ألفا فعالية ثقافية وأدبية يشهدها «أبوظبي الدولي للكتاب» 2025

«ثقافة الكاريبي» ضيف شرف... واحتفاء بـ«ابن سينا» وكتاب «ألف ليلة وليلة»

يعدّ «معرض أبوظبي الدولي للكتاب» أحد أبرز المعارض الثقافية في المنطقة والعالم العربي (وام)
يعدّ «معرض أبوظبي الدولي للكتاب» أحد أبرز المعارض الثقافية في المنطقة والعالم العربي (وام)
TT

ألفا فعالية ثقافية وأدبية يشهدها «أبوظبي الدولي للكتاب» 2025

يعدّ «معرض أبوظبي الدولي للكتاب» أحد أبرز المعارض الثقافية في المنطقة والعالم العربي (وام)
يعدّ «معرض أبوظبي الدولي للكتاب» أحد أبرز المعارض الثقافية في المنطقة والعالم العربي (وام)

تحت شعار «مجتمع المعرفة... معرفة المجتمع»، انطلقت السبت، فعاليات الدورة الـ34 من «معرض أبوظبي الدولي للكتاب»، أحد أبرز المعارض الثقافية في المنطقة والعالم العربي، وتستمر الفعاليات حتى 5 مايو (أيار) 2025، ويُنظِّم المعرض «مركز أبوظبي للغة العربية»، التابع لدائرة الثقافة والسياحة - أبوظبي.

مشاركون وفعاليات

وقال سعيد حمدان الطنيجي، المدير التنفيذي لـ«مركز أبوظبي للغة العربية» ومدير «معرض أبوظبي الدولي للكتاب»: «إن المعرض هذا العام يعكس تنوعاً استثنائياً؛ إذ يضم أكثر من ألفَي فعالية متنوعة، إلى جانب البرامج والأنشطة التي تقدمها المؤسسات والجهات المشارِكة»، مشيراً إلى أن الدورة الـ34 تشهد مشارَكة أكثر من 1400 عارض من 96 دولة، مع انضمام أكثر من 20 دولة جديدة.

وتحتفي الدورة الحالية من المعرض بالعالِم الموسوعي ابن سينا، شخصيةً محوريةً، تزامناً مع مرور ألف عام على إصدار كتابه «القانون في الطب»، الذي يُعَدُّ أحد أبرز الإسهامات العلمية العربية التي أثَّرت في تطوُّر الطب عالمياً. كما يحتفي المعرض بكتاب «ألف ليلة وليلة» بوصفه «كتاب العالم»، تقديراً لتأثيره العابر للثقافات والأزمان، وقدرته على إلهام الأدباء والفنانين حول العالم.

وأكد الطنيجي أن «المعرض يولي اهتماماً خاصاً بالناشر الإماراتي عبر تسليط الضوء على تجربته في مجال صناعة النشر، إلى جانب تعزيز البرامج المشتركة للنشر والترجمة بين الناشرين العرب والعالميين»، موضحاً أن هذه المبادرات توفِّر فرصًة حقيقيةً للناشر الإماراتي لعرض محتواه وطموحاته، وتسهم في إبراز تقدم صناعة النشر في دولة الإمارات وتوسيع آفاق التعاون مع الناشرين العالميين.

وقال: «إن المعرض يوفر أيضاً مساحةً كبيرةً للكتاب الإلكتروني والتقني؛ ما يتيح للجمهور الاطلاع على أحدث تطورات تقنيات صناعة النشر العالمية»، مشيراً إلى «ركن الفنون» الذي يعدُّ من الأركان المميزة، ويعرض تجارب إبداعية في مجال صناعة الكتاب.

وأردف أن «مجلس الشعر» يُقدِّم هذا العام تجربةً متميزةً تشمل الشعر الشعبي والفصيح، بالإضافة إلى الدراسات والتجارب الأدبية التي تسلِّط الضوء على الحركة الشعرية المحلية والعربية.

