حكاية يرويها طفل لم يولد بعد

مغامرة البريطاني إيان مكوين في روايته الجديدة

قشرة جوز الهند تأليف إيان مكوين الناشر: نان إيه. تاليس197 صفحة
قشرة جوز الهند تأليف إيان مكوين الناشر: نان إيه. تاليس197 صفحة
TT

حكاية يرويها طفل لم يولد بعد

قشرة جوز الهند تأليف إيان مكوين الناشر: نان إيه. تاليس197 صفحة
قشرة جوز الهند تأليف إيان مكوين الناشر: نان إيه. تاليس197 صفحة

من خلال «قشرة جوز الهند»، نجح إيان مكوين، كما يقول ميتشيكو كاكوتاني في ملحق «بوكس أوف ذي تايمز» في تنفيذ حيلة سحرية متناقضة، وذلك من خلال مزج أسس رائعة «هاملت» لشكسبير وفيلم «انظروا من الذي يتحدث» الذي أخرجته آمي هيكيرلينغ عام 1989 من أجل خلق رواية ذكية ولطيفة وساحرة.
إنها قصة يرويها جنين في بطن أمه يجسد شخصية أشبه بشخصية هاملت ـ وهو جنين قد يصبح يومًا ما طفلاً أو ربما يؤول مصيره إلى غير ذلك. ويشهد الجنين علاقة غير شرعية بين والدته، ترودي، وعمه، كلود. ويخطط العشيقان الخائنان لقتل والد الجنين، جون. ويصبح التساؤل الأكبر هنا: هل يمكن للراوي أن يحول دون وقوع هذه الجريمة ـ أو يقدم لاحقًا على الانتقام؟ ما الذي سيحدث للراوي حال انتقال والده على هذا النحو المتعجل والمفاجئ إلى السماء، وافتضاح جريمة والدته وتعرضها للسجن؟ ما الذي تنبئ عنه هذه التطورات المثيرة للإحباط بشأن العالم الذي يوشك على القدوم إليه؟
بالنظر إلى الراوي في رواية مكوين نجد أنه يتميز بالفصاحة، بل ويملك جميع المهارات اللغوية التي يتمتع بها المؤلف ذاته، وتأتي لغته على ذات القدر من التعقيد المميز لأحد أبناء لندن في القرن الـ21 ـ وذلك بفضل تنصته المستمر من داخل الرحم على ما يدور بالعالم من حوله، وقراءته «كتب تحسين المهارات الذاتية» التي تعشقها والدته. يعشق الجنين رواية «يوليسيس» لجيمس جويس، ويفضل كيتس على غالبية الشعراء المعاصرين، ويساوره كثير من القلق حيال أمور مثل التغيرات المناخية وانتشار الأسلحة النووية. ومثلما الحال مع روايته «أمستردام» الصادرة عام 1998. تبدو «قشرة جوز الهند» عملا أدبيا بارعا يستعرض مكوين خلاله مهاراته في السرد من حيث الدقة والقوة والسيطرة، بجانب تراقص الكلمات على نحو خفي بين الحين والآخر. وعلى ما يبدو، فإن القيود التي فرضها موقف الراوي، ذلك أنه محتجز داخل رحم الأم، فجرت طاقة إبداع كبيرة داخل مكوين، مع انطلاقه في صياغة مونولوج لـ«الجنين الذي أوشك أن يكون طفلاً»، والذي يلعب على شخصية هاملت حتى في وقت يجول خلاله ويصول عبر بعض أكثر الموضوعات المفضلة لدى مكوين (إفساد البراءة، والخطر الذي يتعرض له الأطفال والانزلاق المفاجئ لحياة عادية إلى هاوية الرعب)، الأمر الذي ألفه متابعو أعماله منذ بداياتها، مثل «قانون الأطفال» ورائعته التي أصدرها عام 2002 «الكفارة».
من جانبه، يتفهم الراوي جيدًا، أو يظن أنه يتفهم، الأضلاع الثلاثة لمثلث الخيانة المحيط به. بالنسبة لجون، فهو شاعر غير ناجح، بجانب عمله بمجال النشر لبعض الوقت ـ وهو شخص عطوف وفقير ويسعى دومًا لإرضاء الآخرين، ونجحت زوجته الحامل في إقناعه بالانتقال من المنزل الذي ورثه عن أجداده بحجة أنها تحتاج إلى بعض الخصوصية. أما الزوجة ترودي، فهي امرأة جميلة خضراء العينين وذات شخصية مناورة، وقعت في أول الأمر في غرام جون، ثم وقعت في شباك شقيقه الأصغر، كلود، صاحب الشخصية الشهوانية والشريرة، الذي يعمل بمجال التنمية العقارية ولا يعرف في حياته سوى «الملابس والسيارات».
بيد أنه مع مرور الوقت، يتساءل الراوي حول ما إذا كانت الأوضاع في حقيقتها أكثر تعقيدًا عما ظنه بادئ الأمر. هل كان والده على علاقة بإلودي، الشابة الجميلة التي تكتب قصائد شعرية عن ألبوم؟ ولماذا لا يبدي والده اهتمامًا به ـ نجله الذي يوشك على القدوم إلى الحياة؟ ماذا تنوي أن تفعل معه بمجرد مولده ـ هل تنوي التخلي عنه ببساطة أو إيداعه إحدى دور الرعاية؟
تستقي رواية «قشرة جوز الهند» اسمها ببراعة من سطر شعري في مسرحية «هاملت». ومع ذلك، نجدها تعج بإسقاطات لا تتعلق بـ«هاملت» فحسب، وإنما تمتد كذلك إلى رائعة شكسبير الأخرى: «ماكبث»، بجانب روائع أدبية لكتاب آخرين مثل «لوليتا» و«قصة مدينتين»، علاوة على مقالات لدانتي ونيتشه وكافكا. وعلى امتداد الرواية، نجد الطفل الراوي الذي لم يولد بعد يتنقل عبر نوبات من السخرية والاستهزاء والبحث والسكر، خاصة عندما تتناول والدته قدرا مفرطا من الخمور. ويشعر بالقلق من أن يطاله تلوث عندما يدخل عمه في علاقة حميمة مع والدته، ترودي. كما يعمد إلى ركل والدته بقوة عندما يرغب في تذكيرها بوجوده.
وعندما يبتعد ذهنه عن محاولة فهم خطط ترودي وكلود، يقضي الراوي وقتًا طويلاً في التفكير بشأن أوضاع الحياة خارج «القلعة الممتلئة» التي تشكل بيته المؤقت. ومن بين القضايا التي تشغل تفكيره أن «أحلام الوحدة العلمانية داخل أوروبا توشك على التلاشي قبل الأحقاد القديمة والمشاعر القومية المحدودة والكارثة المالية والتشاحنات».
بطبيعة الحال، من المستحيل أن تخالج جنينا مثل هذه الأفكار الكبرى، لكن مكوين يكتب هنا بثقة واندفاع لا تترك للقارئ مساحة للتشكك في الأمر.



قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية
TT

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

كانت الأراضي الفلسطينية طوال آلاف السنين مقراً وممراً للعديد من الحضارات العريقة التي تركت وراءها آلاف المواقع الأثريّة ذات الأهميّة الفائقة، ليس في تاريخ المنطقة فحسب، بل ومُجمل التجربة البشرية. وقد أصبحت المواقع بمحض القوة بعد قيام الدولة العبرية عام 1948 خاضعة لسلطة دائرة الآثار الإسرائيلية، التي لا تدخر وسعاً في السعي لتلفيق تاريخ عبراني لهذه البلاد، وإخفاء ما من شأنه أن يتعارض مع سرديات الحركة الاستعماريّة الصهيونيّة عنها.

على أن أراضي الضفة الغربيّة التي احتُلَتْ عام 1967 وتحتوى على ما لا يَقِلُّ عن 6 آلاف موقع أثَري ظلّت قانونياً خارج اختصاص دائرة الآثار الإسرائيلية، بينما تمّ بعد اتفاق أوسلو بين الدولة العبريّة ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1995 تقاسم المنطقة لناحية اللقى والحفريات بشكل عشوائيّ بين السلطة الفلسطينية ووحدة الآثار في الإدارة المدنية الإسرائيلية، وفق تقسيمات الأراضي الثلاث المعتمدة للحكم والأمن (أ- سلطة فلسطينية، باء: سيطرة مدنية فلسطينية وسيطرة أمنية مشتركة مع الجانب الإسرائيلي، ج: سيطرة إسرائيلية تامة).

ويبدو أن غلبة التيار اليميني المتطرّف على السلطة في الدّولة العبريّة تدفع الآن باتجاه تعديل قانون الآثار الإسرائيلي لعام 1978 وقانون سلطة الآثار لعام 1989 بغرض تمديد صلاحية سلطة الآثار لتشمل مجمل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967، بينما سيكون، حال إقراره، انتهاكاً سافراً للقانون الدّولي الذي يحظر على سلطات الاحتلال القيام بأنشطة تتعلق بالآثار ما لم تتعلق بشكل مباشر باحتياجات السكان المحليين (في هذه الحالة السكان الفلسطينيين).

ولحظت مصادر في الأرض الفلسطينية المحتلّة بأن الأوضاع الأمنيّة في الضفة الغربيّة تدهورت بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر (تشرين الأول) من العام 2023، وكثّفت السلطات الإسرائيليّة من توسعها الاستيطاني بشكل غير مسبوق منذ ثلاثة عقود، ورفعت من وتيرة هجماتها على بؤر المقاومة، وأطلقت يد المستوطنين اليهود كي يعيثوا فساداً في القرى والبلدات العربيّة تسبب بهجرة آلاف الفلسطينيين من بيوتهم، مما يشير إلى تكامل الجهد العسكري والاستيطاني مع التعديلات القانونية المزمعة لتحضير الأرضية المناسبة لتنفيذ النيات المبيتة بتهويد مجمل أراضي فلسطين التاريخيّة.

