تشير دلائل كثيرة إلى تكثيف نشاط تنظيم داعش الإرهابي المتطرف في ليبيا، وانتقال عدد من قياداته ممن كانوا في السابق في العراق وسوريا إلى ليبيا. أحد أبرز التحذيرات فيما يخص نشاط تنظيم داعش كان تحذير الرئيس الأميركي باراك أوباما خلال اجتماع عقده في مقر «وكالة الاستخبارات المركزية» الأميركية (سي آي إيه) مع مستشاريه في مجال الأمن القومي في أبريل (نيسان) 2016. يومذاك أشار أوباما إلى حملة التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد «داعش» في كل من العراق وسوريا، وقال خلال الاجتماع إن التنظيم في «وضع دفاعي» بعدما تقلّصت رقعة الأراضي التي كان يسيطر عليها وضرب كبار قادته، وهو ما أدى إلى ارتفاع في عدد مقاتلي «داعش» المتجهين إلى ليبيا. واعتبر أن هذا الواقع يستلزم أهمية التركيز على محاربة «داعش» في ليبيا أيضًا خلال المرحلة المقبلة.
رسائل تبرز دور المقاتلين العرب
يظهر التوجّه الاستراتيجي لـ«داعش» في إنتاج رسائل إعلامية تستهدف إظهار التحول العسكري والتركيز على مناطق في ليبيا سيطر عليها التنظيم منها مدينة سرت، وانتقال عدد كبير من قادة «داعش» من جنسيات مختلفة - سواء كانوا في السابق في العراق أو سوريا - إلى ليبيا، أحد أبرزهم «أبو نبيل الأنباري» العراقي الجنسية الذي كان أميرًا لمحافظة صلاح الدين في العراق. كذلك انتقل إلى ليبيا «أبو البراء الأزدي»، وهو رجل دين متشدّد يمني الجنسية، إثر أوامر من زعيم التنظيم «أبو بكر البغدادي» بالانتقال هناك وتعيينه واليًا على ولاية برقة في شرق ليبيا.
وكجزء من الخطة الإعلامية ظهرت خطابات وتوجيهات من قادة ودعاة دين داعشيين بخصوص الانضمام إلى «داعش ليبيا». وبثت إذاعة سرت المحلية في فبراير (شباط) 2016، بعد تمكن «داعش» من السيطرة عليها خطبًا ودروسًا للقيادي تركي البنعلي، أحد أبرز قادة «داعش» الذي أسقطت عنه الجنسية البحرينية في يناير (كانون الثاني) 2013. ولقد دعا البنعلي الليبيين إلى ضرورة «الانقياد لأوامر الشرع بمبايعة خليفة المسلمين»، وحذّر من «الموت ميتة الجاهلية» في حال عدم انضوائهم تحت راية الخلافة «الداعشية». ومن جهة أخرى، انتقل أحد قادة التنظيم في ليبيا وهو السعودي «أبو علي الجزراوي» إلى صفوف التنظيم بسرت برفقة قادة آخرين، وقام بدعوة من أطلق عليهم لقب «إخوة التوحيد في الجزيرة العربية وتونس ومصر والسودان، وكل الغيورين على دين الله إلى النفير في سبيل الله».
وراهنًا، يواصل التنظيم المتطرف توظيف القتل والوحشية بهدف زرع الذعر في نفوس الآخرين. وكانت من أبشع الجرائم الفظيعة التي ارتكبها «داعش ليبيا» وعمل على نشر صورها، نحره 21 مصريًا من الأقباط العاملين في ليبيا بأسلوب وحشي، الغاية منه بث الذعر ونشر رسالة عالمية، خصوصًا أنه نشر مقطع لبث مرئي لعملية القتل باللغة الإنجليزية.
ومن ثم كثف «داعش» الرسائل التي تسلّط الضوء على دور العرب والأفارقة، وخصوصًا، من التونسيين في التنظيم، إما من باب بث الذعر للآخرين من وفرة وجود المتطرفين من جنسيات مختلفة من جهة، أو من أجل استقطاب هذه الجنسيات للانضمام إلى التنظيم من جهة أخرى. ومن أبرز طرق تسليط الضوء الرسائل عبر حسابات تابعة لما يُعرف بـ«ولاية برقة الليبية»، ونشر صور للقتلى منهم من أطلق عليهم «شهداء على ثرى برقة». وشاع ربط الكنية التي تم اختيارها بالدولة أو المنطقة التي ينتمي إليها، مما يدل على قوة الرسائل الإعلامية التي يستخدمها التنظيم ومحاولته إبراز دور المقاتلين العرب، وتنحصر الأعداد الأكبر ما بين تونس والسودان وأفارقة جنوب الصحراء، التي كثفت حضورها ومساندتها لتنظيم داعش ليبيا. من ناحية ثانية يحرص «داعش» على توجيه عدد من الرسائل التي تتوعد دولاً أخرى مجاورة كالتهديد بمهاجمة تونس من شمالها إلى جنوبها. ومن أبرز تلك التهديدات مقطع فيديو ظهر فيه الانتحاري «أبو طلحة التونسي» وهو يتحدث بانتشاء وبأسلوب غير متّزن، ويشير فيه إلى المتفجرات في السيارة، وتخطيطه للعملية الانتحارية في مدينة بنغازي الليبية، وفي الوقت نفسه يتوعّد فيه تونس «بالمجيء بالذبح والتفجير من برج الخضر إلى بنزرت».