تحل ثقافة دول الكاريبي ضيف شرف على الدورة الـ34 لـ«معرض أبوظبي الدولي للكتاب» (معرض أبوظبي الدولي للكتاب)

ثقافة الكاريبي

وتحلُّ «ثقافة الكاريبي» (ضيف شرف) على دورة هذا العام، مما يؤدي إلى تعزيز الشراكات الثقافية العالمية، وتقديم تجارب معرفية غنية تُسهم في تعميق التبادل المعرفي بين الشعوب.

ويسلط المعرض الضوء على «ثقافة الكاريبي»، التي تمثل فسيفساء ثقافية تجمع بين التأثيرات الأفريقية، والأوروبية، والآسيوية، لتُشكِّل هويةً أدبيةً وإنسانيةً فريدةً من الشعر والموسيقى إلى الرواية والفكر. ويفتح المعرض نافذةً على عوالم الكاريبي الملهمة، ويتيح فرصةً للتقاطع الثقافي، واكتشاف صوت أدبي ممتدّ من الجزر إلى العالم.

وقال الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»: «تمتلك دول الكاريبي واحدة من أكثر الثقافات تنوعاً في العالم؛ إذ تَشكَّلت عبر قرون من التفاعل بين باقة مختلفة من الروافد، ما جعلها حالةً ثقافيةً متفرّدةً وذات خصوصية لافتة نسعد أن تكون حاضرةً في معرض أبوظبي الدولي للكتاب».

وأضاف: «تتميز الثقافة الكاريبية بقدرتها على التكيُّف والابتكار؛ إذ حافظت على خصوصيتها على الرغم من التأثيرات الخارجية، ونجحت في تقديم تراثها بقوالب حديثة وعالمية؛ ما ضمن استمرارها وحضورها، وقد امتازت إسهاماتها الأدبية بعناوين عريضة تتماس مع أبرز القضايا الإنسانية، وتُشكِّل استضافتها في المعرض فرصةً مواتيةً لفتح آفاق التعاون في مجال الصناعات الإبداعية، ومد جسور التواصل بين اللغة العربية والثقافات المختلفة، بما يعكس قيم التواصل مع الآخر، والتآخي بين الشعوب».

ومن الفعاليات التي تحتفي بضيف الشرف، جلسة ضمن البرنامج الثقافي تستضيف الكاتب الجامايكي كوامي ماك فيرسون، يتناول فيها الأدب الكاريبي، وأهم ملامحه، وتأثيره على الأدب العالمي، بينما خَصَّص برنامج «مجلس ليالي الشعر» جلسةً لقراءة مختارات من قصائد أهم شعراء الكاريبي، إلى جانب فعاليات تسلط الضوء على أدب المنطقة وفنونها وموسيقاها بمشارَكة أدباء ومؤلفين وناشرين وسفراء من دول الكاريبي لإثراء الحوار، كما ستتم الإضاءة على المطبخ الكاريبي الغني بالنكهات الأفريقية والهندية والأوروبية.

تشارك السعودية في «معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2025» بجناح تشرف عليه هيئة الأدب والنشر والترجمة (الشرق الأوسط)

الجناح السعودي

وتشارِك السعودية في «معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2025»، بجناح تشرف عليه هيئة الأدب والنشر والترجمة، بمشارَكة عدد من الجهات، تضم دارة الملك عبد العزيز، ومكتبة الملك عبد العزيز العامة، وجامعة الأميرة نورة، ووزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد، ومجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، إضافة إلى جمعية النشر.

كما يضم الجناح السعودي «كرسي اليونيسكو لترجمة الثقافات»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.

آفاق صناعة النشر

ويركز البرنامج المهني في المعرض على دعم العاملين في قطاع النشر وصناعة المحتوى، من خلال ورش عمل متخصصة وجلسات نقاشية تجمع خبراء ومهنيين لمشارَكة رؤاهم حول أحدث الاتجاهات في النشر، والتوزيع، والتسويق الإبداعي.

