش» الأبرز في سوريا.
3 - تدمر: سيطر التنظيم المتطرف على «عروس البادية» التي تتبع محافظة حمص، وتبعد مسافة 200 كم عن دمشق باتجاه وسط سوريا، في مايو (أيار) 2015، وعمد إلى تدمير الكثير من آثارها المدرجة على لائحة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو)، بينها معبدي بل وشمين. وبدعم من الطيران الحربي الروسي، تمكن جيش نظام الأسد من استعادة السيطرة على تدمر في 27 مارس (آذار) 2016.
4 - منبج: استعادت ميليشيا قوات سوريا الديمقراطية - وهي ميليشيات تشكل ميليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية عمودها الفقري، مع بعض المقاتلين العرب وتتلقى الدعم من الولايات المتحدة - مدينة منبج الواقعة في الريف الشمالي الشرقي بمحافظة حلب في السادس من أغسطس 2016، وذلك بعدما خضعت لسيطرة التنظيم المتطرف عام 2014. وكانت منبج تعد أحد أبرز معاقله في محافظة حلب لا سيما أنها على خط الإمداد الرئيس الذي كان متبقيًا للتنظيم بين الرقّة والحدود التركية.
5 - جرابلس: وهي أيضًا مدينة سورية تقع على الحدود التركية وعلى ضفاف نهر الفرات، إلى الغرب من عين العرب وشمال شرق منبج. ولقد طردت القوات التركية والفصائل المقاتلة السورية المدعومة من أنقرة، ولا سيما «الجيش السوري الحر»، التنظيم المتطرف منها في 24 أغسطس 2016 ضمن إطار عملية «درع الفرات» التي تشنها القوات التركية ضد التنظيم والميليشيات الكردية الانفصالية على حد سواء.
6 - الحدود التركية السورية: في الرابع من سبتمبر طردت القوات التركية والفصائل المدعومة منها مقاتلي «داعش» من آخر منطقة واقعة تحت سيطرته على الحدود بين البلدين.
7 - دابق: سيطرت فصائل سورية معارضة مدعومة من أنقرة في 16 أكتوبر على بلدة دابق الحدودية مع تركيا والتي لها أهمية رمزية لدى التنظيم، وعلى بلدة صوران المجاورة.

العراق
1 - تكريت: في 31 مارس 2015 أعلنت القوات العراقية استعادة مدينة تكريت الواقعة على بعد 160 كيلومترًا شمال بغداد، بعدما شنت أكبر عملية لها منذ هجوم التنظيم في يونيو 2014 الذي سمح له بالسيطرة على مساحات واسعة من البلاد. وشاركت واشنطن وطهران من خلال ميليشيا «الحشد الشعبي» الشيعية في عملية القوات العراقية.
2 سنجار: في 13 نوفمبر 2015 استعادت الميليشيات الكردية من تنظيم داعش، مدعومة بغارات جوية لقوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن، مدينة سنجار في شمال غربي العراق، قاطعة بذلك طريقًا استراتيجيًا كان يستخدمه مقاتلوه بين العراق وسوريا. ويذكر أن التنظيم المتطرف كان قد استولى على سنجار في أغسطس 2014، وارتكب فظائع بحق السكان وغالبيتهم العظمى من الأقلية الإيزيدية.
3 الرمادي: في 9 فبراير (شباط) 2016 تمت استعادة مدينة الرمادي، عاصمة محافظة الأنبار السنّية، وهي تقع على بعد 100 كلم غرب من العاصمة العراقية بغداد، من «داعش» الذي كان قد سيطر عليها في مايو 2015.
4 الفلّوجة: المدينة العراقية السنيّة التي تقع على مسافة 50 كلم غربي بغداد، كانت أولى المدن التي سيطر عليها التنظيم مطلع عام 2014 وأعلن الجيش العراقي استعادة الفلوجة في 26 يونيو 2016 بعد شهر على شن هجوم كبير انتهى بتهجير عشرات الآلاف من سكان المدينة.
5 القيارة: في 9 يوليو 2016، سيطرت القوات الحكومية العراقية مدعومة من قوات التحالف الدولي على قاعدة جوية مهمة قرب القيارة، التي تبعد مسافة 60 كلم جنوبي مدينة الموصل. وفي 25 أغسطس طردت القوات الحكومية العراقية مقاتلي التنظيم من البلدة تأهبًا لمعركة الموصل، آخر معاقل التنظيم الرئيسة في العراق.
6 - الشرقاط: أعلنت القوات العراقية في 22 سبتمبر استعادة السيطرة على بلدة الشرقاط التي تحظى بأهمية استراتيجية كبرى بالنسبة لمعركة الموصل، كونها تقع على طريق الإمداد الرئيسي إلى بغداد التي تبعد عنها مسافة 260 كلم، والشرقاط آخر معاقل التنظيم في محافظة صلاح الدين.