التسلل وطفرة الإرهابيين العرب
وحول تونس، يلاحظ أنه برز دور المقاتلين التونسيين بشكل خاص في الآونة الأخيرة، سواء من خلال أعداد المنضمين إلى «داعش»، أو عبر منفذي العمليات العسكرية لهم، التي تتدرج بدءًا بعمليات انتحارية وصعودًا إلى مناصب قيادية في التنظيم. ويتعارض هذا مع الجهود التي تبذلها السلطات التونسية في منع تسلل المقاتلين المتطرفين عبر الحدود من وإلى تونس، إذ تواجه الحكومات صعوبة في السيطرة، بالأخص، في المناطق الحدودية. وهو الأمر الذي حدا بالسلطات التونسية إلى بناء جدار وخندق على امتداد الحدود مع ليبيا بارتفاع يصل إلى 170 كيلومترًا. وتبعت الجزائر أخيرًا النسق ذاته في بناء جدار عازل على حدودها مع ليبيا لحماية أراضيها من تسلل المقاتلين المتطرفين.
وللعلم، تعد حادثة تفجير سيارة مفخخة في أحد معسكرات تدريب خفر السواحل في مدينة زليتن الليبية في مطلع 2016، التي أدت إلى مقتل 70 شخصًا وإصابة مائة آخرين واكتشاف جنسية منفذها (أبو يقين التونسي)، سببًا ترافق مع ظهور أدلة وشواهد كثيرة على ازدياد عدد المقاتلين التونسيين في ليبيا، مما أدى إلى تصاعد المطالبات الليبية بترحيل التونسيين العاملين في ليبيا.
وحقًا، هناك عدد كبير من الهجمات الإرهابية الأخرى التي سلطت الضوء على جنسيات المتورطين بها. وفي مطلع عام 2015، نشر المركز الإعلامي لما يسمى بـ«ولاية طرابلس» في «داعش» ليبيا بيانًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، عقب تنفيذ عملية الاعتداء فندق كورينثيا في العاصمة الليبية طرابلس. ونسب البيان العملية إلى كل من «أبو إبراهيم التونسي» و«أبو سليمان السوداني»، وكان اقتحم خلالها مسلحون الفندق، وأطلقوا الرصاص عشوائيًا على الموجودين بداخله، مما تسبب بمقتل 11 شخصًا منهم خمسة أجانب بينهم أميركي وفرنسية وكورية وسيدتان فلبينيتان.
ويتشارك القادمون من السودان مع داعشيي تونس في تنفيذ عمليات انتحارية تستهدف مناطق حساسة كنقاط التفتيش أو أماكن مكتظة بالأجانب. ولقد تصاعدت اتهامات من قبل الجيش الليبي في أكثر من مناسبة بأن السلطات السودانية متساهلة مع من يرغب في عبور الحدود والانضمام إلى التنظيمات المتطرفة. ويسهل الوصول إلى الأراضي الليبية من خلال المناطق الصحراوية المفتوحة على المناطق الشرقية من ليبيا.
ووفق التقارير، تزايد عدد السودانيين الذين ينتمون للتنظيمات الإرهابية في الآونة الأخيرة، ولكن تضاربت المعلومات حول أعدادهم في ليبيا. فحسب السلطات السودانية لا يتجاوز عددهم المائة، بينما ذكر «المركز الليبي لدراسة الإرهاب» أن أعدادهم في عام 2016 وصلت إلى 455 مقاتلاً. وحسب التقارير شاع وجود تغلغل لـ«داعش» ما بين صفوف الطلبة في الجامعات السودانية ما سهّل من عملية استقطاب الشباب السوداني. ذلك إلى جانب المتطرفين السودانيين الذين كانوا في السابق ينتمون لتنظيمات متطرفة أخرى موالية لـ«القاعدة» - سواء «القاعدة في مالي» أو تنظيم «بلاد المغرب الإسلامي» - ومن ثم إما تخلوا عن بيعتهم أو أصبح هناك تعاون ما بين تنظيمهم و«داعش». وأحد أبرز الأمثلة على ذلك الشاب «أبو زيد محمد حمزة» نجل الشيخ «أبو زيد حمزة» زعيم أنصار السنّة المحمدية في السودان، الذي انضم في عام 2012 إلى التنظيمات المتطرفة في مالي، ومن ثم انتقل إلى القتال في ليبيا.
