لماذا يذهب الجامعيون إلى ساحات القتال تحت راية «داعش»؟

ارتباط التطرف بالجهل يسقط تحت أقدام مقاتليه

جامعيون من الأجانب  استهوتهم شعارات {داعش} فانضموا إليه ({الشرق الأوسط})
جامعيون من الأجانب استهوتهم شعارات {داعش} فانضموا إليه ({الشرق الأوسط})
TT

لماذا يذهب الجامعيون إلى ساحات القتال تحت راية «داعش»؟

جامعيون من الأجانب  استهوتهم شعارات {داعش} فانضموا إليه ({الشرق الأوسط})
جامعيون من الأجانب استهوتهم شعارات {داعش} فانضموا إليه ({الشرق الأوسط})

استندت دراسة البنك الدولي، المعدة أخيرًا، التي بينت أن الأجانب الذين يلتحقون بصفوف «داعش» على مستوى تعليمي أعلى من المتوقع، إلى بيانات داخلية للتنظيم المتطرف جرى تسريبها لـ3803 من عناصره.
ويشار إلى أن الدراسة التي أعدتها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في البنك الدولي، تستند فيما خص الشق المتعلق بالمتطرفين الأجانب إلى استمارات انضمامهم إلى التنظيم المتطرف، التي تتضمن بيانات عن بلد الإقامة والجنسية والمستوى التعليمي والخبرات السابقة في العمل القتالي والإلمام بالشريعة.
ومن ناحية ثانية، تفيد دراسة البنك الدولي بأن «داعش» لم يجند مقاتليه الأجانب من الطبقات الفقيرة أو الأقل تعليمًا، بل على العكس هناك ما يشير إلى أن الافتقار إلى الإدماج الاقتصادي لهؤلاء الأشخاص في بلادهم يفسر تفاقم التشدد، وتحوله إلى تطرف عنيف.
كذلك فإن معدّي الدراسة وعنوانها «العدالة الاجتماعية والاقتصادية لمنع التطرف العنيف»، أكدوا أن «داعش» لم يأت بمجنديه الأجانب من بين الفقراء والأقل تعليمًا، بل العكس هو الصحيح. إذ بحسب الدراسة، فإن غالبية المنضمين إلى التنظيم خلال عامي 2013 و2014 «يؤكدون أن مستواهم التعليمي هو المرحلة الثانوية، وقسم كبير منهم تابعوا دراستهم حتى الجامعة». وأظهرت بيانات الدراسة أن الأجانب الذين انضموا لـ«داعش»، 43.3 منهم مستواهم التعليمي هو المرحلة الثانوية، و24.5 في المائة هو المرحلة الجامعية، في حين أن 13.5 في المائة فقط يقتصر مستواهم التعليمي على المرحلة الابتدائية، وبلغت نسبة الأميين في صفوف التنظيم 1.3 في المائة فقط.
من ناحية أخرى، فتح «داعش» في شهر فبراير (شباط) عام 2016 مدرستين في مدينة الرقة السورية لتعليم «الجهاد» والعلوم الشرعية لأبناء وبنات المقاتلين الأجانب في صفوفه، لكن باللغة الإنجليزية، تماشيًا مع خصوصيتهم، إحداهما للذكور وحملت اسم «أبو مصعب الزرقاوي»، والمدرسة الثانية للإناث سميت بـ«مدرسة عائشة». وقال «ديوان التعليم» لدى «داعش» إن «المدارس الجديدة لتدريس الأطفال من عمر السنة السادسة وحتى الرابعة عشرة من أبناء المهاجرين الأجانب باللغة الإنجليزية». وكان التنظيم قد أنشأ أيضًا معهدًا لتدريب الأطفال على القتال وفق عدة مستويات تحت اسم «معهد الفاروق» لتدريس الأطفال أحكام الجهاد والشريعة، وقدر عدد الأطفال المنتسبين إليه بمائة طفل.
ومما يذكر هنا أن «داعش» كان قد فرض في مارس (آذار) عام 2015 التعليم الإلزامي في الأراضى الواقعة تحت سيطرته في سوريا، وقام بتوزيع تعهدات على أهالي الطلبة، لضمان التزامهم بإرسال أطفالهم إلى المدارس التي يديرها، بحسب مصادر حقوقية سورية. ونشر نشطاء نسخة من أوراق تتضمن تسجيل التلاميذ في مدارس «داعش»، وتعهد من ولي أمر التلميذ بإرساله إلى هذه المدارس وإلزامه بالدوام ومتابعته، وجاء في نص التعهد: «أتعهد بإذن الله بإرسال ابني إلى المدرسة ومتابعة دوامه، وفي حال عدم تنفيذ هذا الأمر أتحمل المسؤولية الكاملة».

