«القلب الصلب للصناعات الرقمية».. تحت رحمة الصين

العملاق الآسيوي يحتكر 90% من إنتاج المعادن النادرة

أهم ثلاثة مصانع لبطاريات الهواتف الذكية صينية وتسيطر على أكثر من 90% من صناعة بطاريات الهواتف النقالة في العالم
أهم ثلاثة مصانع لبطاريات الهواتف الذكية صينية وتسيطر على أكثر من 90% من صناعة بطاريات الهواتف النقالة في العالم
TT

«القلب الصلب للصناعات الرقمية».. تحت رحمة الصين

أهم ثلاثة مصانع لبطاريات الهواتف الذكية صينية وتسيطر على أكثر من 90% من صناعة بطاريات الهواتف النقالة في العالم
أهم ثلاثة مصانع لبطاريات الهواتف الذكية صينية وتسيطر على أكثر من 90% من صناعة بطاريات الهواتف النقالة في العالم

يرجع تكثيف البلدان الصناعية الكبرى لرحلاتها الفضائية لاكتشاف الكواكب الأخرى وطبيعتها، والتي تُكلف مئات الملايين، ليس لأهداف علمية بحثية فقط، بل للبحث عن مواد ومعادن تعتبر العنصر الحاسم في استمرار صناعات كثيرة، بالأخص الدقيقة منها مستقبلا، حيث تتزايد المخاوف من نضوب احتياطاتها في باطن الأرض.
وبسبب اكتشاف العلماء بعض المعادن النادرة والمهمة، انتشرت صناعة أجهزة كثيرة، مثل الهواتف النقالة وشاشات التلفزيون المسطحة وبطاريات السيارات الكهربائية والكومبيوتر المحمول ومعدات طبية وعسكرية فائقة الأهمية، كما تدخل هذه المعادن النادرة اليوم في صناعة طواحين الهواء لإنتاج الطاقة الكهربائية والسيارات الكهربائية التي ستحل مستقبلا محل السيارات العادية.
والفضل في وجود بعض هذه المعادن النادرة يعود إلى علماء كالفيزيائي الإنجليزي ويليام هايد ولاستون، الذي اكتشف في أميركا الجنوبية عام 1803 مادة الروديوم وتفوق أسعارها الآن أسعار البلاتين الثمين، ولولا اكتشافه هذا لما تطورت صناعة الهواتف النقالة، كما اكتشف أيضا مواد أخرى مهمة كالبلاديوم المساعد لصناعة المجوهرات وتُستخدم أيضا في مجال طب الأسنان والايروديوم، وهي مادة تدخل في صناعة محركات الطائرات، والأهم أن هذه المعادن غير مُشعة.
ومع التطور الصناعي أصبحت هذه المعادن شريان الصناعات الدقيقة، وهي حسب تقديرات علماء الطبيعة 17 نوعا ذو ميزات خاصة جدا، منها التوليوم وغادليوم والروديوم والنيوديميوم والليثيوم، وهو العنصر الرئيسي الذي يدخل في صناعة البطاريات، والكوبالت والكولتان وغيرها، ولا يمكن استبدالها بمعادن أخرى، فمن دونها كان من الصعب صنع سيارة كهربائية وهاتف نقال أو جهاز كومبيوتر، إلا أن المشكلة التي تواجه شركات الصناعات الإلكترونية أن أكثر من 86 في المائة من هذا المعادن النادرة موجودة في مناجم بالصين.
ومن المواد الأكثر شهرة والأكثر استخداما هي الكوبالت، وأهم مناجم هذا المعدن في جمهورية الكونغو الديمقراطية والموزمبيق، حيث يمتزج الكوبالت مع النحاس، كما تتواجد مناجم له في كل من الولايات المتحدة الأميركية وكندا والمغرب وكوبا وأستراليا، ويُقدر حجم الكوبالت الاحتياطي في العالم بنحو 25 مليون طن، يُضاف إليه 120 مليون طن في القشرة الأرضية بأعماق المحيطين الأطلسي والهادي وقد يكون أيضا هناك احتياطي في المحيط الهندي.
وحسب البيانات الدولية، ارتفع إنتاج الكوبالت بشكل ملحوظ جدا في السنوات الأخيرة لتلبية حاجة الصناعات المختلفة العسكرية والمدنية، فعلى سبيل المثال تخطت جمهورية الكونغو الديمقراطية الخط الأحمر وأنتجت 54 ألف طن بعد أن كان إنتاجها عام 2006 يقارب الـ22 ألف طن ورفعت الصين إنتاجها التجاري من الكوبالت عام 2014 ليصل إلى 7200 طن، وزاد إنتاج أستراليا عن الـ6000 طن، ووصلت حصة روسيا إلى 6300 طن وكندا إلى 6920 طنا وزامبيا إلى 5200 طن وجنوب أفريقيا كما البرازيل إلى 3000 طن.
