قراءة في تطور خطط «داعش ليبيا»

ظهور تحالفات مع جماعات إرهابية أفريقية أخرى

تنظيم {داعش} أجبر على الانسحاب من مدينة درنة الليبية لكنهم استطاعوا السيطرة على مناطق أخرى في الهلال النفطي في الشهور الأخيرة (رويترز)
تنظيم {داعش} أجبر على الانسحاب من مدينة درنة الليبية لكنهم استطاعوا السيطرة على مناطق أخرى في الهلال النفطي في الشهور الأخيرة (رويترز)
TT

قراءة في تطور خطط «داعش ليبيا»

تنظيم {داعش} أجبر على الانسحاب من مدينة درنة الليبية لكنهم استطاعوا السيطرة على مناطق أخرى في الهلال النفطي في الشهور الأخيرة (رويترز)
تنظيم {داعش} أجبر على الانسحاب من مدينة درنة الليبية لكنهم استطاعوا السيطرة على مناطق أخرى في الهلال النفطي في الشهور الأخيرة (رويترز)

تشير دلائل كثيرة إلى تكثيف نشاط تنظيم داعش الإرهابي المتطرف في ليبيا، وانتقال عدد من قياداته ممن كانوا في السابق في العراق وسوريا إلى ليبيا. أحد أبرز التحذيرات فيما يخص نشاط تنظيم داعش كان تحذير الرئيس الأميركي باراك أوباما خلال اجتماع عقده في مقر «وكالة الاستخبارات المركزية» الأميركية (سي آي إيه) مع مستشاريه في مجال الأمن القومي في أبريل (نيسان) 2016. يومذاك أشار أوباما إلى حملة التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد «داعش» في كل من العراق وسوريا، وقال خلال الاجتماع إن التنظيم في «وضع دفاعي» بعدما تقلّصت رقعة الأراضي التي كان يسيطر عليها وضرب كبار قادته، وهو ما أدى إلى ارتفاع في عدد مقاتلي «داعش» المتجهين إلى ليبيا. واعتبر أن هذا الواقع يستلزم أهمية التركيز على محاربة «داعش» في ليبيا أيضًا خلال المرحلة المقبلة.

رسائل تبرز دور المقاتلين العرب
يظهر التوجّه الاستراتيجي لـ«داعش» في إنتاج رسائل إعلامية تستهدف إظهار التحول العسكري والتركيز على مناطق في ليبيا سيطر عليها التنظيم منها مدينة سرت، وانتقال عدد كبير من قادة «داعش» من جنسيات مختلفة - سواء كانوا في السابق في العراق أو سوريا - إلى ليبيا، أحد أبرزهم «أبو نبيل الأنباري» العراقي الجنسية الذي كان أميرًا لمحافظة صلاح الدين في العراق. كذلك انتقل إلى ليبيا «أبو البراء الأزدي»، وهو رجل دين متشدّد يمني الجنسية، إثر أوامر من زعيم التنظيم «أبو بكر البغدادي» بالانتقال هناك وتعيينه واليًا على ولاية برقة في شرق ليبيا.
وكجزء من الخطة الإعلامية ظهرت خطابات وتوجيهات من قادة ودعاة دين داعشيين بخصوص الانضمام إلى «داعش ليبيا». وبثت إذاعة سرت المحلية في فبراير (شباط) 2016، بعد تمكن «داعش» من السيطرة عليها خطبًا ودروسًا للقيادي تركي البنعلي، أحد أبرز قادة «داعش» الذي أسقطت عنه الجنسية البحرينية في يناير (كانون الثاني) 2013. ولقد دعا البنعلي الليبيين إلى ضرورة «الانقياد لأوامر الشرع بمبايعة خليفة المسلمين»، وحذّر من «الموت ميتة الجاهلية» في حال عدم انضوائهم تحت راية الخلافة «الداعشية». ومن جهة أخرى، انتقل أحد قادة التنظيم في ليبيا وهو السعودي «أبو علي الجزراوي» إلى صفوف التنظيم بسرت برفقة قادة آخرين، وقام بدعوة من أطلق عليهم لقب «إخوة التوحيد في الجزيرة العربية وتونس ومصر والسودان، وكل الغيورين على دين الله إلى النفير في سبيل الله».
وراهنًا، يواصل التنظيم المتطرف توظيف القتل والوحشية بهدف زرع الذعر في نفوس الآخرين. وكانت من أبشع الجرائم الفظيعة التي ارتكبها «داعش ليبيا» وعمل على نشر صورها، نحره 21 مصريًا من الأقباط العاملين في ليبيا بأسلوب وحشي، الغاية منه بث الذعر ونشر رسالة عالمية، خصوصًا أنه نشر مقطع لبث مرئي لعملية القتل باللغة الإنجليزية.
ومن ثم كثف «داعش» الرسائل التي تسلّط الضوء على دور العرب والأفارقة، وخصوصًا، من التونسيين في التنظيم، إما من باب بث الذعر للآخرين من وفرة وجود المتطرفين من جنسيات مختلفة من جهة، أو من أجل استقطاب هذه الجنسيات للانضمام إلى التنظيم من جهة أخرى. ومن أبرز طرق تسليط الضوء الرسائل عبر حسابات تابعة لما يُعرف بـ«ولاية برقة الليبية»، ونشر صور للقتلى منهم من أطلق عليهم «شهداء على ثرى برقة». وشاع ربط الكنية التي تم اختيارها بالدولة أو المنطقة التي ينتمي إليها، مما يدل على قوة الرسائل الإعلامية التي يستخدمها التنظيم ومحاولته إبراز دور المقاتلين العرب، وتنحصر الأعداد الأكبر ما بين تونس والسودان وأفارقة جنوب الصحراء، التي كثفت حضورها ومساندتها لتنظيم داعش ليبيا. من ناحية ثانية يحرص «داعش» على توجيه عدد من الرسائل التي تتوعد دولاً أخرى مجاورة كالتهديد بمهاجمة تونس من شمالها إلى جنوبها. ومن أبرز تلك التهديدات مقطع فيديو ظهر فيه الانتحاري «أبو طلحة التونسي» وهو يتحدث بانتشاء وبأسلوب غير متّزن، ويشير فيه إلى المتفجرات في السيارة، وتخطيطه للعملية الانتحارية في مدينة بنغازي الليبية، وفي الوقت نفسه يتوعّد فيه تونس «بالمجيء بالذبح والتفجير من برج الخضر إلى بنزرت».