معركة الموصل
وبالعودة إلى الموصل، يتوقع الخبراء أن تستغرق المعركة شهرين أو ثلاثة، وأن تدور المرحلة الأولى منها على أطراف المدينة. ويعتبر الخبراء أن المعركة الأصعب هي التي ستخاض داخل المدينة خاصة في الأحياء القديمة، وفق ما شرحه في حديث إلى «الشرق الأوسط» الناشط المتحدر من الموصل غانم العابد، متوقعًا أن يغادر التنظيم أطراف الموصل مثل حي عرابي متوجهًا إلى سوريا إن لم يتمكن من الصمود. ومن ناحية ثانية، أيضًا في حديث إلى «الشرق الأوسط» يقر الشيخ العراقي أحمد السامرائي «أن الشعب العراقي ملّ من (داعش) ولم يعد يؤيده، حتى لو أنه يشعر بالخوف من الابتزازات التي قد يمارسها عليه الحشد الشعبي المقرب من إيران». وهنا يضيف غانم العابد في السياق نفسه قائلا: «إن الكل يعلم أن الحكومة العراقية سلّمت بنفسها الموصل للتنظيم الإرهابي، إنما في الحقيقة ليس هناك من يدعمه فعليًا، على الرغم من أن الميليشيات الشيعية و(داعش) وجهان لعملة واحدة».
يذكر أن تنظيم داعش يواجه حقًا معارضة متصاعدة ضمن مناصريه بحيث عمد خلال الأسبوعين الماضيين إلى تصفية 58 شخصا في الموصل تمردوا ضده بحسب وكالة «رويترز»، بمن فيهم مساعد مقرب من زعيم التنظيم «أبو بكر البغدادي».

لن تكون النهاية
ولكن على الرغم من أن هذه الأحداث كلها وضعت «داعش» في موقف دفاعي، فإن سقوط الموصل لن يؤدي بالضرورة إلى نهايته، وهو الذي تمكن من البقاء على قيد الحياة حتى الآن، والذي يُعتقد أنه لا يزال يملك ما يزيد عن 10 إلى 15 ألف مقاتل بعد أن كانوا 30 ألف مقاتل في عام 2014. ويبقى الخطر الرئيسي الذي قد تواجهه القوات العراقية وقوات التحالف، متمثلا في قدرة التنظيم على التحرك بشكل سرّي. فقد برهنت الأحداث السابقة أنه كلما وجد التنظيم نفسه أمام خطر تصفيته، لجأ إلى أساليب التحرّك السري بدلا من القوة العسكرية التقليدية. وهكذا، تمكن من الصمود والاستمرار سنة بعد سنة ومن مواجهة عمليات مكافحة الإرهاب التي شنتها القوات الحكومية العراقية والأميركية في الموصل بين عامي 2004 و2009.. وعاد وظهر على الساحة من جديد ما إن غادرت القوات الأميركية المدينة في عام 2010.
بناءً عليه، يحذِّر الخبير باتريك جونسون والخبير باتريك رايان، في تقرير نشر أخيرًا على موقع War on the Rocksأنه بناء على تحليل تصرفات «القاعدة» سابقًا في العراق، على المحللين وصنّاع القرار توخي الحذر قبل أن يعلنوا كم سيكون من السريع أو السهل إلحاق الهزيمة بـ«داعش» من قبل قوات التحالف سواء في الموصل أو أماكن أخرى. ذلك أن التنظيم أثبت مرارًا وتكرارًا قدرته على التحوّل من «دويلة تتمتع بقدرات عسكرية وإمكانية الحُكم علانية، إلى مجموعة إرهابية سريّة تعمل تحت الأرض بغية الحفاظ على نفوذها وسيطرتها على السكان المحليين مع تقليل إلى أقل حدّ ممكن خسائرها».
وبالتالي، قد يلجأ «داعش» من جديد إلى هذا النهج، ويعمد إلى تعطيل وتشتيت وحداته العسكرية مع تعزيز في الوقت عينه قوته الاستخبارية، والأمنية والإدارية. وعليه، لا بد للتحالف بين القوات العراقية والأميركية أن يتوقع هذا التغيير في أسلوب العمل، ويستعد لتنفيذ حملة ضد مقاتلي «داعش» والعناصر الموالية القادرة على العمل سرا. وإلا فستستمر المنظمة بالابتزاز والترهيب وتنفيذ الاغتيالات قبل أن تعود إلى الحياة من جديد بعد أن تحوِّل القوات العراقية اهتمامها إلى مكان آخر.
إن الهجوم المنفذ في الموصل يشكل المرحلة الأولى من حملة «التطهير، وبسط الاستقرار، والبناء» التي سيتم إطلاقها خلال الأشهر أو حتى السنوات المقبلة. وفي الهجمات الأخيرة لاحظنا أن «داعش» يراجع تكتيكيًا، ما قد يشير إلى أنه خلال فترة «بسط الاستقرار» قد يعمد إلى استنفاد قوة القوات العراقية»، وفق مصدر أمني عراقي تحدث، شرط عدم الكشف عن هويته. ومن ثم، فإن قوات التحالف والقوات الحكومية العراقية لن يكون عليها فقط القضاء على «داعش» عسكريًا، بل أيضًا تدمير شبكاته السرية من خلال عمل استخباراتي شامل، مع ضمان أمن السكان الذي يعتبر عنصرًا أساسيًا لمنع المنظمة الإرهابية من العودة إلى الحياة من جديد.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