أهداف «داعش»
الدكتورة إلهام شاهين، أستاذ العقيدة والفلسفة في مصر، ترى أن «داعش» يلجأ للمتعلمين، لأنه يعتمد على الدراسات المسبقة، ووضع الخطط المنهجية في جذب العناصر التي تنضم إلى صفوفه، ويحدد ذلك أيضًا بناءً على أهداف يسعى إلى تحقيقها. وتلفت إلى أن التنظيم يسعى لتكوين دولة واسعة النطاق تعتمد على التكنولوجيا الحديثة في إدارتها، وبالتالي لن يتحقق ذلك إلا بالمستويات العلمية القوية، ومن ثم يدخل للسيطرة عليهم من النقص الذي يعانون منه والتفكك الأسري أو الرغبة في دور محوري في الحياة ودولة «الخلافة» (المزعومة)، أو الرغبة في التخلص من حياة سيئة واستبدال حياة أخرى بها في الدنيا أو الآخرة.. وكل هذا يلعب «داعش» على أوتاره بقوة.
ثم تقول شاهين: «لكن تنظيم داعش ليس وحده الذي لديه عوامل جذب، لأن على الجانب الآخر هناك عوامل دفع تدفع هؤلاء الشباب إلى الانضمام لـ(داعش)، ومنها الجهل الديني، وضعف انتشار التعليم الديني في الدول الغربية، ومحاربة التعليم الديني والحط من شأنه وقدر القائمين عليه في الدول الشرقية، فضلاً عن شبه انعدام تناول موضوعات دينية بعينها في التعليم الديني، وكذلك من خلال وسائل الإعلام، وتلك هي الموضوعات الأساسية التي يعتمد عليها التنظيم في بناء دولته المزعومة، مثل مواضيع (الخلافة والإمامة والجهاد والجزية ومعاملة أهل الذمة والجواري والعبيد)، رغم أن هذه المواضيع جرى حذفها حتى من المناهج الدينية في التعليم الديني، بحجة أننا لسنا بحاجة لها الآن، لكنها أساسية في المنهج الداعشي».
وتضيف شاهين: «إذا كان (داعش) يلجأ إلى الغرب اليوم، فإن شباب الشرق المتعلم هو الذي سيسعى إلى (داعش) اليوم وغدًا، إذا لم نغير سياستنا في التعليم والتعامل، فلا بد من اتباع سياسة الاحتواء والتمكين للشباب والاستماع لهم، والأهم من الاستماع، العمل بأفكارهم وإشراكهم في نهضة أوطانهم بدلاً من سياسة التهميش والتخويف والتخوين لكل ناقد». ثم تستطرد: «لا بأس في تدريس هذه المواضيع وإدراجها ضمن المناهج الدراسية الدينية في التعليم الديني والمدني وبيان وجه الحق فيها، ولكن شرط أن يقوم على تدريسها ذوو الكفاءة من المتخصصين. وإذا كان (داعش) نظامًا هشًا وضعيفًا، فإنه يقوي نفسه بالعلم والعلماء، ويجعل لهم دورًا محوريا في بناء (الدولة) المزعومة التي يسعى إلى تكوينها، وإن لم نحصن شبابنا ونعلمهم تعليمًا دينيًا قويًا فلن تسرنا النتائج التي سنجني ثمرتها».

مطالب نفسية ودينية
وحول لماذا يلجأ المتعلمون لـ«داعش»، أوضحت الأكاديمية المصرية أن التنظيم يلبي لهم مطالب نفسية وعلمية لديهم قصور فيها، فهؤلاء وإن كان لديهم علم دنيوي ولديهم وظائف هامة، فإنهم يعانون من الجهل بالعلوم الدينية، وهي المدخل الذي يستغله «داعش» في التأثير عليهم، وتمثل أهم عوامل الجذب للتنظيم، ومن خلال المعلومات الدينية المحرفة والموجهة لتحقيق مصالح وأهداف «داعش» يستطيعون أن يؤثروا على هؤلاء، وبالتالي يجدون ضالتهم المنشودة في العلم الديني والعمل به، حسب توجيهات معلميهم.

