ريتشارد سينيت: التعاون بما هو تعاطف

تكمن قدرته في تأمل الموضوع من زاويته اللاإنسانيَّة بهدف تحسين شروط الوضع البشري

ريتشارد سينيت
ريتشارد سينيت
TT

ريتشارد سينيت: التعاون بما هو تعاطف

ريتشارد سينيت
ريتشارد سينيت

ولد الفيلسوف وعالم الاجتماع الأميركي ريتشارد سينيت Richard Sennett، في يناير (كانون الثاني) 1943 بشيكاغو. درس في جامعة هارفارد، وعُدَّ مؤرخًا وكاتبًا موسيقيًّا وناقدًا أدبيًّا. تقلَّد سينيت مُهمة التدريس في جامعة نيويورك، وكليَّة لندن للاقتصاد، وفي الجمعيَّة الملكيَّة للأدب. وهو عضو الأكاديميَّة الأميركيَّة للفنون والعلوم، وعضو الأكاديميَّة الأوروبيَّة. توجه إلى السُّوسيولوجيَّا بفضل حنة آرنت، التي أرشدتهُ في فصلها الدراسي، لمَّا كان طالبًا جامعيًّا، واشتغل على ميشيل فوكو، وأسس معهد نيويورك للإنسانيَّات، سنة 1975، الذي احتضنته جامعة نيويورك، وشغل منصب مديره إلى 1984. حصل سينيت على جوائز عدة منها، جائزة هيغل سنة 2006. وجائزة سبينوزا سنة 2010. وجائزة همنغواي سنة 2015، والجائزة الأوروبيَّة برسم السنة الحالية (2016).
اهتم سينيت، في وقت من حياته، بالحياة العماليَّة في الحواضر الأميركيَّة. وطور إشكالات الهندسة المعماريَّة والتمدن. وانتبه، فيما بعد، إلى تأثير المرونة الرأسماليَّة في العالم المعاصر، على علاقات الشغل ومجمل العلاقات الإنسانيَّة في الحياة. ووجه، كيساري، نقدًا لاذِعًا للرأسماليَّة في الكثير من أعماله الفكريَّة: «عمل دون نوعيَّة» (2000)؛ و«ثقافة الرأسماليَّة الجديدة» (2008)، و«حول السُّلطة» (1980)؛ و«تأثير العولمة على المدن»؛ و«تشكُل الشخصيَّة في عصر اللامساواة»؛ و«الاحترام في عالم غير نوعي: نتائج المُرونة على الإنسان» (2003)؛ و«معًا: الطقوس والمسرات وسياسات التعاون»، (2012)؛ و«استبداد الحميميَّة» (1979)؛ و«العائِلة ضد المدينة: الطبقات الوسطى في شيكاغو في العهد الصناعي ما بين 1972 – 1890» (نشر سنة 1980)؛ و«دراسة في الاحترام: كرامة الإنسان في عالم يسوده الظلم واللامساواة» (2003)، التي عالج فيها تحولات الرأسماليَّة، منذ العقد السادس من القرن الماضي إلى العقد الأول من الألفيَّة الجديدة؛ و«الظُلم الطبقي الفاحش والمخبوء»؛ و«ما تعرِفه اليد: ثقافة الحرفي»؛ وعالج في هذا الأخير، العلاقة بين النظريَّة والتطبيق، لما لها من أهميَّة لمهنة الحرفي في العالم المعاصر، حيث غذت التقنيَّة كل شيء، فهي تستحوذ على الناس، وتحيط بهم من كل جانب. بل تحولت فيه إلى أداة استبعاد خاصة، مع تطورات الرقمنة التي قللت من قدرة الناس على التوليف بين الفكرة والشيء، حيث يقول: «لقد غيَّرت تقنيَّة التواصل الحديثة مشهد التواصل بطريقة غير قابلة للرجعة» (في مواجهة التعصب، ترجمة حسن بحري، دار الساقي، 2016 ص 39)، ولهذا يشدِّدُ على أن في يد الحرفي تلتقي الفكرة بالتجسيد، أي أنه فنان يُتقِن الإبداع والصُنع: يصنع ما يشاء وفق مفكرته، ومقدراتِه اليدويَّة. هكذا تحول الحرفي، في نظر سينيت، إلى نموذج للمجتمع يتفوق على صانع البرمجيَّات والمُهندس والطبيب، أو الأب، أو الأم التي تعيل ابنها وتساعده على مشاق الحياة المعاصرة.
حاول ريتشارد سينيت، في تأمله لعمل الحرفي، أن يطور أفكارًا كثيرة حول الشغل والإنسان الصانع والمفكر، عكس ما نظَّرت له أستاذته حنة آرنت. وهو بذلك يقترب من البرغماتيين الأميركيين، من قبيل ويليام جيمس، وجون ديوي، وساندرس بيرس، وآخرين ممن اهتموا بالمسائِل الماديَّة والقضايا المعيشة والحيويَّة. ولهذا نجده يرصد في كتابه الجديد: «في مواجهة التعصب: التعاون من أجل البقاء»، تاريخ التعاون وأثره على الفرد، أي التعاون بما هو نوع من التعاطف فيما يشبه بحث الفيلسوفة إديث شتاين. وقد تناول في هذا الكتاب ثلاثة أسئلة جوهريَّة، تمثل كل واحدة جزءًا من أجزاء الكتاب الثلاثة، في صيغة منطقية واضحة وجليَّة: الأطروحة، نقيض الأطروحة، التركيب، مشحُونة بجدل نفي النَّفي، ويتعلق الأمر بـ: كيف يمكن صياغة التعاون؟ (موضوع الجزء الأول)؛ كيف يمكن للتعاون أن يعتريه الضعف؟ (الجزء الثاني)؛ كيف يمكن تقوية التعاون؟ (الجزء الثالث)؛ مستندًا في ذلك على منظور أنثروبولوجي وتاريخي وسياسي وسوسيولوجي.
