لماذا يذهب الجامعيون إلى ساحات القتال تحت راية «داعش»؟

ارتباط التطرف بالجهل يسقط تحت أقدام مقاتليه

جامعيون من الأجانب  استهوتهم شعارات {داعش} فانضموا إليه ({الشرق الأوسط})
جامعيون من الأجانب استهوتهم شعارات {داعش} فانضموا إليه ({الشرق الأوسط})
TT

لماذا يذهب الجامعيون إلى ساحات القتال تحت راية «داعش»؟

جامعيون من الأجانب  استهوتهم شعارات {داعش} فانضموا إليه ({الشرق الأوسط})
جامعيون من الأجانب استهوتهم شعارات {داعش} فانضموا إليه ({الشرق الأوسط})

استندت دراسة البنك الدولي، المعدة أخيرًا، التي بينت أن الأجانب الذين يلتحقون بصفوف «داعش» على مستوى تعليمي أعلى من المتوقع، إلى بيانات داخلية للتنظيم المتطرف جرى تسريبها لـ3803 من عناصره.
ويشار إلى أن الدراسة التي أعدتها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في البنك الدولي، تستند فيما خص الشق المتعلق بالمتطرفين الأجانب إلى استمارات انضمامهم إلى التنظيم المتطرف، التي تتضمن بيانات عن بلد الإقامة والجنسية والمستوى التعليمي والخبرات السابقة في العمل القتالي والإلمام بالشريعة.
ومن ناحية ثانية، تفيد دراسة البنك الدولي بأن «داعش» لم يجند مقاتليه الأجانب من الطبقات الفقيرة أو الأقل تعليمًا، بل على العكس هناك ما يشير إلى أن الافتقار إلى الإدماج الاقتصادي لهؤلاء الأشخاص في بلادهم يفسر تفاقم التشدد، وتحوله إلى تطرف عنيف.
كذلك فإن معدّي الدراسة وعنوانها «العدالة الاجتماعية والاقتصادية لمنع التطرف العنيف»، أكدوا أن «داعش» لم يأت بمجنديه الأجانب من بين الفقراء والأقل تعليمًا، بل العكس هو الصحيح. إذ بحسب الدراسة، فإن غالبية المنضمين إلى التنظيم خلال عامي 2013 و2014 «يؤكدون أن مستواهم التعليمي هو المرحلة الثانوية، وقسم كبير منهم تابعوا دراستهم حتى الجامعة». وأظهرت بيانات الدراسة أن الأجانب الذين انضموا لـ«داعش»، 43.3 منهم مستواهم التعليمي هو المرحلة الثانوية، و24.5 في المائة هو المرحلة الجامعية، في حين أن 13.5 في المائة فقط يقتصر مستواهم التعليمي على المرحلة الابتدائية، وبلغت نسبة الأميين في صفوف التنظيم 1.3 في المائة فقط.
من ناحية أخرى، فتح «داعش» في شهر فبراير (شباط) عام 2016 مدرستين في مدينة الرقة السورية لتعليم «الجهاد» والعلوم الشرعية لأبناء وبنات المقاتلين الأجانب في صفوفه، لكن باللغة الإنجليزية، تماشيًا مع خصوصيتهم، إحداهما للذكور وحملت اسم «أبو مصعب الزرقاوي»، والمدرسة الثانية للإناث سميت بـ«مدرسة عائشة». وقال «ديوان التعليم» لدى «داعش» إن «المدارس الجديدة لتدريس الأطفال من عمر السنة السادسة وحتى الرابعة عشرة من أبناء المهاجرين الأجانب باللغة الإنجليزية». وكان التنظيم قد أنشأ أيضًا معهدًا لتدريب الأطفال على القتال وفق عدة مستويات تحت اسم «معهد الفاروق» لتدريس الأطفال أحكام الجهاد والشريعة، وقدر عدد الأطفال المنتسبين إليه بمائة طفل.
ومما يذكر هنا أن «داعش» كان قد فرض في مارس (آذار) عام 2015 التعليم الإلزامي في الأراضى الواقعة تحت سيطرته في سوريا، وقام بتوزيع تعهدات على أهالي الطلبة، لضمان التزامهم بإرسال أطفالهم إلى المدارس التي يديرها، بحسب مصادر حقوقية سورية. ونشر نشطاء نسخة من أوراق تتضمن تسجيل التلاميذ في مدارس «داعش»، وتعهد من ولي أمر التلميذ بإرساله إلى هذه المدارس وإلزامه بالدوام ومتابعته، وجاء في نص التعهد: «أتعهد بإذن الله بإرسال ابني إلى المدرسة ومتابعة دوامه، وفي حال عدم تنفيذ هذا الأمر أتحمل المسؤولية الكاملة».