احتواء ديني واجتماعي واقتصادي
من جانبه، بقول الدكتور محمود الصاوي، وكيل كلية الدعوة بالعاصمة المصرية القاهرة، إن «ما جاء في تقرير البنك الدولي يقودنا لموضوع الاحتواء الذي أشار إليه التقرير بأنواعه الثلاثة؛ الديني والاقتصادي والاجتماعي، فقضية الاحتواء، بالغة الأهمية في كل الأحوال، سواء كان الاحتواء أسريًا، وهو أن تحيط الأسرة الأبناء بعنايتها واهتمامها، وأن تحافظ على عقولهم كما تحافظ على أبدانهم، وأن تنمي مختلف جوانب شخصياتهم لترتقي بهم نحو الكمال، ويقتصر البعض على الاحتواء المادي فقط، وهذا أحد مصادر الخطر على شباب العصر، فالاحتواء المعنوي أشد أثرًا من الاحتواء المادي الذي يقتصر على تلبية الحاجات المادية فقط، بينما المعنوي يشمل الصبر على الشاب أو الفتاة واستيعاب عيوبهم وتربيتهم على قبول الآخر بكل ما فيه من محاسن ومساوئ».
ويتابع الصاوي: «أما الاحتواء الديني يكون عن طريق تجديد الخطاب الديني ليواكب أحداث العصر ومشكلاته، ويجيب على تساؤلات شبابه ولا ينفصل عنهم ولا يتركهم فريسة لتيارات ومذاهب وأفكار غالية ومتشددة أو متسيبة تلعب بعقولهم وتدغدغ مشاعرهم، وأن يجدد الخطاب الديني من آلياته ووسائله ويخرج من جدران المساجد إلى ساحات النوادي ومراكز الشباب وكل المواقع والمنتديات بلغة جذابة وأفق واسع مستنير».

مزاعم «الخلافة»
أما الدكتور علي محمد، وهو أستاذ جامعي مصري، فيرى أن «(داعش) يخدع هذه الفئة للانضمام إليه بحجة إرساء الشريعة وتطبيقها، وأن البيعة منعقدة لهذا التنظيم دون غيره، ولا شك أن هذا يؤدي إلى إيهام أغلب المثقفين والمتعلمين بوهم إقامة (الخلافة) – المزعومة -، ويقومون ببث هذه الفتنة عبر وسائل التواصل (فيسبوك) و(تويتر) وغيرها». ويردف: «ذلك يجعل أفراد هذا التنظيم يتعرفون على المثقفين والمتعلمين من هذه المواقع التي تكون رواجًا لهم بسهولة ويسر، وهي أدعى في التفاعل من غيرها، وهناك أشخاص لديهم مهارات التواصل يتم تجنيدهم عن طريق هذه الغاية الكاذبة، بل يضعون لهم بوقًا من الكذب، فيقولون إننا نحارب تحت راية (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، وللأسف تجد تجاوبًا غير عادي لهذه الشعارات الكاذبة، منها وهم إقامة (الخلافة)، وأيضًا الاستشهاد في سبيل الله، والعمل قضاة شرعيين، وأيضًا بعض الشباب يريد خوض التجربة، وكذا صرخات ونعرات التنظيم الكاذبة بتحرير المسجد الأقصى». ويوضح محمد أن سبب استقطاب هؤلاء أيضًا هو «العمل على استغلالهم فيما يتعلق بالتقنيات الحديثة، واختراق كثير من مواقع الحكومات الاستخباراتية، والعمل على ترجمة كثير من المقالات والكتب التي تصدر عن التنظيم، والتي ترد عليه بعدة لغات». ثم يستطرد: «قد يكون هذا الصنف من المتعلمين سببًا رئيسيًا في ضرب هذا التنظيم، وذلك لأن التنظيم الداعشي لا يبالي بمن ينضم إلى صفوفه، فلا يبحث عن هوية ولا عن جنس ولا بلد، فقد جمع (داعش) بين مقاتليه أصنافًا، منهم المتطرف ومنهم الأجنبي الذي لا يعلم عن الإسلام إلا اسمه فقط، ومنهم الباحث عن المال الهارب من السجون، وبذلك فإن هؤلاء الفرقاء تتبلور لديهم فكرة التطرف عن طريق الغلو الفكري والتطرف العقدي، فيكون أشد حالاً من حال (خوارج العصر).. ومن ثم فإن هذا الأمر قد يكون سببًا في زوال التنظيم».

