العرب بين أصوليتين.. ساكنة ومتفاعلة

لماذا تجد الذهنية الأصولية بيئة حاضنة في العالم العربي حتى الساعة؟

العرب بين أصوليتين.. ساكنة ومتفاعلة
TT

العرب بين أصوليتين.. ساكنة ومتفاعلة

العرب بين أصوليتين.. ساكنة ومتفاعلة

عدة أحداث مر بها العالم العربي أخيرًا، أفرزت قناعة بأن البيئة الفكرية والذهنية العربية لا تزال حاضنه للأصولية، دافعة في طريق العنف غير المقدس، ومعبأة بصدأ التطرف، الأمر الذي يستوجب حالة من حالات «مساءلة الذات» الإيجابية لا «جلد الذات» السلبية. ومن ثم طرح أسئلة جوهرية مثل «كيف أسهمنا نحن بدورنا كشعوب وأنظمة فكرية وسياسية، ومنظومات اجتماعية وتعليمية، في الوصول إلى تلك اللحظة المخيفة، لحظة تحول الأصولية الساكنة تحت الجلد إلى أصوليه فاعلة بل ومن الأسف قاتلة؟».
السؤال المتقدم يذكرنا بما قاله وولي سوينكا، الكاتب المسرحي والشاعر والفيلسوف النيجيري ذات مرة إن «الفشل في تفحص ذاتنا يقلل من قوه تأثير استجابتنا على المدى البعيد، كما أن هذا الفشل يحصرنا في عقلية المتعصب، فالمتعصب أو الأصولي شخص لا يسعى مطلقًا للشفاء من دائه، بل قد يكون عاجزًا عن التعافي، وتتلاشى من أمامه لحظة شك ساورته، أو خيارات ممكنة كانت متاحة له، أو الإمكانيات المفقودة مع طريق لم يسلكه». نحن إذن أمام دراسة حالة لما يمكن أن نطلق عليه «العقل الأصولي» الذي لم ينشأ من فراغ على نكوص ماضوي، يقدّس الماضي ويتحرّق شوقًا للعودة إلى الأساس، هذا العقل قطعًا اصطدم بكثير من العقبات الحياتية، دفعته إلى حاله هروب مزدوجة، إلى الخلف لجهة التراث والسلف بشكل سلبي لا إيجابي، وللأمام عبر الاحتجاج بالعنف، أي القوة المسلحة التي تترجم في التعاطي مع الآخر في ميادين الرماية، لا في دوائر الأنوار الحوارية والفكرية.
لعل هناك عوامل أساسية وراء تحول الأصولية الساكنة إلى أصولية عنيفة فاعلة. إذ من المؤكد أن حالة الانسداد التاريخي العربي الحالية التي أفضت إلى الأصولية الظاهرة لاحقًا لم تتأتَ من فراغ، بل دعمتها عوامل كثيرة، في مقدمها جدب الفكر العربي الذي كان يومًا ما يطوف الآفاق مخبرًا ومحدثًا بمآثر الحياة العربية وإبداعاتها علميًا وأدبيًا وثقافيًا واجتماعيًا. هذا الجدب وقفت وراءه ركائز لا تزال تسبب له الصعود إلى الهاوية والتقدم إلى الخلف، إن جاز التعبير.

الركيزة الأولى
الركيزة الأولى تتمثل في فشل العملية التعليمية الحديثة، ذلك أنه عوضًا عن عقلية الإبداع، ها نحن محاصرون بذهنية الأتباع، الأمر الذي جعل مساحة الأسطورة في العقل العربي أوسع وأعمق من مساحة الحقيقة. وهو ما أتاح فتح الباب واسعًا للجهل ومسوغاته عند العوام، والخرافة وسطوتها عند كثيرين، وساعد على هذه الحالة المؤسفة، تحول النخبة من جماعة نهضوية إلى نهبوية، تسعى وراء مصالحها الخاصة في أنانية غير مستنيرة. ثم كان العجز عن إدراك مناهج عملية حديثة، تترك بديلاً واحدًا لأنظمة تعليمية، متدنية ومنفصلة عن الواقع، أنظمة فرّخت لنا شخوصًا لا يؤمنون بالآخر، ولا بحقه في الحياة والتعبير، أنظمة «مالكي الحقيقة المطلقة» التي لا تخرج إلا الطغاة فكريًا على الأقل. وفي ظل عملية تعليمية متخلفة تمارس من خلالها رؤى تسلطية تكون اللاعقلانية هي النموذج السائد، والأحادية الفكرية هي المثال المتسلط، والصوت الأعلى الزاعق هو المتسيد، وساعتها تستدعى الأصولية الفاعلة، تلك الساكنة لتخرج لاحقًا على الملأ تقتيلاً ونحرًا باسم الدين والمذهب والمعتقد.
ولعله يجدر بنا الإشارة إلى أن عالم المتعصبين والأصوليين واحد، ويتداخل مع جميع الأديان والآيديولوجيات والطموحات، فالروافد التي تغذّي مستنقع التعصب، قد تأتي من مصادر مختلفة، وقد يفصل بينها التاريخ والظروف المناخية والجنس أو أشكال الظلم والحرمان المتعددة، لكنها تلتقي في المصب نفسه، أي موقع اليقين المطلق الذي لا يناقش، ويدفعها دافع يسمح لكل شخص بأن يعلن نقاء ذاته ونصوع بياضها في مجتمع فاسد ملوث.

