هل تغير مفهوم الأدب في عصرنا.. أم «المهمش» يكسر «الجدار العازل»؟

بعد منح «نوبل» لصحافية ومغنٍ خلال عامين متتاليين

المغني وكاتب الأغاني بوب ديلان - الصحافية البلاروسية سفيتلانا ألكسيفيتش
المغني وكاتب الأغاني بوب ديلان - الصحافية البلاروسية سفيتلانا ألكسيفيتش
TT

هل تغير مفهوم الأدب في عصرنا.. أم «المهمش» يكسر «الجدار العازل»؟

المغني وكاتب الأغاني بوب ديلان - الصحافية البلاروسية سفيتلانا ألكسيفيتش
المغني وكاتب الأغاني بوب ديلان - الصحافية البلاروسية سفيتلانا ألكسيفيتش

باغت القائمون على جائزة نوبل للعام الثاني على التوالي، الأدباء المنتظرين إعلان اسم واحد منهم بفرع الجائزة الأدبي، فحسابات الأدباء لم تنطبق على حسابات أصحاب نوبل، وبحركة أشبه بالالتفافية فوجئ المهتمون بأن جائزة نوبل للآداب ذهبت إلى مغنٍ وكاتب كلمات أغانٍ هو بوب ديلان، وقبل ذلك في العالم السابق ذهبت الجائزة إلى صحافية تدعى سفيتلانا أليكسيفيتش. فهل كسرت «نوبل» الحواجز التي تسوّر مصطلح الأدب بصرامة، ووسعت آفاق مفهوم هذا المصطلح ليكون الأدب بمفهومها هو كل ما يمت إلى الإبداع الثقافي العام بصلة. وماذا لو تكرس هذا العرف، فقد يحصل عليها في الأعوام التالية فنان تشكيلي ربما أو نحات.. إذن لماذا لا تغير الجائزة اسمها بدلاً من «الآداب» إلى «الإبداع»، وتبقي على المصطلحات بتصنيفها العلمي؟
وكي لا يكون الرأي أحادي الجانب، طرحنا السؤال على مجموعة من المتخصصين في المجال الأدبي، فكانت هذه الحصيلة:
* الخالدي: أجناس أدبية مهمشة
من السعودية يقول الدكتور مبارك الخالدي، أستاذ الأدب الإنجليزي المساعد في جامعة الدمام «إن ما قامت به الأكاديمية السويدية لا يُعد توسعة لمفهوم الأدب، إنما توسيع فعلي، يرتكز إلى أساس من التفاتها واعترافها في الآن ذاته على (أجناس) أدبية كانت مهمشة».
يضيف: «لهذا لم يثر فوز بوب ديلان بالجائزة (أخيرًا) إلا استغراب عدد قليل من الأدباء أو قُرّاء الأدب مقارنة بعدد الأدباء والفنانين والمثقفين الذين رحبوا وفرحوا بفوز ديلان بالجائزة؛ ما يدل على اعتراف هؤلاء بشاعرية ديلان وأنهم سبقوا في ذلك الأكاديمية السويدية نفسها».
يكمل الدكتور الخالدي قائلاً: «من هذه الزاوية، يبدو اعتراف الأكاديمية السويدية وكأنه انعكاس وامتداد لاعترافٍ يتجاوز حتى حدود أوروبا ووطنه الولايات المتحدة ليشمل مساحة واسعة من العالم. لقد تابعت بسبب وجودي في لندن هذه الأيام التغطية الصحافية لاستقبال بعض الأدباء والمغنين وصناع الأفلام لخبر فوز ديلان. كانوا مبتهجين ومؤيدين للأكاديمية لاختيارها من يستحق الجائزة؛ من هؤلاء الشاعرة كيت تيمبست، والروائي الاسكوتلندي أندرو أوهاغان، والشاعر والروائي أندرو موشن، وصانع الأفلام جوناس ميكا، والمغني وكاتب الأغاني بيلي براغ وآخرون».
* الجعيدي: هدم «الجدار العازل»
أما الدكتور سعيد الجعيدي، أستاذ الأدب والنقد، بجامعة الباحة جنوبي السعودية، فقال «إن منح الأكاديمية الجائزة لديلان، وبالتأكيد يشمل هذا فوز سفيتلانا أليكسيفيتش بالجائزة في العام الماضي، يحاكي التفات واشتغال النقد الثقافي على الإنتاج الثقافي المهمش، الذي يشكل ما يسمى الثقافة الدنيا؛ ما يعني اشتراكها في مشروع هدم (الجدار العازل) بين الثقافتين العليا والدنيا. لم يعد الجدار قائمًا، أصبح أثرًا بعد عين، إلا في أذهان سدنة القديم».