مستويات التعليم
وفي السياق ذاته، تقول الأستاذة الجامعية الدكتورة عزة سيد، إن التنظيم «جمع بين شتات المراهقين من الأجانب وغيرهم. وهذا يدل على معطيات يمكن الاقتصار على بعضها أنه تنظيم مخترق من الداخل، وخصوصًا أن كثيرًا من الأجانب لا دخل لهم بمعرفة معتقد التنظيم من نحو إقامة (الخلافة) كما يدّعون أو محاربة غير المسلمين، بل هذا يدل على مدى ارتباط التنظيم الداعشي بالدول الغربية التي من شأنها تمزيق أوصال الدول العربية». وتزيد موضحة أن انضمام شباب لديه أموال كثيرة، وفقًا لتقرير البنك الدولي إلى «داعش»، «يدل على حرص هؤلاء الأجانب على الإنفاق للتخريب والعمل على إبادة المسلمين هناك، مما يدل على خيانة هذا التنظيم وإفساده، وبيان معتقد هؤلاء الفاسدين. وبالفعل هذا الأمر له أثر سلبي للقضاء على هذا التنظيم، خصوصًا أنهم انتهجوا سياسة التطرف والإرهاب، فقد يقتل بعضهم بعضًا من أجل الصدارة، وأيضًا من أجل الخلاف على أمور فيما بينهم، وقد ينشب الانشقاق كما حدث آنفًا مع تنظيم القاعدة الذي من رحمه خرج (داعش)».

الإرهاب والتعليم
أخيرًا، يقول الدكتور الصاوي وكيل كلية الدعوة بالقاهرة، في سياق التعليق على نسب التعليم في صفوف «داعش»: «يجب أن نتحدث عن مسألتين؛ الأولى (العلاقة بين الإرهاب والتعليم)، والثانية (العلاقة بين الإرهاب والفقر)، أما عن المسألة الأولى، فالحقيقة والواقع أنه ليس ثمة ارتباط بين مستوى التعليم والانضمام إلى صفوف هذه التيارات، خصوصًا (داعش). بل بالنظرة المجردة نجد أن منهم المهندسين والأطباء والمحامين ورجال القانون، ولعل وجود أسامة بن لادن وأيمن الظواهري مثلاً على رأس تنظيم القاعدة، الأول مهندس والثاني طبيب، ينسف هذه المقولة من أساسها أن هناك ارتباطًا بين الجهل وبين الإرهاب. لكنني أشير إلى أن معظم أعضاء هذه الجماعات ممن تلقوا تعليمًا مدنيًا لا علاقة له بالدراسات الشرعية من قريب ولا من بعيد. فالجرعات الدينية الموثقة والصحيحة التي حصلوا عليها في مدارسهم وجامعاتهم لا تسمن ولا تغني من جوع، بل إنها غير موجودة بالمرة في حالة الأجانب القادمين من خارج العالم الإسلامي أو إنها موجودة بنكهة استشراقية، وبذلك فهم لم يتلقوا معلومات صحيحة ومعتمدة عن الإسلام، فكانوا فريسة سهلة لهذه الجماعات الإرهابية التي أشعلت حماستهم وألهبت عواطفهم بمعلومات مغلوطة ومشوهة»، مشيرًا إلى أن ذلك أوجد «حالة من الهشاشة المفرطة في الثقافة الدينية لدى هؤلاء الشباب نتيجة لعدم تحصنهم بالثقافة الإسلامية الصحيحة، وها هي الأمة تدفع الثمن من فلذات أكبادها، الذين تلقفتهم هذه الجماعات مستغلة جهلهم الديني وعدم تحصينهم وضعف مناعتهم الدينية، فكانوا فريسة سهلة لتلك للجماعات. أما عن المسألة الثانية وهي (الإرهاب والفقر)، فإن الجهة منفكة بين الاثنين، وليست العلاقة بينهما حتمية وضرورية، فليس كل فقير إرهابيًا وليس كل غني مستقيمًا، فإن كان للفقر ثقافته فإن للغنى ثقافته كذلك، والإسلام يعلن الحرب على الفقر ويعتبره شرًا يستعيذ المسلم منه، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم (اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر)، لكنه يربي المسلم في ذات الوقت على ألا يستسلم لواقعه، وأن يبذل أسبابه في الانتقال من حال الفقر وإزالة أسبابه، والسعي في الأرض لتحصيل أسباب الرزق والمعاش».



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.