والمادة الأخرى المهمة جدا للصناعات والتقنيات الحديثة والحساسة هي الروديوم الذي زاد الطلب عليه، ويدخل الخبراء في الحسبان إمكانية زيادة الاستثمارات الموجهة لرفع الكميات المستخرجة منه.
ويعتبر الروديوم من المعادن الثمينة؛ فهو أصلب من البلاتين والذهب ويذوب في درجة حرارة 1966 مئوية وله خصائص مماثلة للبلاتين، وتستخدم سبائكه في صناعة محفزات السيارات. ويتوقع مصرف دويتشه بنك ومكتب جونسون ماتاي، الخبير في شؤون الأسواق في لندن، أن تتخطى مبيعات الروديوم هذا العام الـ78 ألف أونصة، وتسجل أسعاره منذ 4 أعوام ارتفاعا متواصلا وتخطى الارتفاع هذا العام الـ18 في المائة مقارنة مع 2015؛ ما شجع على رفع سقف استخراجه ليصل المخزون العام الماضي إلى مليون أونصة، والسبب في ذلك أن الكثير من مصانع السيارات تستعين به عوضا عن البلاتين والبالاديوم (معدن يدخل في صناعة السيارات)، فأونصة الروديوم من الممكن أن تحل محل 1.46 أونصة من البالاديوم أو البلاتين؛ ما يعني أن التكلفة تكون أقل؛ لذا يتوقع الخبراء تزايد الطلب العالمي على الروديوم، ما قد يسبب عجزا في تلبية الطلبيات يُقدر ب530 ألف أونصة.
ومن يحمل هاتفا ذكيا بين يديه،، لا يتوقع في الغالب أن المواد التي تدخل في صناعة الهاتف الذكي، مثل الكوبالت الذي لا غنى عنه في صناعة بطاريات اللوثيوم لكل الهواتف النقالة مصدره مناجم في الكونغو يعمل فيها أطفال، وأهم ثلاثة مصانع لصناعة بطاريات الهواتف الذكية صينية وتصنع أكثر من 90 في المائة من بطاريات الموجودة في الهواتف النقالة في العالم؛ فالصين لا تشتري الكوبالت من أي مكان آخر بل مباشرة من شركة التعدين الصينية سيه هاوو كوبالت، وفرعها «دانغفانغ للتعدين» في الكونغو يشتري من تجار وسطاء من مناطق التوتر بإقليم كاناغا شرق الكونغو.
* تحكم الصين بأسعار المواد الخام
منذ ثمانينات القرن الماضي أدركت الصين أهمية المواد الخام التي تدخل في الصناعات الدقيقة والإلكترونيات، فاستثمرت بكثافة في البحوث وإنشاء المناجم؛ ما جعلها اليوم تتحكم بالأسعار لأنها قادرة على إنتاج هذه المعادن النادرة وبيعها بكميات تجارية، ومع تدني تكاليف الاستخراج، بسبب العمالة الصينية الرخيصة، ومعاجلة هذه المواد النادرة، أصبحت الصين متحكمة في أسعارها.
ولم تمض فترة قصيرة إلا وشهد العالم موجة من إنشاء شركات أميركية كبيرة مالكوها صينيون لهم طموح في الحصول على تكنولوجيا متطورة، واليوم فإن خريطة مواقع الإنتاج قد تغيرت ومن يملك معادن نادرة عليه نقل جزء من الإنتاج إلى الصين، وعلى وجه الخصوص فرع الإلكترونيات، فهذه المعادن النادرة أصبحت عصب الإنتاج.
ويقول خبير الصناعات الأميركي جميس كنيدي، إنه في خضم الصراع للسيطرة على الأسواق تباع الكثير من الشركات الغربية إلى الصينيين، وبدأت الولايات المتحدة هذا التوجه في تسعينات القرن الماضي، هذا بالإضافة إلى نقل الشركات الكبرى أعمالها إلى الصين؛ لذا ليس من قبيل المصادفة أن تنتج شركة «آبل» هواتفها الذكية في الصين.
ولأنها الدولة الأكثر إنتاجا للمعادن النادرة حددت الصين عام 2010 سقف الكميات التي تريد تصديرها؛ بحجة الحفاظ على ثرواتها الطبيعية وتأمين احتياجاتها، في الوقت نفسه رفعت الأسعار بشكل ملحوظ؛ ما دفع بالولايات المتحدة وبلدان أوروبا الصناعية إلى رفع شكوى ضدها إلى منظمة التجارية الدولية؛ لأن حجبها أو تحديد كميات التصدير يشكل خرقا لمعاهدة التجارة العالمية الحرة، ولقد أدت الضغوط بالفعل إلى إعلان بكين في شهر يناير (كانون الثاني) عام 2015 رفع قرار تحديد كميات التصدير خشية العقوبات.