أهداف «داعش»
الدكتورة إلهام شاهين، أستاذ العقيدة والفلسفة في مصر، ترى أن «داعش» يلجأ للمتعلمين، لأنه يعتمد على الدراسات المسبقة، ووضع الخطط المنهجية في جذب العناصر التي تنضم إلى صفوفه، ويحدد ذلك أيضًا بناءً على أهداف يسعى إلى تحقيقها. وتلفت إلى أن التنظيم يسعى لتكوين دولة واسعة النطاق تعتمد على التكنولوجيا الحديثة في إدارتها، وبالتالي لن يتحقق ذلك إلا بالمستويات العلمية القوية، ومن ثم يدخل للسيطرة عليهم من النقص الذي يعانون منه والتفكك الأسري أو الرغبة في دور محوري في الحياة ودولة «الخلافة» (المزعومة)، أو الرغبة في التخلص من حياة سيئة واستبدال حياة أخرى بها في الدنيا أو الآخرة.. وكل هذا يلعب «داعش» على أوتاره بقوة.
ثم تقول شاهين: «لكن تنظيم داعش ليس وحده الذي لديه عوامل جذب، لأن على الجانب الآخر هناك عوامل دفع تدفع هؤلاء الشباب إلى الانضمام لـ(داعش)، ومنها الجهل الديني، وضعف انتشار التعليم الديني في الدول الغربية، ومحاربة التعليم الديني والحط من شأنه وقدر القائمين عليه في الدول الشرقية، فضلاً عن شبه انعدام تناول موضوعات دينية بعينها في التعليم الديني، وكذلك من خلال وسائل الإعلام، وتلك هي الموضوعات الأساسية التي يعتمد عليها التنظيم في بناء دولته المزعومة، مثل مواضيع (الخلافة والإمامة والجهاد والجزية ومعاملة أهل الذمة والجواري والعبيد)، رغم أن هذه المواضيع جرى حذفها حتى من المناهج الدينية في التعليم الديني، بحجة أننا لسنا بحاجة لها الآن، لكنها أساسية في المنهج الداعشي».
وتضيف شاهين: «إذا كان (داعش) يلجأ إلى الغرب اليوم، فإن شباب الشرق المتعلم هو الذي سيسعى إلى (داعش) اليوم وغدًا، إذا لم نغير سياستنا في التعليم والتعامل، فلا بد من اتباع سياسة الاحتواء والتمكين للشباب والاستماع لهم، والأهم من الاستماع، العمل بأفكارهم وإشراكهم في نهضة أوطانهم بدلاً من سياسة التهميش والتخويف والتخوين لكل ناقد». ثم تستطرد: «لا بأس في تدريس هذه المواضيع وإدراجها ضمن المناهج الدراسية الدينية في التعليم الديني والمدني وبيان وجه الحق فيها، ولكن شرط أن يقوم على تدريسها ذوو الكفاءة من المتخصصين. وإذا كان (داعش) نظامًا هشًا وضعيفًا، فإنه يقوي نفسه بالعلم والعلماء، ويجعل لهم دورًا محوريا في بناء (الدولة) المزعومة التي يسعى إلى تكوينها، وإن لم نحصن شبابنا ونعلمهم تعليمًا دينيًا قويًا فلن تسرنا النتائج التي سنجني ثمرتها».

مطالب نفسية ودينية
وحول لماذا يلجأ المتعلمون لـ«داعش»، أوضحت الأكاديمية المصرية أن التنظيم يلبي لهم مطالب نفسية وعلمية لديهم قصور فيها، فهؤلاء وإن كان لديهم علم دنيوي ولديهم وظائف هامة، فإنهم يعانون من الجهل بالعلوم الدينية، وهي المدخل الذي يستغله «داعش» في التأثير عليهم، وتمثل أهم عوامل الجذب للتنظيم، ومن خلال المعلومات الدينية المحرفة والموجهة لتحقيق مصالح وأهداف «داعش» يستطيعون أن يؤثروا على هؤلاء، وبالتالي يجدون ضالتهم المنشودة في العلم الديني والعمل به، حسب توجيهات معلميهم.