ويتضمَّن البرنامج باقةً متنوعةً من الأنشطة التدريبية، منها: ورش الكتابة، والترجمة، والبودكاست، وتقنيات الذكاء الاصطناعي، والنشر الرقمي، وتسويق الكتب، وصناعة السيناريو، إلى جانب ورش تعليمية تطبيقية تمنح المشاركين أدوات احترافية قابلة للتطبيق الفوري في أعمالهم. كما يتضمَّن جلسات حوارية تفاعلية مع خبراء صناعة النشر والمحتوى من مختلف دول العالم، ولقاءات مهنية لتبادل حقوق نشر، تهدف إلى دعم حركة الترجمة، والتبادل المعرفي عبر الحدود.

ويتفرَّد البرنامج في هذه الدورة من المعرض بفعاليات نوعية تُعقَد للمرة الأولى في المنطقة، أبرزها: «مؤتمر رقمنة الإبداع»، الذي يناقش دور التكنولوجيا الحديثة وتطبيقات الذكاء الاصطناعي في إعادة تشكيل المحتوى الثقافي. إلى جانب ندوات مهنية متخصصة، منها: «عصر الوكيل الأدبي»، و«سلطة الناشر»، و«النشر العربي والذكاء الاصطناعي».

يضم البرنامج المهني جلسات نقاشية تجمع خبراء ومهنيين تتناول أحدث الاتجاهات في النشر والتوزيع والتسويق الإبداعي (معرض أبوظبي الدولي للكتاب)

الوكيل الأدبي

وضمن أولى الجلسات المهنية التي شهدها المعرض أُقيمت جلسة بعنوان: «عصر الوكيل الأدبي»، شارك فيها كلٌ من: سارة الحكمي وكيلة أدبية من السعودية، والكاتب الإماراتي مانع المعيني، مؤسس ووكيل أدبي لـ«وكالة كتاتيب» الأدبية، وباسم الخشن، رئيس ووكيل أدبي لـ«وكالة بيرز فاكتور»، بينما أدارت الجلسة الوكيلة الأدبية رولا البنّا.

واستهلت الحكمي المحاضرة بالتعريف بمسيرتها التي انطلقت في عام 2024 ضمن وكالة تختص بأدب الخيال، وبيع وشراء حقوق ترجمة الكتب، وقالت: «ليس سهلاً أن تكون وكيلاً أدبياً، إذ تواجهك تحديات عدة، منها التعامل مع المؤلف المبتدئ الذي لديه طموحات كبيرة، في حين يكون الأمر أكثر واقعية مع الكاتب المحترف».

من جهته، أوضح المعيني، بعض التحديات، ومن بينها أن «أصحاب بعض دور النشر يرون أن الوكيل الأدبي يأخذ دورهم ويحد علاقتهم مع الكاتب، إلى جانب تحدٍ آخر يرتبط بالعوائد المالية من النشر، التي قد لا تتناسب مع توقعات المؤلفين العالية».

وقال الخشن إن التحديات التي تواجه الوكيل الأدبي تتجلى في أن «الناشر العربي تعوَّد على أن يبقى على صلة مع الكاتب، وعند ظهور الوكيل الأدبي تتوتر العلاقة ويشوبها الحذر في تعامل الناشر، ما يتطلب جهداً كبيراً لتوضيح دور الوكيل الأدبي».

مجلس ليالي الشعر

ويحتفي برنامج «مجلس ليالي الشعر»، بجماليات القصائد، ومنجزات مبدعيها، بمشارَكة أكثر من 60 شاعراً وباحثاً وإعلامياً، يلتقون الجمهور في 30 فعالية تتنوّع ما بين أمسيات شعرية، وجلسات حوارية تتطرَّق إلى فنون التراث الشعبي الأصيل، وعلاقة الشعر بالهوية الوطنية والمجتمع.

ومن ضمن البرنامج الشعري تُقام أمسية «يداً بيد»، التي يشارِك فيها الدكتور عبد الله بلحيف النعيمي، رئيس المجلس الاستشاري لإمارة الشارقة، ويديرها سعيد حمدان الطنيجي، المدير التنفيذي لـ«مركز أبوظبي للغة العربية»، يقدِّم خلالها الضيف مجموعةً من قصائده التي نسجت مفرداتها وصورها الشعرية من جمال اللغة والمشاعر والرؤى؛ فبالإضافة إلى مسيرة النعيمي المهنية، فإنه يُعرَف بشغفه بالأدب والشعر، ولديه مؤلفات أدبية عدة.