يقول سينيت: «كانت فرضيتي بشأن التعاون، أننا لا نفهم دومًا ما يدور في قلوب وعقول الآخرين، الذين ينبغي علينا التعامل معهم» (345)، لأن مجال اهتمامِه كفيلسوف، في هذه الدراسة تركز «على مجال التجربة المشحُون والغامض، حيث تواجه المهارة والأهليَّة مقاومة شديدة، وخِلافًا مُعاندًا» (ص 11)، معتبرًا؛ كسوسيولوجي يساري صمد في وجه كل الضغوط التي تعرض لها في حياته ومساره ومواقفه؛ «أن الانتباه إلى الآخرين، على الأغلب، هو مسألة تعاطف Sympathy، والتعاطف يعني التماهي مع الآخر» (ص 34)، وهو التعريف الذي استخلصه من أعمال آدم سميث، الذي عرَّف التعاطف على أنه «سعيٌ» من قِبل شخص ما، لـ«وضع نفسه في حالة شخصٍ آخر، مُستحضِرًا ذاته، ظُروف مُعاناة يُكابِد بِها المعاني بكل تفاصيلها... في أصغر حوادثها» (34)، بحيث ينبغي للشخص أن يرى نفسه في الآخرين، ليس كآخر، بل أن يعيش «الحوادث الصغرى» التي يمكن، في الواقع، أن تختلف بشكل كبير عن تجربته الشخصيَّة المحددة، أي عن غيريَّة غير منظورة رهينة بأخلاقيَّة عاليَة.
يميز سينيت بين التعاطف والمُواساة. فالتعاطف يفضي إلى العِناق، في حين أن المُواساة تفضي إلى المواجهة. لذلك يقول: «يتغلب التعاطف على الفروق عبر تنقلات التماهي التخيلي، بينما تكون المُواساة بالإقبال على الآخر وفق شروطِه هو الخاصة. أعتقد أن عاطفة المُواساة أقوى من التعاطف، لأن عبارة (أشعر بألمِكم)، تضع التشديد على ما أشعر به أنا، وبالتالي تنشط أنا الشخصيَّة الخاصة، بينما المُواساة تمرينٌ أكثر تطلبًا، على الأقل في الإصغاء، حيث يكون على المستمع أن يقع خارج نفسه» (35). فللإصغاء - بما هو نشاط تأويلي يعمل بأفضل صورة عبر التركيز على خصوصيات ما يسمعه المرء، أي التركيز عن أدق التفاصيل التي يعتبرها الشخص المقابل مسلمًا بصحتها - دور هام في الشعور بالتعاطف والمواساة، لأنه «عبر الإصغاء الجيِّد، يُمكننا أن نشعر إما بالتعاطف أو المُواساة، وكلتاهما دافعان تعاونيَّان. التعاطف أكثر تهيُّجًا والمُواساة أكثر بُرودَة وأكثر تطلُّبًا، لكونِهما يتطلبان منَّا التركيز على خارج ذواتِنا» (38)، لذا يصعُب فلسفيًّا: «الفصل بين العقل والجسد، وبالطريقة نفسها، لا أؤمن أن التجربة الاجتماعيَّة منفصِلة عن الإحساس المادي» (277).
يدرك سينيت جيدًا، قيمة ودور التعاون في إنقاذ الأطفال الأكثر حِرمانًا وفقرًا من أمثالِه، أولئك العُظماء الذين نشأوا في أحزمة الفقر الأميركيَّة، الذين سَمحت لهم ظروف التعاون بتحسين وضعهم الاجتماعي. وهنا تكمن قدرته على تأمل موضوع التعاطف من زاوية محض إنسانيَّة، تهدف إلى تحسين شروط الوضع البشري، فالقدرة على التواصل، وفهم الغير، والإصغاء إلى الآخرين، يهدف إلى الإصلاح الجذري، المتمثل في الحاجة إلى إعادة تشكيل الفضاء والحياة الاجتماعيَّة بكل معانيها النبيلة: «لدينا ثلاث طرق للقيام بالإصلاح: جعل الشيء المعطُوب يبدو جدِيدًا، أو تحسِين أدائِه، أو تبدِيلُه بالكامِل. باللُّغة التقنيَّة، تتألف هذه الاستراتيجيَّات الثلاث، من الترمِيم Restoration، أو المُعالجَة Renediation أو إعادة التشكِيل Reconfiguration. الحالة الأولى تُملِيها الحالة الأصليَّة للشيء. والثانيَّة إدخَالُ أجزَاء أو قِطع أفضَل مع الاحتفاظ بالشكل القدِيم. والثالثة هي إعادة تخيُّل للشَّكل، واستخدام الشيء في سيَاق إصلاحِهِ... تقنيًّا: إن إعادة التشكيل هي شكل الإصلاح الأكثر راديكاليًّا» (ص 269).



مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يناقش «النقد الفلسفي» وتشكيل المستقبل

الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)
الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)
TT

مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يناقش «النقد الفلسفي» وتشكيل المستقبل

الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)
الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)

تحت عنوان «النقد الفلسفي» انطلقت صباح اليوم، فعاليات مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة بدورته الرابعة، الذي يقام بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة، وذلك بمقر بيت الفلسفة بالإمارة، برعاية الشيخ محمد بن حمد الشرقي، ولي عهد الفجيرة.

ومؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة، هو أول مؤتمر من نوعه في العالم العربي ويشارك فيه سنوياً نخبة من الفلاسفة البارزين من مختلف أنحاء العالم، ويحمل المؤتمر هذا العام عنوان «النقد الفلسفي».

وتهدف دورة هذا العام إلى دراسة مفهوم «النقد الفلسفي»، من خلال طرح مجموعة من التساؤلات والإشكاليات حوله، بدءاً من تعريف هذا النوع من النقد، وسبل تطبيقه في مجالات متنوعة مثل الفلسفة والأدب والعلوم.

ويتناول المؤتمر العلاقة بين النقد الفلسفي وواقعنا المعيش في عصر الثورة «التكنوإلكترونية»، وأثر هذا النقد في تطور الفكر المعاصر.

الدكتور عبد الله الغذامي (تصوير: ميرزا الخويلدي)

ويسعى المتحدثون من خلال هذا الحدث إلى تقديم رؤى نقدية بناءة جديدة حول دور الفلسفة في العصر الحديث ومناقشة مجموعة من الموضوعات المتنوعة، تشمل علاقة النقد الفلسفي بالتاريخ الفلسفي وتأثيره في النقد الأدبي والمعرفي والعلمي والتاريخي ومفاهيم مثل «نقد النقد» وتعليم التفكير النقدي، إلى جانب استكشاف جذور هذا النقد وربطه ببدايات التفلسف.

وتسعى دورة المؤتمر لهذا العام لأن تصبح منصة غنية للمفكرين والفلاسفة لتبادل الأفكار، وتوسيع آفاق النقاش، حول دور الفلسفة في تشكيل المستقبل.

ويأتي المؤتمر في ظل الاحتفال بـ«اليوم العالمي للفلسفة» الذي يصادف الخميس 21 نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام، والذي أعلن من قبل «اليونيسكو»، ويحتفل به كل ثالث يوم خميس من شهر نوفمبر، وتم الاحتفال به لأول مرة في 21 نوفمبر 2002.