التسلل وطفرة الإرهابيين العرب
وحول تونس، يلاحظ أنه برز دور المقاتلين التونسيين بشكل خاص في الآونة الأخيرة، سواء من خلال أعداد المنضمين إلى «داعش»، أو عبر منفذي العمليات العسكرية لهم، التي تتدرج بدءًا بعمليات انتحارية وصعودًا إلى مناصب قيادية في التنظيم. ويتعارض هذا مع الجهود التي تبذلها السلطات التونسية في منع تسلل المقاتلين المتطرفين عبر الحدود من وإلى تونس، إذ تواجه الحكومات صعوبة في السيطرة، بالأخص، في المناطق الحدودية. وهو الأمر الذي حدا بالسلطات التونسية إلى بناء جدار وخندق على امتداد الحدود مع ليبيا بارتفاع يصل إلى 170 كيلومترًا. وتبعت الجزائر أخيرًا النسق ذاته في بناء جدار عازل على حدودها مع ليبيا لحماية أراضيها من تسلل المقاتلين المتطرفين.
وللعلم، تعد حادثة تفجير سيارة مفخخة في أحد معسكرات تدريب خفر السواحل في مدينة زليتن الليبية في مطلع 2016، التي أدت إلى مقتل 70 شخصًا وإصابة مائة آخرين واكتشاف جنسية منفذها (أبو يقين التونسي)، سببًا ترافق مع ظهور أدلة وشواهد كثيرة على ازدياد عدد المقاتلين التونسيين في ليبيا، مما أدى إلى تصاعد المطالبات الليبية بترحيل التونسيين العاملين في ليبيا.
وحقًا، هناك عدد كبير من الهجمات الإرهابية الأخرى التي سلطت الضوء على جنسيات المتورطين بها. وفي مطلع عام 2015، نشر المركز الإعلامي لما يسمى بـ«ولاية طرابلس» في «داعش» ليبيا بيانًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، عقب تنفيذ عملية الاعتداء فندق كورينثيا في العاصمة الليبية طرابلس. ونسب البيان العملية إلى كل من «أبو إبراهيم التونسي» و«أبو سليمان السوداني»، وكان اقتحم خلالها مسلحون الفندق، وأطلقوا الرصاص عشوائيًا على الموجودين بداخله، مما تسبب بمقتل 11 شخصًا منهم خمسة أجانب بينهم أميركي وفرنسية وكورية وسيدتان فلبينيتان.
ويتشارك القادمون من السودان مع داعشيي تونس في تنفيذ عمليات انتحارية تستهدف مناطق حساسة كنقاط التفتيش أو أماكن مكتظة بالأجانب. ولقد تصاعدت اتهامات من قبل الجيش الليبي في أكثر من مناسبة بأن السلطات السودانية متساهلة مع من يرغب في عبور الحدود والانضمام إلى التنظيمات المتطرفة. ويسهل الوصول إلى الأراضي الليبية من خلال المناطق الصحراوية المفتوحة على المناطق الشرقية من ليبيا.
ووفق التقارير، تزايد عدد السودانيين الذين ينتمون للتنظيمات الإرهابية في الآونة الأخيرة، ولكن تضاربت المعلومات حول أعدادهم في ليبيا. فحسب السلطات السودانية لا يتجاوز عددهم المائة، بينما ذكر «المركز الليبي لدراسة الإرهاب» أن أعدادهم في عام 2016 وصلت إلى 455 مقاتلاً. وحسب التقارير شاع وجود تغلغل لـ«داعش» ما بين صفوف الطلبة في الجامعات السودانية ما سهّل من عملية استقطاب الشباب السوداني. ذلك إلى جانب المتطرفين السودانيين الذين كانوا في السابق ينتمون لتنظيمات متطرفة أخرى موالية لـ«القاعدة» - سواء «القاعدة في مالي» أو تنظيم «بلاد المغرب الإسلامي» - ومن ثم إما تخلوا عن بيعتهم أو أصبح هناك تعاون ما بين تنظيمهم و«داعش». وأحد أبرز الأمثلة على ذلك الشاب «أبو زيد محمد حمزة» نجل الشيخ «أبو زيد حمزة» زعيم أنصار السنّة المحمدية في السودان، الذي انضم في عام 2012 إلى التنظيمات المتطرفة في مالي، ومن ثم انتقل إلى القتال في ليبيا.
أضف إلى ما سبق تزايد أعداد أفارقة جنوب الصحراء في «داعش ليبيا»، ويأتي هؤلاء من دول متعددة، منها مالي والنيجر وتشاد ونيجيريا وموريتانيا. ويعد غالبية هؤلاء الأفارقة المنتمين إلى «داعش ليبيا» من أولئك الذين إما بايعوا تنظيم «بوكو حرام» المتطرف في نيجيريا أو «جماعة أنصار الدين» المتطرفة شمال مالي. ويظهر وجود تعاون ما بين تنظيمي «بوكو حرام» و«داعش»، بل وإرسال «بوكو حرام» مقاتلين إلى ليبيا وتعاون «داعش» معهم منذ عام 2015. ولقد حذر نائب وزير الخارجية الأميركية أنطوني بلينكن من خطورة تعاون التنظيمين، وذكر أن أبرز نتائج ذلك التعاون أن رسائل «بوكو حرام» باتت أكثر وضوحًا، إضافة إلى قدرتها على التواصل مع الآخرين، مما يؤكد وجود علاقة بين التنظيمين، وإن لم تتضح الصورة بعد في ذلك.