ويتساءل المرء عن سبب إقدام الصين على اتخاذ قرار من هذا النوع، هل هو فعلا الخوف من عقوبات منظمة التجارة العالمية، أم عزمها فرض ضرائب خاصة على تصدير المعادن النادرة، فهذا يمكنها من السيطرة على صادراتها ويدخل المزيد من الأموال إلى خزينتها؟
من وجهة نظر الخبير الاقتصادي الألماني فرانك تانغ، فإن حركة السوق هي ما تسببت في اتخاذ الصين لهذا القرار، فعلى الرغم من أنه يُسمح للصين بتصدير ما يقارب الـ31 ألف طن سنويا، لكنها صدرت كميات أقل بكثير في السنوات الماضية، ففي عام 2013 صدرت 22493 طنا، وحتى شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2014 صدرت 24886 طنا.
ونظرة إلى الخلف تراجعت قيمة الصادرات إلى الثلث مقارنة مع عام 2013 حسب بيانات الجمارك الصينية، وفي عام 2012 وصل حجم الاحتياطي الاستراتيجي إلى 20 ألف طن؛ لذا يمكن القول إن المستوردين وجدوا مصادر أخرى بأسعار أقل؛ ما إثر سلبا في أسعار السوق العالمية، وهذا لا يتناسب مع تطلعات الصينيين.
وبالإضافة إلى ذلك، فقد وقعت شركات كثيرة على أنفها كما يقول المثل الألماني، مثل شركة التعدين الأسترالية ليناس، فهي تستخرج المعادن النادرة من مناجمها وتتم معالجتها في ماليزيا، إلا أن أسهمها تراجعت 60.2 دولار أسترالي إلى 6 سنتات فقط، أي بخسارة تصل إلى 97 في المائة، أما شركة مناجم ماونتين باس في كاليفورنيا التي بدأت بالإنتاج في خمسينات القرن الماضي فإن قيمة سهمها انحدرت من 78 دولارا في عام 2011 إلى 68 سنتا اليوم وهو تراجع مخيف، كما أن هناك مشروعات تصنف بغير المربحة، فحسب تقديرات العلماء لا يتجاوز مخزون مناجم جبل كرانفيلد (ارتفاعه نحو 690 مترا) في منطقة غرينلاند بالدإنمارك الستة ملايين طن من المواد النادرة وهو الأكبر في العالم الغربي، ومع أن المناخ الدافئ جنوب الجزيرة أذاب الثلوج، فإن استخراج هذه المعادن باهظ التكاليف ويتعدى الـ2.3 مليار دولار، فقبل البدء بالحفر والاستخراج يجب بناء شبكة طرقات ومحطات توليد كهرباء وأنابيب وهي مكلفة للغاية في الوقت الراهن؛ ما يعني أن الظروف الحالية غير مواتية لشركات للدخول في منافسة مع الصين، وحتى عند ظهور بوادر حل يتعارض ومصالح الصين فإنها ستعوم الأسواق بالمعادن النادرة من أجل البقاء على فوائد الاحتكار.
* تقديرات منظمة التجارة العالمية
وفقا لتقدير منظمة التجارة العالمية، فإن الصين تحتكر منذ سنوات أكثر من 90 في المائة من الإنتاج العالمي للمعادن النادرة، في حين أنها تملك نحو 30 في المائة من الاحتياطي العالمي منها؛ والسبب في ذلك شراؤها الكثير من المناجم في أنحاء كثيرة من العالم، منها في أفريقيا. وتشير وثائق إلى أن شركات التعدين الصينية تشتري عبر وسطاء لها معادن أساسية من أفريقيا تخلطها بعد ذلك بالمعادن التي تستخرجها من المناجم الصينية، لكن من المشكوك فيه معرفة المستوردين بمصدر الخامات.
واهم مصادر المعادن النادرة التي تشتريها الصين هي في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وفي مناطق خارجة عن سيطرة أمراء الحرب، ولكن إذا ما توقفت الإمدادات سيقذف بآلاف العمال في أتون الفقر وسيصبحون ذخيرة لصراعات داخلية كثيرة في هذا البلد.
في جانب آخر، فإن 10 في المائة فقط من المناجم في الكونغو تحمل شهادات منشأ تسمح ببيع منتجاتها، والباقي يواصل الإنتاج من دون شهادة، وأظهر تقصي قامت به إحدى محطات التلفزيون الألمانية الطرق غير القانونية التي تسلكها هذه المناجم من أجل بيع معادنها النادرة غير المصدق عليها، لكن هذا لا يهم مصانع التقنيات المتطورة طالما أن عجلة الإنتاج تسير.



