من التاريخ: سليمان «القانوني».. والنهضة العثمانية

السلطان سليمان «القانوني»
السلطان سليمان «القانوني»
TT

من التاريخ: سليمان «القانوني».. والنهضة العثمانية

السلطان سليمان «القانوني»
السلطان سليمان «القانوني»

قاد السلطان سليم الأول عملية توسيع رقعة الدولة العثمانية في مطلع القرن السادس عشر الميلادي بالتركيز على ضم المشرق العربي ومصر وأجزاء من الساحل الليبي إلى دولته، وقزّم دور الدولة الصفوية الفارسية، كما تابعنا في الأسبوع الماضي. أضف إلى ذلك إلى أنه منح الدولة العثمانية الشرعية المطلوبة، بجعلها مركزًا للخلافة الإسلامية بعدما قضى على دولة المماليك في مصر والشام، عقب ادعائه أن آخر الخلفاء العباسيين تنازل له عن الخلافة، وهو ما منح الدولة العثمانية منذ ذلك التاريخ شكلاً مختلفًا، خصوصًا مع حكم الإمارات والدويلات الإسلامية التي تساقطت الواحدة تلو الأخرى. كذلك منحت «الخلافة» الدولة الجديدة صبغة الشرعية المرتبطة بكون السلطان - حسب الادعاء المشار إليه - خليفة الرسول عليه الصلاة والسلام. ولكن على الرغم من كل التوسع والثراء الناتج عن فتوح سليم الأول، فإن البلاط العثماني كان يعاني بشدة من أسلوب حكمه القاسي العنيف. ومن ثم، كان تاريخ وفاته في عام 1520 لحظة تطلع لبدء عهد جديد على أيدي ابنه سليمان الذي لُقب في كتب التاريخ بسليمان «القانوني» و«العظيم»، وغيرهما من الألقاب. وحقًا يعد سليمان باعث النهضة العثمانية، والسلطان الذي أعطى الدولة رونقها وإرثها الثقافي والسياسي والقانوني على حد سواء.
لقد لعب سليمان دورًا محوريًا في مساندة والده سليم للانقلاب على السلطان بايزيد الثاني، عندما كان حاكمًا لإحدى الولايات الشرقية، الأمر الذي جعله مقربًا لوالده بشكل كبير، ومن ثم لم تمثل عملية انتقال السلطة بعد ممات الأخير مشكلة كما كانت مع السلاطين العثمانيين من قبله، كذلك استبشرت الدولة العثمانية خيرًا على يديه وخلال حكمه الذي طال 46 سنة.
كان سليمان، عندما خلف أباه، شابًا دون الخامسة والعشرين، كما كان ورعًا حافظًا للقرآن، شاعرًا بالفطرة، شديد الولع بالعلوم والفلسفة والتاريخ والدين، يتكلّم خمس لغات بطلاقة، مما أسهم في تعزيز رؤيته، بخلاف السلاطين السابقين، من خلال خلق التوازن بين الفتوحات والإصلاحات. كذلك كان مما ساعده أن الدولة التي ورثها عن أبيه كانت مستقرة سياسيًا، لا تعاني من المشكلات التقليدية للعثمانيين، إضافة إلى أنها كانت ثريّة بفضل الفتوحات الممتدة على مدار القرنين الماضيين. وبناءً عليه، فإن الظروف كانت بالفعل مهيأة لبداية النهضة التي لاقت هوى داخليًا عند السلطان الطموح.
بدأ سليمان حكمه الممتد بعفو عام، فأخرج المظلومين من السجون، ورسخ سياسة التسامح السياسي في الدولة الجديدة. ولكن عندما انتشرت الدسائس والثورات والاضطرابات، كان حازمًا حاسمًا في القضاء عليها حفاظًا على ملكه، ولم تأخذه شفقة بهؤلاء، خصوصًا مع فيالق «الإنكشارية» التي كثيرًا ما كانت تثور في وجه السلطان بما لديها من قوة. مع هذا، لم يؤثر هذا الحزم على توجهه العام، بوصفه مصلحًا سياسيًا واجتماعيًا، خصوصا أنه أمّن مستشاريه وحاشيته على غير طابع والده، مما أتاح له الفرصة كاملة للاستفادة منهم كثيرًا في تحقيق أهدافه. وهنا، كان داعمه الأساسي في هذا الإطار هو صديق عمره إبراهيم باشا الذي كان عبدًا مسيحيًا صادقه سليمان منذ الصبا، وجعله كبير مستشاريه، ثم رئيس وزرائه. وكان دور إبراهيم باشا بارزًا في المساعدة على بداية تنظيم أحوال الدولة العثمانية لقرون تالية، ولا سيما أن سليمان اهتم بترسيخ مبدأ التسامح مع الرعايا غير المسلمين الذي وضعه السلاطين من قبله.
وقد حاول سليمان زرع الولاء للدولة لدى هؤلاء الرعايا، بدلاً من إرهابهم، خصوصا في ظل توسعها الجغرافي العظيم حتى باتت تضم قرابة عشرين عرقية مختلفة، وما يقرب من 15 مليون نسمة (وهو رقم كبير للغاية في هذا الزمن). وهنا، حرص السلطان على منح الرعايا غير المسلمين حقوقًا إضافية واسعة، شملت ضمن أمور أخرى التصعيد السياسي والاجتماعي، وتخفيف الجزية ووضع سقف لها، ووضع القوانين لضمان نوع من الحقوق والواجبات للأقنان في الإقطاعيات، مما فتح المجال أمام هجرة واسعة لهم إلى الأراضي العثمانية، ليتمتعوا بهذه الحقوق التي ما كانوا يجدونها في النظام الإقطاعي الأوروبي المتصلب.