وخصص البرنامج، أمسيتين لأربعة شعراء حائزين لقب مسابقة «شاعر المليون»، وهم: عبيد اليليلي، وضاري البوقان، ومساعد بن طعساس الحارثي، ومحمد آل مدواي، يديرهما الإعلامي رافد الحارثي. كما يستضيف البرنامج أمسيةً لشاعرَين حائزَين لقب مسابقة «أمير الشعراء»، هما: عائشة السيفي، وعبد الرحمن الحميري، وتدير الأمسية الشاعرة لمياء الصقيل.

كما يقدِّم البرنامج نماذج من جماليات الشعر الكاريبي من خلال جلسةً يتحدَّث فيها الشاعر عادل خزام، كما تستضيف إحدى الجلسات أكاديميين من الهند، إلى جانب جلسات تتناول قضايا أدبية وثقافية وتراثية، من بينها: «الأغنية الوطنية»، و«نبض الشعر في ذاكرة الأمة»، و«أعلام الشعر الشعبي في الإمارات»، و«الموسوعة العلمية للشعر النبطي».

يشارك في برنامج «مجلس ليالي الشعر» أكثر من 60 شاعراً وباحثاً وإعلامياً في 30 فعالية تتنوّع ما بين أمسيات شعرية وجلسات حوارية (الشرق الأوسط)

بودكاست من أبوظبي

وتواصل النسخة الثالثة من برنامج «بودكاست من أبوظبي»، إحدى مبادرات «مركز أبوظبي للغة العربية»، تقديم الفعاليات الثقافية التي تُقام في المعرض ضمن برنامجه الثقافي، عبر استضافة أكثر من 50 متحدثاً من رواد المدونات الصوتية في العالم، ليقدموا نحو 50 عنواناً متنوعاً يعكس إبداعهم وتفردهم.

يسهم «بودكاست من أبوظبي» في تعزيز ثقافة الحوار، ونشر المعرفة بطريقة مبتكرة وملهمة؛ إذ يستضيف في المعرض، نخبةً من أشهر صُنَّاع المدونات الصوتية في العالم ممن يزيد إجمالي متابعي منصاتهم على 16 مليون شخص، مفسحاً المجال في الوقت نفسه للأصوات الجديدة عبر استضافة 21 صانع محتوى صوتي يشاركون في البرنامج للمرة الأولى.

ويستضيف المعرض هذا العام، المدونتين الصوتيَّتين «مايكس» من السعودية، و«البودكاسترز» من مصر، بالإضافة إلى كل من منصة «إدراك»، وبودكاست «ساندويتش ورقي»، ومنصة «سماوة»، وبودكاست «مجلس الشباب العربي»، وغيرها من المدونات الصوتية، لتُشكِّل توليفةً غنيةً تناقش مختلف نواحي الحياة.



أحمد الرحبي: الترجمة عرس فني بين لغتين

أحمد الرحبي: الترجمة عرس فني بين لغتين
TT

أحمد الرحبي: الترجمة عرس فني بين لغتين

أحمد الرحبي: الترجمة عرس فني بين لغتين

بين الترجمة والتأليف، تتشكل ملامح التجربة الأدبية للكاتب العماني أحمد الرحبي، فحبه للترحال والسفر قاده لاكتشاف ثقافات وعوالم أخرى. وبدافع من هذا الحب أقام في روسيا، درس اللغة الروسية وآدابها في جامعة موسكو وحصل منها على الدكتوراه في الترجمة عام 2010... من أبرز ترجماته عن الروسية «الطفولة»، «بين الناس»، «جامعاتي»، «كيف تعلمت الكتابة » لمكسيم جوركي، «زواج الطاهية» لأنطون تشيخوف، «انتقام تشيك الرهيب» وهو مختارات قصصية لمجموعة من الأدباء الروس المعاصرين، «رحلة أخي أليكسي في يوتوبيا الفلاحين» لإكسندر تشايانوف. وعلى المستوى الإبداعي، صدرت له المجموعة القصصية «أقفال» وروايات «الوافد»، «أنا والجدة نينا»، و«بوصلة السراب». هنا حوار معه حول هذه الرحلة، وقضايا الترجمة وهموم الكتابة.