هل تؤدي العقوبات وأسعار الفائدة الروسية إلى موجة شاملة من الإفلاسات؟

الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
TT

هل تؤدي العقوبات وأسعار الفائدة الروسية إلى موجة شاملة من الإفلاسات؟

الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)

في ظلّ الضغوط المتزايدة التي فرضتها العقوبات الغربية وارتفاع أسعار الفائدة بشكل مذهل، تتزايد المخاوف في الأوساط الاقتصادية الروسية من احتمال حدوث موجة من الإفلاسات التي قد تهدّد استقرار الكثير من الشركات، لا سيما في ظل استمرار الرئيس فلاديمير بوتين في التمسّك بحربه في أوكرانيا.

وفي كلمته خلال مؤتمر الاستثمار الذي نظمته مجموعة «في تي بي» هذا الشهر، لم يفوّت بوتين الفرصة للتفاخر بما عدّه فشل العقوبات الغربية في إضعاف الاقتصاد الروسي، فقد صرّح قائلاً: «كانت المهمة تهدف إلى توجيه ضربة استراتيجية إلى روسيا، لإضعاف صناعتنا وقطاعنا المالي والخدماتي». وأضاف أن النمو المتوقع للاقتصاد الروسي سيصل إلى نحو 4 في المائة هذا العام، قائلاً إن «هذه الخطط انهارت، ونحن متفوقون على الكثير من الاقتصادات الأوروبية في هذا الجانب»، وفق صحيفة «واشنطن بوست».