ويضيف «مفهوم الأدب ظل راكدا قرونا عدة على الرغم من التطورات الهائلة والمعطيات الجديدة التي لحقت مفاهيم الوجود والكون والإنسان والإبداع المنجز، بما يشبه الثورة، ولا سيما منذ منتصف القرن العشرين؛ إلا أن الشعرية الأدبية لم تساير وتواكب ذلك بما يثري مفهومها ويوسع من أفقها. وإن كنا نلمس شيئا من ذلك عبر مزج الأجناس والأنواع الأدبية، وانفتاحها على الفنون والمعارف الأخرى ومنجزات التكنولوجيا الرقمية، في تفاعل لم تعرفه الحضارة الإنسانية من قبل. كل ذلك ولا شك يستدعي إعادة النظر في مفهوم الأدب.. ونحن الآن (طبقا لما بعد الحداثة) نعيش مفاهيم سائلة لم تتبلور بعد في قراءة نهائية. ومع ذلك كله يمكن القول بأن العملين الأخيرين الفائزين بـ«نوبل للآداب» يندرجان بشكل أو بآخر تحت مظلة مفاهيم الشعرية الأدبية. ففوز بوب ديلان مثلا، وكما جاء في معطيات لجنة الجائزة يعود لعلاقته بالأدب؛ فهو شاعر وكاتب سيرة ذاتية، امتاز شعره بخصائص جمالية بارزة وشكل إضافة في بابه، وهو مؤسس لأغاني الاحتجاجات، وله شعبية جارفة، إضافة إلى تراكم منجزه الشعري والموسيقي؛ والصلة بين الأدب والموسيقى والغناء صلة وثيقة وأزلية في كل الآداب الإنسانية. وعموما سيبقى سؤال (ما الأدب.. ؟!) مفتوحا دائما للمقاربة بانفتاحه على قضايا عصرنا ومنجزاته من نحو: الشفاهية والكتابية الإنسانية والإلكترونية، وصيرورة الأشكال الأدبية والفنية، والأدب والتكنولوجيا، وأدب العولمة والتفاعل والإثارة، وأدب من دون أدباء... ولعل الجائزة الأخيرة تسهم في إعادة تنشيط الجدل حول ذلك كله بما يثري مفاهيم الشعرية المعاصرة للممارسات الأدبية والفنية الجديدة والمستقبلية، مع الأخذ في الحسبان أن للجائزة مقاييسها واعتباراتها الخاصة التي يكتنفها الغموض أحيانا».
* الشمري: توسيع خصوصية الإبداع الأدبي
ويرى الروائي السعودي عبد الحفيظ الشمري أنه «رغم كون الجوائز نخبوية، ومحدودة، وتشوبها الكثير من الشوائب، لا سيما إذ استقصينا نشأتها وأسبابها، وتمكن بعض القوى منها؛ حتى باتت أداة من أدوات الاسترضاء أو التنفيع أو صهر التجربة وإحالتها إلى مجرد تهدئة في روع، أو رفع لمعنويات، أو إلى ما دون ذلك من الأنماط الاختزالية لها... أما وأن سلمنا بوجودها وجدواها فإن محاولة جائزة نوبل فيما يخص الأدب؛ تتجه إلى توسيع خصوصية الأدب والثقافة؛ لتجعل منها رؤية استنطاقية لمفهوم الثقافة والمعرفة التي تتقاطع مع الأدب بطريقة أو بأخرى؛ لكي لا ينحصر الأمر بالشعر والرواية، فيكون للجانب الإبداعي في الكتابة العامة رؤية ومنهج متميز يقبل عليه المجتمع ويرتضي به كمفهوم إنساني نبيل، بل وغير مقيد بنخبوية أو فئوية كشأن الأدب منذ نشأته إلى اليوم.