غلاف الكتاب

> كيف بدأت علاقتك باللغة الروسية؟

- بمحض المصادفة، في البداية كنت مهتماً بدراسة اللغة الفرنسية التي تابعتها في عُمان ثم في فرنسا والمغرب ومصر، وتدرجتُ في تعلمها حتى بدأت في التمرن على الترجمة عنها، فتعلم لغة ما بالنسبة لي يعني بالضرورة الترجمة عنها. لكن المصادفة محكومة بظروفي المادية التي حتمت عليّ أن أدير دفتي عن فرنسا وتوجيهها إلى روسيا؛ ولو أن ريح المصادفات قادتني إلى الصين أو باكستان أو فنزويلا مثلاً، لكنت اليوم مترجماً من لغات هذه البلدان. كنت معلقاً بالسفر، وكانت الترجمة وغيرها من مشاريع الحياة وأحلامها محمولة على جناحي رغبتي الجامحة، بل المجنونة، بالسفر.

أتذكر حين كنت محلقاً أوّل مرّة على متن خطوط «آير فلوت» الروسية، طفت باللوحات الإرشادية الملصقة على مخارج الطائرة وتأملت الكلمات الروسية الطويلة جداً، فأصابني القلق والإحباط مما أنا مُقبلٌ عليه، وظننتني لن أبقى في موسكو طويلاً، وبأنها ستكون محطة أخرى من محطاتي المعتادة، ولكن ما حدث أن ربع قرن مضى وما زلت هنا.

> متى قررت خوض تجربة ترجمة الأدب الروسي إلى العربية... وهل انتويت الاحتراف أم الاكتفاء بروح الهاوي؟

- قررت ذلك عندما بدأت أتذوق اللغة الروسية مباشرة. كان عليّ أن أعمل لتأمين سبل معيشتي. الغريب أنني بدأت من الأصعب وقمت بترجمة الشعر. وقعت في يدي قصيدة للشاعر سيرغي يسينين لم تُترجم ولم تظهر في الترجمة البديعة التي وضعها الشاعر العراقي حسب الشيخ جعفر في مختاراته من الشعر الروسي.

لعلني تسرعت في التصدي للشعر من أول جولة، لكن الأدهى من ذلك أن القصيدة، وعنوانها «الرجل الأسود»، كانت مختلفة عن الشعر الغنائي الذي تميّز به يسينين «شحرور الريف الروسي» كما يوصف. كانت قصيدة معقدة، قاتمة، كتبها قبل أيام قليلة من انتحاره، وبث فيها هواجسه العميقة عن الموت، أو «الرجل الأسود»، الذي ظلّ يصارعه في القصيدة الطويلة نسبياً.

أعجبني صنيعي، فدبجت مقدمة وافية عن الشاعر وظروف كتابته لهذه القصيدة نُشرت في مجلة «نزوى». لست محترف ترجمة بمعنى العمل الدائم عليها. شغلي منصب على التأليف، بينما تأتي الترجمة استراحة بين عملين، وهي استراحة عميقة، تتداخل بالكتابة ويثري كل منهما الآخر.

> ما الذي أردت إضافته لجهود جيل الرواد في هذا السياق مثل د. أبو بكر يوسف وغيره ممن ساهموا في تقديم الإبداعات الروسية إلى العرب؟

- لم أكن في وارد التحاور مع الرعيل الذي سبقني وتجذر في الترجمة من الروسية. طبعاً قرأت مثل كثيرين غيري ترجمات الرواد العرب قبل انتقالي إلى روسيا، وفي موسكو تعرفت على بعضهم ومنهم المرحوم أبو بكر يوسف الذي أجريت معه لقاءً متلفزاً. وعندما ترجمت للكاتب أنطون تشيخوف، الذي عرفناه أساساً عبر ترجمات أبو بكر يوسف، اخترت ما لم يترجمه يوسف له أو غيره من المترجمين. في زمن الاتحاد السوفياتي كانت هناك تقاليد ومؤسسات ترعى الترجمة وتنظم جهود المترجمين العرب، أمّا أنا فوصلت موسكو عام 2000، أي بعد ضمور الحاضنة المؤسساتية للترجمة تماماً.