وعلى الرغم من التصفيق المهذّب الذي قُوبل به الرئيس الروسي، فإن التوترات بدأت تظهر بين النخبة الاقتصادية الروسية بشأن التأثيرات السلبية المتزايدة للعقوبات على الاقتصاد الوطني. فقد حذّر عدد متزايد من المسؤولين التنفيذيين في الشركات الكبرى من أن رفع البنك المركزي أسعار الفائدة لمكافحة التضخم -الذي تفاقم بسبب العقوبات والنفقات العسكرية لبوتين- قد يهدد استقرار الاقتصاد في العام المقبل. وقد تتسبّب هذه السياسة في تسارع موجات الإفلاس، لا سيما في القطاعات الاستراتيجية الحساسة مثل الصناعة العسكرية، حيث من المتوقع أن يشهد إنتاج الأسلحة الذي يغذّي الحرب في أوكرانيا تباطؤاً ملحوظاً.

حتى الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترمب، أشار في منشور على شبكته الاجتماعية «تروث سوشيال» إلى أن روسيا أصبحت «ضعيفة جزئياً بسبب اقتصادها المتداعي».

تحذيرات من الإفلاس

ومع تزايد توقعات أن «المركزي الروسي» سيضطر إلى رفع الفائدة مرة أخرى هذا الشهر، انضم بعض الأعضاء المعتدلين في الدائرة الداخلية لبوتين إلى الانتقادات غير المسبوقة للسياسات الاقتصادية التي أبقت على سعر الفائدة الرئيس عند 21 في المائة، في وقت يستمر فيه التضخم السنوي في الارتفاع ليصل إلى أكثر من 9 في المائة. وهذا يشير إلى احتمالية حدوث «ركود تضخمي» طويل الأمد أو حتى ركود اقتصادي في العام المقبل. وبالفعل، يتوقع البنك المركزي أن ينخفض النمو الاقتصادي بشكل حاد إلى ما بين 0.5 في المائة و1.5 في المائة في العام المقبل.

كما تسبّبت العقوبات الأميركية الجديدة التي شملت فرض عقوبات على 50 بنكاً روسياً، بما في ذلك «غازبروم بنك»، وهو قناة رئيسة لمدفوعات الطاقة، في زيادة تكاليف المعاملات بين المستوردين والمصدرين الروس. وقد أسهم ذلك في انخفاض قيمة الروبل إلى أدنى مستوى له مقابل الدولار منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2022. وقد أدى هذا الانخفاض في قيمة الروبل إلى زيادة التضخم، حيث ارتفعت الأسعار بنسبة 0.5 في المائة بين 26 نوفمبر (تشرين الثاني) و2 ديسمبر (كانون الأول)، وفقاً للبيانات الرسمية.

وفي هذا السياق، حذّر رئيس هيئة الرقابة المالية الروسية، نجل أحد أقرب حلفاء بوتين، بوريس كوفالتشوك، من أن رفع أسعار الفائدة «يحد من إمكانات الاستثمار في الأعمال، ويؤدي إلى زيادة الإنفاق في الموازنة الفيدرالية». كما انتقد الرئيس التنفيذي لشركة «روسنفت» الروسية، إيغور سيتشين، البنك المركزي بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، مؤكداً أن ذلك أسهم في زيادة تكاليف التمويل للشركات وتأثر أرباحها سلباً.

وفي تصريح أكثر حدّة، حذّر رئيس شركة «روس أوبورون إكسبورت» المتخصصة في صناعة الأسلحة، سيرغي تشيميزوف، من أن استمرار أسعار الفائدة المرتفعة قد يؤدي إلى إفلاس معظم الشركات الروسية، بما في ذلك قطاع الأسلحة، مما قد يضطر روسيا إلى الحد من صادراتها العسكرية.

كما شدّد قطب صناعة الصلب الذي يملك شركة «سيفيرستال»، أليكسي مورداشوف، على أن «من الأفضل للشركات أن تتوقف عن التوسع، بل تقلّص أنشطتها وتضع الأموال في الودائع بدلاً من المخاطرة بالإدارة التجارية في ظل هذه الظروف الصعبة».

وحذّر الاتحاد الروسي لمراكز التسوق من أن أكثر من 200 مركز تسوق في البلاد مهدد بالإفلاس بسبب ارتفاع تكاليف التمويل.