ويضيف: «خروج الجائزة في منحها لرواد العمل الإبداعي في فنون وثقافات مختلفة يسهل على المجتمع التفاعل مع الطروحات الإنسانية. ونحن نذكر على سبيل المثال أن من يحوزون جائزة الرواية قد يكونون غير معروفين للمجتمعات الأخرى، لكن حينما يحوزها الكاتب المسرحي وفرق التمثيل، وكتاب النصوص الشعرية التي تغنى بشكل فردي أو جماعي، وتنتشر في العالم فإن بعضا من أهداف هذه الجائزة قد يتحقق، وتعم الفائدة هذا الفن أو ذاك، ويمكن تقدير من يعملون فيه، ويفنون أعمارهم خدمة له.
* القاسمي: عودة الشكوك
أما الدكتور الشاذلي القاسمي، أستاذ تاريخ العلوم العربية في جامعة برشلونة بإسبانيا، فيذهب إلى أبعد من ذلك، ويلمح إلى العوامل السياسية، وهي تهمة طالما لحقت بـ«نوبل»، ولكن القاسمي يدخل إلى الموضوع بطريقة أخرى، فيقول «بادئ ذي بدء إن جائزة نوبل لم تعد بقدر الشكل والمضمون اللذين كانت عليهما في زمن ولى، حين كانت تعطى في حقل القصيدة والرواية والكتابة المسرحية، إلا أنها الآن أصبحت تعطى في مجال الصحافة والغناء من قبل الأكاديمية السويدية. ولا نعتقد أن ذلك يدخل في مجال توسيع المصطلح وإنما يدخل ضمن حسابات أخرى منها السياسة والآيديولوجية. ويضيف «إن الغناء والصحافة من الأدوات المتناولة لإيصال المعلومة بطريقة أسرع؛ لأن الصحافة والغناء لهما جمهور واسع، خصوصا ونحن في عصر العولمة على خلاف المسرح والأدب، وأظن أن ذلك ليس من باب توسيع الأدب المعاصر بقدر ما هو إيصال الهدف المنشود بسرعة لخدمة هدف معين وإن كان عبر الفن مثل الغناء؛ لأن الجودة لا تهم بقدر ما يهم التأثير وإيصال السهل والبسيط».
وكان أقصر جواب هو الذي أدلت به الدكتورة العمانية أمينة الحجرية، المدير العام المساعد لـ«الإيسيسكو»؛ إذ قالت لنا باختصار: بما أن الجائزة عالمية، وهي في الأساس نشأت للتشجيع على الإبداع؛ فمن وجهة نظري يجب فتح الآفاق ومجالات الإبداع وعدم حصرها على جوانب محددة وخاصة أنها عالمية.
* شوارب: أسباب غير مقنعة
بينما يذهب الأكاديمي والشاعر الدكتور السعيد شوارب، من مصر، إلى تحليل المصطلح فيرى أن مفهوم الأدب من الناحية العلمية هو كلام بليغ جميل يؤثر في المتلقي ويدفعه في الاتجاه الذي يريده الأديب. ولا يكون «أدبا» إلا إذا قام على العاطفة والخيال وسلامة اللغة الفصيحة. ويضيف «إن مفهوم الأدب يشمل الشعر الفصيح بأنواعه والنثر الفصيح بأنواعه. وأنا واحد ممن لا يُدخلون في الأدب إلا ما كان فصيح اللغة»؛ ويرمي الدكتور السعيد شوارب سهامه نحو كلمات الأغاني فيقول: بالتالي، فإن كل ما كتب في اللهجات رغم جودته أحيانا لا يمكن أن يدخل في المصطلح؛ لأن له اسما هو الزجل فيما يسمى بالأدب الشعبي. ومعلوم أن مجامع اللغة العربية لا تعترف بهذا الإنتاج حين يكون الحديث عن الأدب. ويكشف شوارب عن معلومة بقوله «نحن الآن في مجمع القاهرة نخرج معجما جديدا باسم (معجم لغة الشعر العربي) ولا ندخل فيه شعر العامية مهما بلغ من الجودة». ويختتم وجهة نظره بقوله: لا ندري على أي أساس منحت «جائزة نوبل في الأدب» لمغن أو مؤلف أغان؛ إلا إذا كان لدى اللجنة مفهوم مختلف لا ندري أساسه في المصطلح القديم.
* النجدي: فنون الأدب ليست مغلقة