> هناك انتقاد تقليدي للمترجمين العرب عن الروسية بأنهم توقفوا عند حقبة الكلاسيكيات ولم يتجاوزا، إلا فيما ندر، جيل دستويفسكي وتولستوى إلى الأجيال التالية، كيف ترى هذا؟

- بعد الجيل الذهبي الذي ذكرتِه تُرجِمتْ الكثير من أعمال الجيل الذي يُعرف في المدونة الأدبية الروسية بـ«الجيل الفضي» مثل بولغاكوف وزمياتين وشولوخوف وباسترناك وسولجنتسين، ومن تبعهم مثل راسبوتين وآيتماتوف وغيرهما. لكن هذه الصيغة الرصينة من الترجمة توقفت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ودخول البلاد عالم السوق الحرّة. المترجمون لا يمكنهم إدارة مشروع قومي للترجمة، هي مسؤولية دول، حتى في الزمن الأموي ازدهرت الترجمة تحت مظلة الخلافة.

الحاصل أن مجرى الترجمة الذي كان مؤسساتياً في العهد السوفياتي، انتقل بعدها، وحتى اليوم، إلى عهدة دور النشر العربية. وبرغم ما تحققه هذه الدور من فائدة لصالح الترجمة من الروسية، فإنه لا يوجد ناظم لعملها، فجودتها في الدار الواحدة متقلبة ومتفاوتة وأحياناً كارثية. فيما يخصني فقد ترجمت قصصاً من الأدب الروسي الحديث نُشرت في الصحافة العربية، كما أصدرت كتاباً ضمّ مجموعة قصص روسية حديثة.

غلاف الكتاب

> الأدب الروسي الراهن، ما أبرز همومه وقضاياه وهل لا يزال يحمل شفرة العظمة التي اشتهرت بها أجيال الرواد؟

- الذرى الكلاسيكية التي سبق وأفرزها الأدب والموسيقى والفن التشكيلي والمسرح والسينما في روسيا لم تعد موجودة بالمستوى الذي يجعلها مؤثرة على الفنون العالمية كما كانت، لكن «شفرة العظمة» التي تتحدثين عنها لا تزال حية وموجودة هنا وهناك. كل الإبداعات والفنون القديمة لا تزال تتفاعل وتعيش ضمن جدليتها وأسئلتها الراهنة. ومثل كلّ مكان، لا تخلو الساحة هنا من التقليعات الرائجة لما يسمى بـ«روايات المراهقين» وما يرافقها من زخم إعلامي وطوابير لشرائها.

> كيف نرى جهود زوجتك البروفسور فكتوريا زاريِتوفسكيا في تقديم الأدب العربي إلى الطلاب الروس؟

- أقسام اللغة العربية ما زالت نابضة وتواصل بقدر المستطاع الحفاظ على حيويتها وصلاتها الثقافية بالمجال العربي. فيكتوريا بصفتها مترجمة وأستاذة اللغة العربية في الجامعة الروسية، تصدر على الدوام كتباً وكراسات منهجية لتدريس اللغة العربية كان آخرها كتاباً ضمّ أعمالاً لقاصين عربيين. تتأسف دائماً على قلّة إنتاجها في الترجمة فتعوض ذلك بتأليف المقالات والكتب التعليمية.

> من خلال متابعتك، ما هو حضور وتأثير الأدب العربي على الساحة الثقافية الروسية؟

- باستثناء أقسام اللغة العربية في الجامعات، لا نجد حضوراً للأدب العربي في روسيا، وفيما عدا القاموس، تخلو المكتبات تقريباً من الكتاب العربي المترجم. قمت ذات مرّة بإجراء تحقيق صحافي ميداني وسألت مرتادي قسم الآداب الأجنبية في مكتبة كبيرة بموسكو عن معرفتهم بنجيب محفوظ؛ وجدت أنهم يعرفونه لكنهم لا يقرأون له؛ لماذا؟ لأن كتبه غير موجودة.