ويأتي مشروع القانون الذي قدمه عضو الكنيست عن حزب الليكود اليميني أميت هاليفي، في أعقاب حملة استمرت خمس سنوات من قبل رؤساء المجالس الإقليمية للمستوطنين ومنظمات مثل «حراس الخلود» المتخصصة في الحفاظ على ما يزعم بأنه تراث يهودي من انتهاكات مزعومة على أيدي العرب الفلسطينيين. وتردد الحملة أكاذيب مفادها أن ثمة مواقع في الضفة الغربية لها أهمية أساسية بالنسبة إلى ما أسمته «التراث اليهودي»، وخلقت انطباعاً بوجود «حالة طوارئ أثرية» تستدعي تدخل الدّولة لمنع الفلسطينيين من «نهب وتدمير آثار المواقع اليهودية ومحاولاتهم المتعمدة لإنكار الجذور اليهودية في الأرض» – على حد تعبيرهم.

وكانت اللجنة التشريعية الحكوميّة قد وافقت على التعديل المقترح لقانون الآثار، وأرسلته للكنيست الإسرائيلي (البرلمان) لمراجعته من قبل لجنة التعليم والثقافة والرياضة التي عقدت اجتماعها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك تحضيراً لعرضه بالقراءة الأولى و«التصويت» في الكنيست بكامل هيئته خلال وقت قريب.

وبينما اكتفت السلطة الفلسطينية والدول العربيّة بالصمت في مواجهة هذه الاندفاعة لتعديل القانون، حذرّت جهات إسرائيلية عدة من خطورة تسييس علم الآثار في سياق الصراع الصهيوني الفلسطيني، واعتبرت منظمة «إيميك شافيه» غير الحكومية على لسان رئيسها التنفيذي ألون عراد أن «تطبيق قانون إسرائيلي على أراضي الضفة الغربية المحتلة يرقى إلى مستوى الضم الرسمي»، وحذَّر في حديث صحافيّ من «عواقب، ومزيد من العزل لمجتمع علماء الآثار الإسرائيليين في حالة فرض عقوبات دوليّة عليهم بسبب تعديل القانون»، كما أكدت جمعيّة الآثار الإسرائيليّة أنها تعارض مشروع القانون «لأن غايته ليست النهوض بعلم الآثار، بل لتعزيز أجندة سياسية، وقد يتسبب ذلك في ضرر كبير لممارسة علم الآثار في إسرائيل بسبب التجاوز على القانون الدولي المتعلق بالأنشطة الأثرية في الضفة الغربية»، ولا سيّما قرار محكمة العدل الدولية في التاسع عشر من يوليو (تموز) الماضي، الذي جدَّد التأكيد على أن وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة برمته غير قانوني، وطالب الدّولة العبريّة بـ«إزالة مستوطناتها في الضفة الغربية والقدس الشرقية في أقرب وقت ممكن»، وألزمت سلطة الاحتلال بتقديم تعويضات كاملة للفلسطينيين بما في ذلك إعادة «جميع الممتلكات الثقافية والأصول المأخوذة من الفلسطينيين ومؤسساتهم».

وتشير الخبرة التاريخيّة مع سلطة الآثار الإسرائيلية إلى أن الحكومة تقوم لدى إعلان السلطة منطقة ما موقعاً تاريخيّاً بفرض حماية عسكريّة عليها، مما قد يتطلّب إخلاء السكان أو فرض قيود على تحركاتهم وإقامة بنية تحتية أمنية لدعم الحفريات، وتمنع تالياً الفلسطينيين أصحاب الأرض من تطويرها لأي استخدام آخر، الأمر الذي يعني في النهاية منع التنمية عنها، وتهجير سكانها وتهويدها لمصلحة الكيان العبريّ، لا سيّما وأن الضفة الغربيّة تحديداً تضم آلاف المواقع المسجلة، مما يجعل كل تلك الأراضي بمثابة موقع أثري ضخم مستهدف.

وتبرر الحكومة الإسرائيلية الحاليّة دعمها مشروع القانون للجهات الأُممية عبر تبني ادعاءات منظمات ومجالس مستوطني الضفة الغربيّة بأن الفلسطينيين يضرون بالمواقع ويفتقرون إلى الوسائل التقنية والكوادر اللازمة للحفاظ عليها، هذا في وقت قامت به قوات الجيش الإسرائيلي بتدمير مئات المواقع الأثريّة في قطاع غزة الفلسطيني المحتل عبر استهدافها مباشرة، مما يعني فقدانها إلى الأبد.

لن يمكن بالطبع للفلسطينيين وحدهم التصدي لهذا التغوّل على الآثار في فلسطين، مما يفرض على وزارات الثقافة ودوائر الآثار والجامعات في العالم العربيّ وكل الجهات الأممية المعنية بالحفاظ على التراث الإنساني ضرورة التدخل وفرض الضغوط للحيلولة دون تعديل الوضع القانوني للأراضي المحتلة بأي شكل، ومنع تهويد تراث هذا البلد المغرِق في عراقته.