نساء في العمليات المساندة
على صعيد آخر، لا يتوانى تنظيم داعش عن محاولة استغلال كل الكوادر البشرية التي من الممكن الحصول عليها لتعزيز قوته العسكرية، سواء عبر تجنيد المقاتلين من المتطرفين العرب والأفارقة، أو حتى الاستعانة بالنساء اللاتي من الأسهل لهن الانتقال من مكان لآخر دون الاشتباه بهن. وعلى الرغم من عدم وجود دور رئيسي للنساء في «داعش ليبيا»، فإنه يظهر توجه جديد لتوظيفهن كجزء من استراتيجيته للبقاء من خلال استقطابهن وتشكيل كتائب نسائية تشكل اليوم 3 في المائة من عناصره. ولا تنحصر النساء المنضمات لـ«داعش ليبيا» على الجنسية الليبية، إذ هناك قادمات من تونس والجزائر والسودان وتشاد ومالي ودول أفريقية أخرى. وإن تم حصر وظائف النساء بعيدًا عن العمل العسكري لـ«داعش ليبيا»، واقتصاره على دور مساند تثقيفي، سواء عبر تنظيم حلقات دينية وتدريس، أو عبر مهام استخباراتية لتجميع معلومات حول الأشخاص والأماكن. وهذا أشبه بتوجه براغماتي قد يتطور إلى تجنيد النساء عسكريًا في حال ظهرت الحاجة، لذلك إن قل عدد المقاتلين في التنظيم.
انتقال تنظيم داعش إلى مناطق جغرافية جديدة مثل ليبيا، إثر تلقي الضربات العسكرية التي أضعفته في كل من سوريا والعراق، يزيد من التساؤل عن مدى نجاح التخطيط العسكري الأميركي الأوروبي الذي استهدف التنظيم، إذ بإمكان التنظيم مرة أخرى الانتقال إلى بلد آخر يعاني من اضطرابات سياسية وهشاشة أمنية مما يعكس توقعات تشاؤمية لمستقبل أكثر دموية. وهذا ما أشار إليه عدد من السياسيين؛ كتحذير وزير الدفاع الفرنسي جان إيف لودريان في سبتمبر (أيلول) الفائت من خطر انتقال عناصر تنظيم داعش ليبيا، إذا ما تم تضييق الخناق عليهم فيها إلى كل من تونس ومصر. وبالفعل، فإذا ما جرى تضييق الخناق على ليبيا، فإن هناك احتمال الانتقال إلى تونس ومناطق أخرى تحوي طفرة في عدد المتطرفين وإمكانية الاستجابة لإرهاب «داعش»، الأمر الذي يجعل هناك داعيًا للتركيز على اجتثاث الفكر المتطرف وتحصين المجتمعات، وبالأخص، فئة الشباب منها من الفكر المتطرف المؤدي إلى العنف السياسي.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.