احتواء ديني واجتماعي واقتصادي
من جانبه، بقول الدكتور محمود الصاوي، وكيل كلية الدعوة بالعاصمة المصرية القاهرة، إن «ما جاء في تقرير البنك الدولي يقودنا لموضوع الاحتواء الذي أشار إليه التقرير بأنواعه الثلاثة؛ الديني والاقتصادي والاجتماعي، فقضية الاحتواء، بالغة الأهمية في كل الأحوال، سواء كان الاحتواء أسريًا، وهو أن تحيط الأسرة الأبناء بعنايتها واهتمامها، وأن تحافظ على عقولهم كما تحافظ على أبدانهم، وأن تنمي مختلف جوانب شخصياتهم لترتقي بهم نحو الكمال، ويقتصر البعض على الاحتواء المادي فقط، وهذا أحد مصادر الخطر على شباب العصر، فالاحتواء المعنوي أشد أثرًا من الاحتواء المادي الذي يقتصر على تلبية الحاجات المادية فقط، بينما المعنوي يشمل الصبر على الشاب أو الفتاة واستيعاب عيوبهم وتربيتهم على قبول الآخر بكل ما فيه من محاسن ومساوئ».
ويتابع الصاوي: «أما الاحتواء الديني يكون عن طريق تجديد الخطاب الديني ليواكب أحداث العصر ومشكلاته، ويجيب على تساؤلات شبابه ولا ينفصل عنهم ولا يتركهم فريسة لتيارات ومذاهب وأفكار غالية ومتشددة أو متسيبة تلعب بعقولهم وتدغدغ مشاعرهم، وأن يجدد الخطاب الديني من آلياته ووسائله ويخرج من جدران المساجد إلى ساحات النوادي ومراكز الشباب وكل المواقع والمنتديات بلغة جذابة وأفق واسع مستنير».

مزاعم «الخلافة»
أما الدكتور علي محمد، وهو أستاذ جامعي مصري، فيرى أن «(داعش) يخدع هذه الفئة للانضمام إليه بحجة إرساء الشريعة وتطبيقها، وأن البيعة منعقدة لهذا التنظيم دون غيره، ولا شك أن هذا يؤدي إلى إيهام أغلب المثقفين والمتعلمين بوهم إقامة (الخلافة) – المزعومة -، ويقومون ببث هذه الفتنة عبر وسائل التواصل (فيسبوك) و(تويتر) وغيرها». ويردف: «ذلك يجعل أفراد هذا التنظيم يتعرفون على المثقفين والمتعلمين من هذه المواقع التي تكون رواجًا لهم بسهولة ويسر، وهي أدعى في التفاعل من غيرها، وهناك أشخاص لديهم مهارات التواصل يتم تجنيدهم عن طريق هذه الغاية الكاذبة، بل يضعون لهم بوقًا من الكذب، فيقولون إننا نحارب تحت راية (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، وللأسف تجد تجاوبًا غير عادي لهذه الشعارات الكاذبة، منها وهم إقامة (الخلافة)، وأيضًا الاستشهاد في سبيل الله، والعمل قضاة شرعيين، وأيضًا بعض الشباب يريد خوض التجربة، وكذا صرخات ونعرات التنظيم الكاذبة بتحرير المسجد الأقصى». ويوضح محمد أن سبب استقطاب هؤلاء أيضًا هو «العمل على استغلالهم فيما يتعلق بالتقنيات الحديثة، واختراق كثير من مواقع الحكومات الاستخباراتية، والعمل على ترجمة كثير من المقالات والكتب التي تصدر عن التنظيم، والتي ترد عليه بعدة لغات». ثم يستطرد: «قد يكون هذا الصنف من المتعلمين سببًا رئيسيًا في ضرب هذا التنظيم، وذلك لأن التنظيم الداعشي لا يبالي بمن ينضم إلى صفوفه، فلا يبحث عن هوية ولا عن جنس ولا بلد، فقد جمع (داعش) بين مقاتليه أصنافًا، منهم المتطرف ومنهم الأجنبي الذي لا يعلم عن الإسلام إلا اسمه فقط، ومنهم الباحث عن المال الهارب من السجون، وبذلك فإن هؤلاء الفرقاء تتبلور لديهم فكرة التطرف عن طريق الغلو الفكري والتطرف العقدي، فيكون أشد حالاً من حال (خوارج العصر).. ومن ثم فإن هذا الأمر قد يكون سببًا في زوال التنظيم».