أجندة المؤتمر

وعلى مدى ثلاثة أيام، تضم أجندة مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة؛ عدداً من الندوات والمحاضرات وجلسات الحوار؛ حيث افتتح اليوم بكلمة للدكتور أحمد البرقاوي، عميد بيت الفلسفة، وكلمة لأمين عام الاتحاد الدولي للجمعيات الفلسفية.

وتتضمن أجندة اليوم الأول 4 جلسات: ضمت «الجلسة الأولى» محاضرة للدكتور أحمد البرقاوي، بعنوان: «ماهيّة النّقد الفلسفيّ»، ومحاضرة للدكتور عبد الله الغذامي، بعنوان: «النقد الثقافي»، وترأس الجلسة الدكتور سليمان الهتلان.

كما ضمت الجلسة الثانية، محاضرة للدكتور فتحي التريكي، بعنوان: «النقد في الفلسفة الشريدة»، ومحاضرة للدكتور محمد محجوب، بعنوان: «ماذا يُمكنني أن أنقد؟»، ومحاضرة ثالثة للدكتور أحمد ماضي، بعنوان: «الفلسفة العربية المعاصرة: قراءة نقدية»، وترأس الجلسة الدكتور حسن حماد.

أمّا الجلسة الثالثة، فضمت محاضرة للدكتور مشهد العلّاف، بعنوان: «الإبستيمولوجيا ونقد المعرفة العلميّة»، ومحاضرة للدكتورة كريستينا بوساكوفا، بعنوان: «الخطاب النقدي لهاريس - نقد النقد»، ومحاضرة للدكتورة ستيلا فيلارميا، بعنوان: «فلسفة الولادة - محاولة نقدية»، وترأس الجلسة: الدكتور فيليب دورستيويتز.

كما تضم الجلسة الرابعة، محاضرة للدكتور علي الحسن، بعنوان: «نقد البنيوية للتاريخانيّة»، ومحاضرة للدكتور علي الكعبي، بعنوان: «تعليم الوعي النقدي»، ويرأس الجلسة: الدكتور أنور مغيث.

كما تضم أجندة اليوم الأول جلسات للنقاش وتوقيع كتاب «تجليات الفلسفة الكانطية في فكر نيتشه» للدكتور باسل الزين، وتوقيع كتاب «الفلسفة كما تتصورها اليونيسكو» للدكتور المهدي مستقيم.

الدكتور أحمد البرقاوي عميد بيت الفلسفة (تصوير: ميرزا الخويلدي)

ويتكون برنامج اليوم الثاني للمؤتمر (الجمعة 22 نوفمبر 2024) من ثلاث جلسات، تضم الجلسة الأولى محاضرة للدكتورة مريم الهاشمي، بعنوان: «الأساس الفلسفي للنقد الأدبيّ»، ومحاضرة للدكتور سليمان الضاهر، بعنوان: «النقد وبداية التفلسف»، ويرأس الجلسة: الدكتورة دعاء خليل.

وتضم الجلسة الثانية، محاضرة للدكتور عبد الله المطيري، بعنوان: «الإنصات بوصفه شرطاً أوّلياً للنّقد»، ومحاضرة للدكتور عبد الله الجسمي، بعنوان: «النقد والسؤال»، ويرأس الجلسة الدكتور سليمان الضاهر.

وتضم الجلسة الثالثة، محاضرة الدكتور إدوين إيتييبو، بعنوان: «الخطاب الفلسفي العربي والأفريقي ودوره في تجاوز المركزية الأوروبية»، ومحاضرة الدكتور جيم إي أوناه، بعنوان: «الوعي الغربي بفلسفة ابن رشد - مدخل فيمونولوجي»، ويرأس الجلسة: الدكتور مشهد العلاف.

ويتكون برنامج اليوم الثالث والأخير للمؤتمر (السبت 23 نوفمبر 2024) من جلستين: تتناول الجلسة الأولى عرض نتائج دراسة حالة «أثر تعليم التفكير الفلسفي على طلاب الصف الخامس» تشارك فيها شيخة الشرقي، وداليا التونسي، والدكتور عماد الزهراني.

وتشهد الجلسة الثانية، اجتماع حلقة الفجيرة الفلسفية ورؤساء الجمعيات الفلسفية العربية.