هنا تترجم رواية عربية واحدة كل خمس سنوات. بالمقابل تقوم شركة «سامسونغ» الكورية منذ فترة بدعم وإدارة ضيعة تولستوي الشهيرة «ياسنايا بوليانا»، وهي قرية شاسعة يشقها نهر وفيها اصطبلات تولستوي ومتحفه الذي كان بيته وقبره وكل ما يخصه، كما تجرى فيها فعاليات ثقافية منها أهم مسابقة للترجمة في البلاد. اليوم يترجم الكوريون 50 كتاباً من لغتهم إلى الروسية في كل عام. باختصار العادة ما زالت نفسها: هناك من يعمل ويحقق ما يريد وهناك من يحلم ويجني الأصفار.

> هل عطلتك الترجمة عن استكمال مشروعك الأدبي؟

- لا، فحتى لو اقتطعت الترجمة وقتاً معتبراً من وقتي، فهي بالمقابل تمنحني فرصة ثمينة للخوض في أعماق النص الأجنبي وملامسة بطانته الداخلية وكامل خامته؛ فنقل الكلام من لغة إلى أخرى، عملية تفكيك وبناء مصحوبة بشتى أنواع الأصوات والإيقاعات والتراكيب. إنه عرس بين لغتين، عملية خلق جديد، وبصفتي كاتباً فهي عملية تخلّق كذلك.

> كيف أثرت الإقامة في روسيا على ملامح تجربتك الأدبية؟

- الحياة تجربة بينما الكتابة أثر. لا شكّ أن إقامة طويلة ومستمرة في المكان الأجنبي تترك بصمتها في سوية الشخص، أيّ شخص، فما بالك وأنه كاتب، مجبول بالفضول ومفتون بالأسئلة... مع ذلك فالعيش خارج البيئة الأم، برغم إملاءات هذه البيئة وقيودها، وما يقابله من شعور بالتخفف والانعتاق في الخارج، برغم كل هذا فإن الأمر لا يخلو من مخاطرة، وأحياناً مخاطرة جسيمة.

لقد شهدت كيف أغرت حرية الغربة هذه أقراني من الغرباء حتى أودتهم الهلاك. كما عرفت آخرين أفزعتهم الغربة فنكصوا على أعقابهم. إنها حرية غريبة، غير عادية، تذكرني بـ«الندّاهة» في الأسطورة المصرية. بالنسبة لي، لم يكن أمامي سوى المضي قدماً وعميقاً؛ فلا العودة كانت مستساغة، ولا الحالة المادية والنفسية سمحت بالسياحة والترفه؛ أمّا الأساس الذي بنيته ووقفت عليه، فترويض اللغة الروسية وتكوين أسرة تجذرني في المكان وثقافته.

> هل هذا هو السبب في أن «ثيمة» الاغتراب تهيمن على كثير من نصوصك، بشكل أو بآخر؟

- بينما كانت تجربة السفر تتطلب وقتاً وصبراً، كانت كتابتي تتجذر أيضاً وتتشرب من تجربتي. وجدتني مشدوداً إلى موضوع الاغتراب، لا بصفته حالة انفصال عن الأصل «الوطن»، بل كسؤال ملّح، مثله مثل سؤال الوطن نفسه، فضلاً عن أنه مختبر حيويّ للممارسة الفنية. اخترت لكتابتي منذ البداية مقاربة نفسية وفنية تراوح بين المُغترَب والوطن؛ حتى حين أكتب عن قرية عمانية صميمة، فإن نبرة «غريبة» تفلت بين السطور. شيء هنا يذكرني بهناك، وشيء من هناك يلوح لي هنا. ولكن الحنين الذي قد يرشح من كلامي هذا، يتعدى أن يكون حنيناً لمكان وزمان معينين، ليلامس الإنسان والإنسانية الغاربة؛ أو كما وصفه صديقي حمود سعود في مقال عن روايتي «بوصلة السراب» بأنه «حنين مستوحش».