الدكتور إيهاب النجدي، أستاذ الأدب العربي في الجامعة العربية المفتوحة بدولة الكويت، له رأي جدير بالتأمل، فيقول: حصول الشاعر بوب ديلان على جائزة نوبل لهذا العام كان مفاجئا؛ لشهرته بوصفه مغنيا، لكنه شاعر مهم وصاحب موقف سياسي قبل أن يكون مغنيا، بشهادة بعض نقاد الأدب، لكن الذي أثار الانتباه هو تأكيد لجنة «نوبل» في حيثيات الفوز على «أنه أبدع تعبيرات جديدة ضمن تقاليد الغناء الأميركي»، وهو ما يفتح باب التساؤل: ولماذا لم يفز بالجائزة مثلا شاعر عربي بحجم أحمد رامي الذي كان له دور كبير في تطور الكلمة المغناة عبر عقود طويلة؟
ويضيف «فنون الأدب ليست مغلقة بطبيعتها، فكم من فنون ولدت وأخرى انزوت لتغير حياة الناس وحاجاتهم النفسية، وتبدل الأذواق. وعلى سبيل المثال، أين الآن فنون أدبية قديمة مثل المفاخرات، والنقائض الشعرية؟ وأين الملاحم من الأدب الغربي الآن؟ وكانت القصة القصيرة والرواية، والمسرحية.. في مطالع القرن العشرين محل سجال حول قيمتها. نعم، دائرة الأدب تتسع لكل نص إبداعي، وإن جاء في صورة استطلاعات صحافية، أو أغان شعرية، وتبقى اللغة الإبداعية هي الفيصل. وإذا كانت الحدود بين الأنواع ليست صارمة، فإن التمييز بين الأنواع الأدبية يظل علامة تطور، وأؤيد «تـودروف» حين رأى أنه «لا يكون هناك أدب دون أجناس أدبية».
ويختتم النجدي رأيه بالقول: «جدارية الأدب والفن تتسع لكل تجريب، لكنها في الوقت ذاته، لا تُسمي الأشياء بغير أسمائها، ولا تسقط الفروق بين الأنواع، حتى لا تنماع الأشياء، وتصبح كل كلمات امتلأت بها واجهات النشر كتابة، وكل هذيان نصا، تقام لأجله منصات النقد، ومهرجانات الدعاية والجوائز».
* صالح: سخرية من الأدب
القاص المصري المقيم في الكويت شريف صالح، يقول «ربما نعتبر فوز سفيتلانا أليكسيفيتش توسيعًا لمفهوم الأدب بالالتفات إلى القيمة الأدبية في الكتابة الصحفية. لكن قياس (تفويز) ديلان عليها في غير محله؛ فالآداب تظل دائمًا مرتبطة بالكلمة وحدها، مهما تنوعت ما بين شعر ورواية ومسرحية وقصة.. أو نصوص عابرة للنوع.. أما الفنون التي تعتمد على (الكلمة) مضافًا إليها إبداعيات أدائية مختلفة مثل السينما والعروض المسرحية والغناء والكوميكس.. فهي تأخذنا إلى حقول أخرى خارج الأدب». ويضيف «لو رجعنا إلى تقاليد الجائزة نجدها ظلت مرتبطة بإبداع الكلمة فقط.. فما الذي سيتوسع تحديدًا في (الأدب) بمنحها لموسيقي؟ بالطبع هو فنان عظيم وله تأثير في الثقافة الشعبية ومتوج بالأوسكار و11 جائزة غرامي.. فلن تضيف (نوبل) أي شيء إليه.. وهو ما يفسر استخفافه وعدم الرد على إدارة الجائزة ولو بتصريح مقتضب.. ومنذ أن ظهر اسمه في الترشيحات قبل سنوات سئل عن ذلك فقال بأنه ليس أديبًا مثل هيمنغواي».
ويضيف صالح: «وكما علق أحد أصدقائه بالقول: أحب ديلان، ولكنه بلا أعمال أدبية، وأعتقد أن الأكاديمية السويدية وضعت نفسها محط سخرية العالم، وهذا الأمر مهين للكتاب.. فما حدث بالفعل ليس توسيعًا للأدب، بل إهانة لعشرات المشروعات الإبداعية الكبيرة.. في ظل ظروف مقعدة يعاني فيه الأدب في معظم دول العالم ويحتاج إلى جائزة مثل نوبل لا يحتاج إليها ديلان. إلا إذا أعادت الجائزة توصيف نفسها لتصبح جائزة نوبل في الآداب والفنون والثقافة الشعبية.. ساعتها يصبح جديرًا بها».



أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر
TT

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر، شارك فيها نحو 40 شاعراً ومجموعة من النقاد والباحثين، في الدورة التاسعة لمهرجان الشعر العربي، الذي يقيمه بيت الشعر بالأقصر، تحت رعاية الشيح سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، وبالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ودائرة الثقافة بالشارقة، وبحضور رئيسها الشاعر عبد الله العويس، ومحمد القصير مدير إدارة الشئون الثقافية بالدائرة.

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً، على طاولته التقت أشكال وأصوات شعرية مختلفة، فكان لافتاً أن يتجاور في الأمسيات الشعرية الشعر العمودي التقليدي مع شعر التفعيلة وقصيدة النثر وشعر العامية، وأن يتبارى الجميع بصيغ جمالية عدة، وتنويع تدفقها وطرائق تشكلها على مستويي الشكل والمضمون؛ إعلاء من قيمة الشعر بوصفه فن الحياة الأول وحارس ذاكرتها وروحها.

لقد ارتفع الشعر فوق التضاد، وحفظ لكل شكلٍ ما يميزه ويخصه، فتآلف المتلقي مع الإيقاع الصاخب والنبرة الخطابية المباشرة التي سادت أغلب قصائد الشعر العمودي، وفي الوقت نفسه كان ثمة تآلف مع حالة التوتر والقلق الوجودي التي سادت أيضاً أغلب قصائد شعر التفعيلة والنثر، وهو قلق مفتوح على الذات الشعرية، والتي تبدو بمثابة مرآة تنعكس عليها مشاعرها وانفعالاتها بالأشياء، ورؤيتها للعالم والواقع المعيش.

وحرص المهرجان على تقديم مجموعة من الشاعرات والشعراء الشباب، وأعطاهم مساحة رحبة في الحضور والمشاركة بجوار الشعراء المخضرمين، وكشف معظمهم عن موهبة مبشّرة وهمٍّ حقيقي بالشعر. وهو الهدف الذي أشار إليه رئيس المهرجان ومدير بيت الشعر بالأقصر، الشاعر حسين القباحي، في حفل الافتتاح، مؤكداً أن اكتشاف هؤلاء الشعراء يمثل أملاً وحلماً جميلاً، يأتي في صدارة استراتيجية بيت الشعر، وأن تقديمهم في المهرجان بمثابة تتويج لهذا الاكتشاف.

واستعرض القباحي حصاد الدورات الثماني السابقة للمهرجان، ما حققته وما واجهها من عثرات، وتحدّث عن الموقع الإلكتروني الجديد للبيت، مشيراً إلى أن الموقع جرى تحديثه وتطويره بشكل عملي، وأصبح من السهولة مطالعة كثير من الفعاليات والأنشطة المستمرة على مدار العام، مؤكداً أن الموقع في طرحه الحديث يُسهّل على المستخدمين الحصول على المعلومة المراد البحث عنها، ولا سيما فيما يتعلق بالأمسيات والنصوص الشعرية. وناشد القباحي الشعراء المشاركين في المهرجان بضرورة إرسال نصوصهم لتحميلها على الموقع، مشدداً على أن حضورهم سيثري الموقع ويشكل عتبة مهمة للحوار البنّاء.

وتحت عنوان «تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة»، جاءت الجلسة النقدية المصاحبة للمهرجان بمثابة مباراة شيقة في الدرس المنهجي للشعر والإطلالة عليه من زوايا ورؤى جمالية وفكرية متنوعة، بمشاركة أربعة من النقاد الأكاديميين هم: الدكتور حسين حمودة، والدكتورة كاميليا عبد الفتاح، والدكتور محمد سليم شوشة، والدكتورة نانسي إبراهيم، وأدارها الدكتور محمد النوبي. شهدت الجلسة تفاعلاً حياً من الحضور، برز في بعض التعليقات حول فكرة التلاقي نفسها، وشكل العلاقة التي تنتجها، وهل هي علاقة طارئة عابرة أم حوار ممتد، يلعب على جدلية (الاتصال / الانفصال) بمعناها الأدبي؛ اتصال السرد والمسرح والدراما وارتباطها بالشعر من جانب، كذلك الفن التشكيلي والسينما وإيقاع المشهد واللقطة، والموسيقي، وخاصة مع كثرة وسائط التعبير والمستجدّات المعاصرة التي طرأت على الكتابة الشعرية، ولا سيما في ظل التطور التكنولوجي الهائل، والذي أصبح يعزز قوة الذكاء الاصطناعي، ويهدد ذاتية الإبداع الأدبي والشعري من جانب آخر.