مستويات التعليم
وفي السياق ذاته، تقول الأستاذة الجامعية الدكتورة عزة سيد، إن التنظيم «جمع بين شتات المراهقين من الأجانب وغيرهم. وهذا يدل على معطيات يمكن الاقتصار على بعضها أنه تنظيم مخترق من الداخل، وخصوصًا أن كثيرًا من الأجانب لا دخل لهم بمعرفة معتقد التنظيم من نحو إقامة (الخلافة) كما يدّعون أو محاربة غير المسلمين، بل هذا يدل على مدى ارتباط التنظيم الداعشي بالدول الغربية التي من شأنها تمزيق أوصال الدول العربية». وتزيد موضحة أن انضمام شباب لديه أموال كثيرة، وفقًا لتقرير البنك الدولي إلى «داعش»، «يدل على حرص هؤلاء الأجانب على الإنفاق للتخريب والعمل على إبادة المسلمين هناك، مما يدل على خيانة هذا التنظيم وإفساده، وبيان معتقد هؤلاء الفاسدين. وبالفعل هذا الأمر له أثر سلبي للقضاء على هذا التنظيم، خصوصًا أنهم انتهجوا سياسة التطرف والإرهاب، فقد يقتل بعضهم بعضًا من أجل الصدارة، وأيضًا من أجل الخلاف على أمور فيما بينهم، وقد ينشب الانشقاق كما حدث آنفًا مع تنظيم القاعدة الذي من رحمه خرج (داعش)».

الإرهاب والتعليم
أخيرًا، يقول الدكتور الصاوي وكيل كلية الدعوة بالقاهرة، في سياق التعليق على نسب التعليم في صفوف «داعش»: «يجب أن نتحدث عن مسألتين؛ الأولى (العلاقة بين الإرهاب والتعليم)، والثانية (العلاقة بين الإرهاب والفقر)، أما عن المسألة الأولى، فالحقيقة والواقع أنه ليس ثمة ارتباط بين مستوى التعليم والانضمام إلى صفوف هذه التيارات، خصوصًا (داعش). بل بالنظرة المجردة نجد أن منهم المهندسين والأطباء والمحامين ورجال القانون، ولعل وجود أسامة بن لادن وأيمن الظواهري مثلاً على رأس تنظيم القاعدة، الأول مهندس والثاني طبيب، ينسف هذه المقولة من أساسها أن هناك ارتباطًا بين الجهل وبين الإرهاب. لكنني أشير إلى أن معظم أعضاء هذه الجماعات ممن تلقوا تعليمًا مدنيًا لا علاقة له بالدراسات الشرعية من قريب ولا من بعيد. فالجرعات الدينية الموثقة والصحيحة التي حصلوا عليها في مدارسهم وجامعاتهم لا تسمن ولا تغني من جوع، بل إنها غير موجودة بالمرة في حالة الأجانب القادمين من خارج العالم الإسلامي أو إنها موجودة بنكهة استشراقية، وبذلك فهم لم يتلقوا معلومات صحيحة ومعتمدة عن الإسلام، فكانوا فريسة سهلة لهذه الجماعات الإرهابية التي أشعلت حماستهم وألهبت عواطفهم بمعلومات مغلوطة ومشوهة»، مشيرًا إلى أن ذلك أوجد «حالة من الهشاشة المفرطة في الثقافة الدينية لدى هؤلاء الشباب نتيجة لعدم تحصنهم بالثقافة الإسلامية الصحيحة، وها هي الأمة تدفع الثمن من فلذات أكبادها، الذين تلقفتهم هذه الجماعات مستغلة جهلهم الديني وعدم تحصينهم وضعف مناعتهم الدينية، فكانوا فريسة سهلة لتلك للجماعات. أما عن المسألة الثانية وهي (الإرهاب والفقر)، فإن الجهة منفكة بين الاثنين، وليست العلاقة بينهما حتمية وضرورية، فليس كل فقير إرهابيًا وليس كل غني مستقيمًا، فإن كان للفقر ثقافته فإن للغنى ثقافته كذلك، والإسلام يعلن الحرب على الفقر ويعتبره شرًا يستعيذ المسلم منه، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم (اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر)، لكنه يربي المسلم في ذات الوقت على ألا يستسلم لواقعه، وأن يبذل أسبابه في الانتقال من حال الفقر وإزالة أسبابه، والسعي في الأرض لتحصيل أسباب الرزق والمعاش».



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