الركيزة الثانية
الركيزة الثانية التي تدفع الأصوليات الساكنة تجاه التحرك الفاعل وإن بشكل سلبي، تتمثل في حالة المجتمعات العربية ذات النموذج الأبوي، الذي فيه تقلص الحريات الفكرية إلى حد الغياب. وبعد 100 سنة من السؤال عن سبب تخلف المسلمين وتقدم غيرهم، ها نحن نكتشف ومن جديد أننا نسعى في طريق التحديث الظاهري لا الجوهري، وبعبارة أخرى يمكن القول إن البنية الخارجية للحداثة لم تستطع أن تحجب البنية القبلية الأسطورية والسحرية التي تعيش في أعماق الإنسان العربي وتعشعش في عقله.
هذا النظام الأبوي الذي تجاوزته منعطفات الأحداث في القرن الحادي والعشرين، أعطى مسالك ودروبًا فرعية آيديولوجية لجماعات الأصولية الفاعلة، فالرافضون للتسلط الأبوي تتم استمالتهم ومن ثم تسكينهم داخل جماعات أصولية حركية على الأرض توفر للأعضاء الجدد الدعم الأدبي والإنساني قبل المالي، شريطة تخلّص المجند من هويته القديمة، وتبنّيه هوية الجماعة الأصولية التي ينضوي تحت جناحيها. ومن الضغوط التي تمارسها الجماعة على المجند تبزغ بذور الخطوات التالية، وأهمها أن يصبح جزءًا من جماعة الشهداء الذين يربطهم رباط الأخوة ويضحون بحياتهم معًا من أجل قضاياهم. ومن هنا رأينا ونرى الانتحاريين وأصحاب السيارات المفخخة والبنادق الآلية التي توجه فوهاتها إلى صدور الكتاب والمفكرين، بوصفهم «خوارج العصر» في مواجهة أصحاب الحقائق اللامعة الناصعة، أو الحق مقابل الباطل، حسب تقديرهم. وهم في ذلك مرضى وضحايا أكثر منهم مجرمون.. كيف ذلك؟

الركيزة الثالثة
الركيزة الثالثة في الطريق تتصل بالأزمات الاقتصادية بوجهيها المالي والسياسي في العالم العربي. وحديث الجدل القائم بين الأصولية والأوضاع الاقتصادية، ذو شجون. وخذ على سبيل المثال لا الحصر، أفكار «الخصخصة»، أي تحويل قطاعات صناعية وطنية عريضة إلى قطاعات خاصة يمتلكها الأفراد، ولا رقابة أو سيادة للدولة عليها. هذه السياسة القاتلة في بعض الأقطار العربية محدودة الموارد كبيرة السكان. وفي ظل السخط السائد من الأوضاع الاقتصادية، كان من الطبيعي أن يحدث استقطاب للآلاف من الشباب إلى داخل الجماعات ذات المسحة الأصولية، مهما تعددت الأسماء أو اختلفت التوجهات الظاهرة. ثم هناك شق الخواء السياسي وغياب القيادات «الكاريزمية» القادرة على تجييش العقول والقلوب باتجاه الأفكار الوطنية والمنفتحة، في حين لمعت أسماء قيادات أصولية جذابة زخّمت الأصوليات النائمة وأثرت الفاعلة منها. ولقد اتخذت رسائلها الأصولية والمتطرفة شكلاً مختلفًا من ناحية الكيف، وخصوصًا بعد أن تتبلور تلك الرسائل في حركة تتجه بعدها نحو العنف في حرب مفتوحة تشنها محليًا وقوميًا، وإقليميًا وعالميًا ضد النظام القائم.

الركيزة الرابعة
الركيزة الرابعة والأخيرة تتصل بما أطلق عليه «الربيع العربي»، ذلك أن تبعاته وتداعياته لا تظهر في الحال، بل تتجلّى مستقبلاً. وفي مطلق الأحوال يمكن القول إن حساب الحصاد بالنسبة للجماعات الأصولية جاء مخالفًا شكلاً وموضوعًا لحساب الحقل الذي عملت فيه الأصولية الفاعلة عبر ثمانية عقود. وأيًا كانت أسباب الإخفاق، فإنها ولّدت عند المريدين والأتباع غصّة عميقة، من ينكرها ينافي الحقيقة، ومن يتجاهلها عمدًا يعرض ذاته لمغالطات موضوعية. بل أكثر من ذلك، يمكن القول إن هناك قطاعات عريضة من الذين كانت تراودهم أحلام الأصولية الساكنة انتقلوا إلى الفئات الفاعلة. وكل ما ينقصهم الآن للظهور على السطح أمران؛ الأول، توافر السياق السياسي والاقتصادي والبيئي لموجة عنف جديدة ستكون أشد من سابقاتها. والثاني، توافر السلاح بأشكاله المختلفة، المعنوية والمادية، وما رأيناه في الأشهر الأخيرة عبر بقاع وأصقاع عربية مختلفة، يعد إرهاصات للأسوأ الذي لم يأتِ بعد.
الإشكالية الحقيقية هنا التي قد تغيب عن أعين كثيرين، هي أن الأحلام والصبوات التي تسكن عقول الجماهير المثالية بعد الثورات كثيرًا ما تنافي وتجافي الواقع فيما بعد، لا سيما، في حال «الثورات التاريخية» - التي يتحدث عنها ثعلب السياسة الخارجية هنري كيسنجر - والتي لا تخلف إلا الخراب والدمار لدولها لا الثورات الديمقراطية التي تعيد بنيان ما قد تهدم. ففي هذا الإطار تغدو الفرصة ذهبية للجماعات الأصولية العنيفة، لاصطياد - وليس استقطاب - أولئك اليائسين والمجروحين في رهاناتهم الثورية، إلى داخل دائرة الأصوليات العنيفة على الأرض.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.