وأشارت الدكتورة نانسي إبراهيم إلى أن الدراما الشعرية تتعدى فكرة الحكاية التقليدية البسيطة، وأصبحت تتجه نحو الدراما المسرحية بكل عناصرها المستحدثة لتخاطب القارئ على مستويين بمزج جنسين أدبيين الشعر والمسرح، حيث تتخطى فكرة «المكان» بوصفه خلفية للأحداث، ليصبح جزءاً من الفعل الشعري، مضيفاً بُعداً وظيفياً ديناميكياً للنص الشعري.

وطرح الدكتور محمد شوشة، من خلال التفاعل مع نص للشاعر صلاح اللقاني، تصوراً حول الدوافع والمنابع الأولى لامتزاج الفنون الأدبية وتداخلها، محاولاً مقاربة سؤال مركزي عن تشكّل هذه الظاهرة ودوافعها ومحركاتها العميقة، مؤكداً أنها ترتبط بمراحل اللاوعي الأدبي، والعقل الباطن أكثر من كونها اختياراً أو قصداً لأسلوب فني، وحاول، من خلال الورقة التي أَعدَّها، مقاربة هذه الظاهرة في أبعادها النفسية وجذورها الذهنية، في إطار طرح المدرسة الإدراكية في النقد الأدبي، وتصوراتها عن جذور اللغة عند الإنسان وطريقة عمل الذهن، كما حاول الباحث أن يقدم استبصاراً أعمق بما يحدث في عملية الإبداع الشعري وما وراءها من إجراءات كامنة في الذهن البشري.

وركز الدكتور حسين حمودة، في مداخلته، على التمثيل بتجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ومن خلال هذا التمثيل، في قصائد درويش رأى أنها تعبّر عن ثلاثة أطوار مرّ بها شعره، مشيراً إلى أن ظاهرة «الأنواع الأدبية في الشعر» يمكن أن تتنوع على مستوى درجة حضورها، وعلى مستوى ملامحها الجمالية، عند شاعر واحد، عبر مراحل المسيرة التي قطعها، موضحاً: «مما يعني، ضِمناً، أن هذه الظاهرة قابلة لأن تتنوع وتتباين معالمها من شاعر لآخر، وربما من قصيدة لأخرى».

ورصدت الدكتورة كاميليا عبد الفتاح فكرة تلاقي الأجناس الأدبية تاريخياً، وأشارت، من خلال الاستعانة بسِجلّ تاريخ الأدب العربي، إلى أن حدوث ظاهرة التداخل بين الشعر وجنس القصة وقع منذ العصر الجاهلي، بما تشهد به المعلقات التي تميزت بثرائها الأسلوبي «في مجال السردية الشعرية». ولفتت إلى أن هذا التداخل طال القصيدة العربية المعاصرة في اتجاهيها الواقعي والحداثي، مبررة ذلك «بأن الشعراء وجدوا في البنية القصصية المساحة الكافية لاستيعاب خبراتهم الإنسانية». واستندت الدكتورة كاميليا، في مجال التطبيق، إلى إحدى قصائد الشاعر أمل دنقل، القائمة على تعدد الأصوات بين الذات الشعرية والجوقة، ما يشي بسردية الحكاية في بناء الحدث وتناميه شعرياً على مستويي المكان والزمان.

شهد المهرجان حفل توقيع ستة دواوين شعرية من إصدارات دائرة الثقافة في الشارقة للشعراء: أحمد عايد، ومصطفى جوهر، وشمس المولى، ومصطفى أبو هلال، وطارق محمود، ومحمد طايل، ولعب تنوع أمكنة انعقاد الندوات الشعرية دوراً مهماً في جذب الجمهور للشعر وإكسابه أرضاً جديدة، فعُقدت الندوات بكلية الفنون الجميلة في الأقصر، مصاحبة لافتتاح معرض تشكيلي حاشد بعنوان «خيوط الظل»، شارك فيه خمسون طالباً وطالبة. وكشف المعرض عن مواهب واعدة لكثيرين منهم، وكان لافتاً أيضاً اسم «الأصبوحة الشعرية» الذي أطلقه المهرجان على الندوات الشعرية التي تقام في الفترة الصباحية، ومنها ندوة بمزرعة ريفية شديدة البساطة والجمال، وجاءت أمسية حفل ختام المهرجان في أحضان معبد الأقصر وحضارة الأجداد، والتي امتزج فيها الشعر بالأغنيات الوطنية الراسخة، أداها بعذوبة وحماس كوكبة من المطربين والمطربات الشباب؛ تتويجاً لعرس شعري امتزجت فيه، على مدار أربعة أيام، محبة الشعر بمحبة الحياة.