أضف إلى ما سبق تزايد أعداد أفارقة جنوب الصحراء في «داعش ليبيا»، ويأتي هؤلاء من دول متعددة، منها مالي والنيجر وتشاد ونيجيريا وموريتانيا. ويعد غالبية هؤلاء الأفارقة المنتمين إلى «داعش ليبيا» من أولئك الذين إما بايعوا تنظيم «بوكو حرام» المتطرف في نيجيريا أو «جماعة أنصار الدين» المتطرفة شمال مالي. ويظهر وجود تعاون ما بين تنظيمي «بوكو حرام» و«داعش»، بل وإرسال «بوكو حرام» مقاتلين إلى ليبيا وتعاون «داعش» معهم منذ عام 2015. ولقد حذر نائب وزير الخارجية الأميركية أنطوني بلينكن من خطورة تعاون التنظيمين، وذكر أن أبرز نتائج ذلك التعاون أن رسائل «بوكو حرام» باتت أكثر وضوحًا، إضافة إلى قدرتها على التواصل مع الآخرين، مما يؤكد وجود علاقة بين التنظيمين، وإن لم تتضح الصورة بعد في ذلك.
نساء في العمليات المساندة
على صعيد آخر، لا يتوانى تنظيم داعش عن محاولة استغلال كل الكوادر البشرية التي من الممكن الحصول عليها لتعزيز قوته العسكرية، سواء عبر تجنيد المقاتلين من المتطرفين العرب والأفارقة، أو حتى الاستعانة بالنساء اللاتي من الأسهل لهن الانتقال من مكان لآخر دون الاشتباه بهن. وعلى الرغم من عدم وجود دور رئيسي للنساء في «داعش ليبيا»، فإنه يظهر توجه جديد لتوظيفهن كجزء من استراتيجيته للبقاء من خلال استقطابهن وتشكيل كتائب نسائية تشكل اليوم 3 في المائة من عناصره. ولا تنحصر النساء المنضمات لـ«داعش ليبيا» على الجنسية الليبية، إذ هناك قادمات من تونس والجزائر والسودان وتشاد ومالي ودول أفريقية أخرى. وإن تم حصر وظائف النساء بعيدًا عن العمل العسكري لـ«داعش ليبيا»، واقتصاره على دور مساند تثقيفي، سواء عبر تنظيم حلقات دينية وتدريس، أو عبر مهام استخباراتية لتجميع معلومات حول الأشخاص والأماكن. وهذا أشبه بتوجه براغماتي قد يتطور إلى تجنيد النساء عسكريًا في حال ظهرت الحاجة، لذلك إن قل عدد المقاتلين في التنظيم.
انتقال تنظيم داعش إلى مناطق جغرافية جديدة مثل ليبيا، إثر تلقي الضربات العسكرية التي أضعفته في كل من سوريا والعراق، يزيد من التساؤل عن مدى نجاح التخطيط العسكري الأميركي الأوروبي الذي استهدف التنظيم، إذ بإمكان التنظيم مرة أخرى الانتقال إلى بلد آخر يعاني من اضطرابات سياسية وهشاشة أمنية مما يعكس توقعات تشاؤمية لمستقبل أكثر دموية. وهذا ما أشار إليه عدد من السياسيين؛ كتحذير وزير الدفاع الفرنسي جان إيف لودريان في سبتمبر (أيلول) الفائت من خطر انتقال عناصر تنظيم داعش ليبيا، إذا ما تم تضييق الخناق عليهم فيها إلى كل من تونس ومصر. وبالفعل، فإذا ما جرى تضييق الخناق على ليبيا، فإن هناك احتمال الانتقال إلى تونس ومناطق أخرى تحوي طفرة في عدد المتطرفين وإمكانية الاستجابة لإرهاب «داعش»، الأمر الذي يجعل هناك داعيًا للتركيز على اجتثاث الفكر المتطرف وتحصين المجتمعات، وبالأخص، فئة الشباب منها من الفكر المتطرف المؤدي إلى العنف السياسي.