ضمان الحريات الدينية - ولكن ليس من خلال قوة القانون - كان في حقيقة الأمر سمة تميزت بها دولة العثمانيين منذ البداية، عندما كان هذا وسيلة لجذب الولاء، وأضحت سياسة شبه ثابتة حتى مقدم سليمان الذي وضعها رسميًا في مدونته القانونية. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن أوروبا كانت تمر في ذلك الوقت بثورة للإصلاح الديني، وصراعات حادة بين الكاثوليك والبروتستانت، حتى أن التسامح فيها كان منعدمًا إلى منتصف القرن السابع عشر. وبالتالي، وفرت الدولة العثمانية في ذلك الوقت مثالاً جذابًا ليس فقط للأوروبيين، ولكن للإنسانية ككل، خصوصا في عهد سليمان «القانوني» الذي استفاد كثيرًا من قوننة التسامح الديني، فكفل له هذا التسامح مركز جذب لكثيرين من القيادات الفكرية والدينية التي عانت من الاضطهاد في زمن صعب للغاية، خصوصا اليهود بعد طردهم من إسبانيا في 1492 مع المسلمين.
عطفًا على ما سبق، اهتم سليمان بوضع «مدوّنة القانون الجديد» للدولة، التي تضمنت توحيد القوانين العثمانية التي أصدرها السلاطين التسعة السابقون له. إذ وضع قانونًا موحدًا متسامحًا متوازنًا إلى حد كبير لكل الرعايا، بما ضمن استقرارًا اجتماعيًا واسع النطاق في البلاد دون المساس بتطبيق ملحوظ للشريعة، إضافة إلى قانون عقوبات متوازن، مع الإبقاء على تطبيق الحدود في مجالات محددة. كذلك اعتمد السلطان اللوائح الخاصة بالتنظيم الإداري للدولة، وطبّق نوعًا من اللامركزية في إدارة الحكم في البلاد، مما ساعد على مزيد من التوسع والحقوق للأقاليم المختلفة. وأخيرًا لا آخرًا، كان من أهم إنجازاته «قانون الضرائب العثماني» الذي خلق وحدة ضريبية في شتى أنحاء الدولة، وساعد على توسع رقعة التجارة والصناعة والزراعة.
وعلى الصعيد العلمي، أولى سليمان «القانوني» اهتمامًا خاصًا لإصلاح التعليم في الدولة العثمانية، كونه كان يدرك تمامًا قيمة العلم والعلماء في تطوير الدولة، ووضعها في مصاف الدول الكبرى. ولعل تربيته العلمية والأدبية كان لها دورها الكبير في هذا التوجه، وبالفعل اهتم بشكل خاص بمدارس العلماء التي كانت تحت إشراف الأوقاف، حيث اهتم بالمناهج والأفكار الجديدة، خصوصًا التسامح، كما أنشأ المدارس المجانية لتعليم الرعية، إضافة إلى تطوير مراكز التعليم ورفعها لمصاف الجامعات.
وفي مجال العمران والعمارة، كان سليمان مولعًا بالمعمار الذي أخذ من وقته الكثير، فلقد اهتم ببعث نهضة معمارية في البلاد لم تشهدها من قبل، ولم تقتصر فقط على مدينة إسطنبول، بل امتدت لبعض مدن الشام والقدس والعراق. واهتم أيضًا بتعليم المعمار والهندسة بصفة خاصة، وساعده على ذلك أشهر المعماريين المعروفين في ذلك العصر المعماري الشهير سنان (معمار سنان) الذي صمم وشيد أحد أكبر الجوامع والمباني في مدينة إسطنبول الأثرية.
لقد طال حكم سليمان «القانوني» حتى عام 1566، ومات في أثناء إحدى معاركه. ويذكر التاريخ أنه في سنواته الأخيرة لم يكن بالحماس والإقبال نفسه على الحياة، كما كان في بداية عهده. وأغلب الظن أنه مات وهو يعاني اكتئابًا حادًا للغاية في آخر عمره، بعد موت زوجته وحبيبته روكسلان، المرأة التي حررها من العبودية، وأحبها فتزوجها، فملكت حياته إلى حين وفاتها عام 1558 بعدما أنجبت له أربعة أمراء. غير أنها، في المقابل، كانت أيضًا سببًا مباشرًا في الدسائس السياسية المحيطة به بعدما حاولت توريث الحكم لأحد أبنائها، وهو ما خلق فتنة داخل عائلته. وبالتالي، فإن مصدر سعادته في بداية عهده صارت مصدر تعاسته واكتئابه. وبعد وفاة روكسلان، انزوى سليمان، وفضل الوحدة والانعزال والتعبّد، تاركًا جزءًا من شؤون الحكم في أيدي البلاط ورجالاته.
واليوم، لمن يزور إسطنبول لا بد أن يقف معجبًا بمعالمها المعمارية، ومن أبرزها جامع السليمانية الذي يعد الأيقونة الأثرية الكبرى لهذا الرجل العظيم الذي كان يمثل بحق الوجه الثقافي والإصلاحي والفكري للدولة العثمانية، بعدما كانت معظم إنجازات السلاطين العثمانيين من قبله مرتكزة على الفتوحات والتوسع السياسي.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.