وعلى الرغم من أن بعض المديرين التنفيذيين والخبراء الاقتصاديين يشيرون إلى أن بعض الشركات قد تبالغ في تقدير تأثير أسعار الفائدة المرتفعة، في محاولة للحصول على قروض مدعومة من الدولة، فإن القلق بشأن الوضع الاقتصادي يبدو مشروعاً، خصوصاً أن مستويات الديون على الشركات الروسية أصبحت مرتفعة للغاية.

ومن بين أكثر القطاعات تأثراً كانت صناعة الدفاع الروسية، حيث أفادت المستشارة السابقة للبنك المركزي الروسي، ألكسندرا بروكوبينكو، بأن الكثير من الشركات الدفاعية لم تتمكّن من سداد ديونها، وتواجه صعوبة في تأمين التمويل بسبب ارتفاع تكاليفه. وقالت إن بعض الشركات «تفضّل إيداع الأموال في البنوك بدلاً من الاستثمار في أنشطة تجارية ذات مخاطر عالية».

كما تحدّث الكثير من المقاولين علناً عن الأزمة الاقتصادية المتزايدة في روسيا. ففي أوائل نوفمبر، أشار رئيس مصنع «تشيليابينسك» للحديد والصلب، أندريه جارتونغ، خلال منتدى اقتصادي إلى أن فروعاً رئيسة من الهندسة الميكانيكية قد «تنهار» قريباً.

وفي الثالث من ديسمبر (كانون الأول)، أفادت وكالة «إنترفاكس» الروسية بأن حالات عدم السداد انتشرت في مختلف أنحاء الاقتصاد، حيث تأخرت الشركات الكبرى والمتوسطة بنسبة 19 في المائة من المدفوعات بين يوليو (تموز) وسبتمبر (أيلول)، في حين تأخرت الشركات الصغيرة بنسبة 25 في المائة من المدفوعات في الفترة نفسها.

وحسب وزارة التنمية الاقتصادية الروسية، فقد انخفض الاستثمار في البلاد، وتسببت العقوبات في ارتفاع تدريجي لتكاليف الواردات والمعاملات المالية، مما أدى إلى زيادة التضخم. كما قال مسؤول مالي روسي كبير سابق، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته بسبب حساسية الموضوع: «ما يحدث هو صدمة إمداد نموذجية في البلاد».

صناعة الدفاع مهددة

تأتي هذه التحديات في وقت حساس بالنسبة إلى صناعة الدفاع الروسية. فعلى الرغم من ضخ بوتين مبالغ ضخمة من التمويل الحكومي في هذا القطاع، مع تخصيص 126 مليار دولار في موازنة العام المقبل، فإن معظم الزيادة في الإنتاج كانت ناتجة عن تعزيز القوة العاملة لتشغيل المصانع العسكرية على مدار الساعة وتجديد مخزونات الحقبة السوفياتية. ومع ذلك، ومع استمرار الحرب ودخولها عامها الثالث، وارتفاع خسائر المعدات العسكرية، فإن القوة العاملة في القطاع قد وصلت إلى أقصى طاقتها، وإمدادات الأسلحة السوفياتية تتضاءل بسرعة.

وتقول جانيس كلوغ، من المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، إن التكاليف المتزايدة والعقوبات المشددة على واردات المعدات تجعل من الصعب على قطاع الدفاع الروسي بناء الأسلحة من الصفر. ووفقاً لتقرير صادر هذا العام عن الباحثَين في المعهد الملكي للخدمات المتحدة بلندن، جاك واتلينغ ونيك رينولدز، فإن 80 في المائة من الدبابات والمركبات القتالية المدرعة التي تستخدمها روسيا في الحرب ليست جديدة، بل جُدّدت من المخزونات القديمة. ويضيف التقرير أن روسيا «ستبدأ في اكتشاف أن المركبات بحاجة إلى تجديد أعمق بحلول عام 2025. وبحلول عام 2026 ستكون قد استنفدت معظم المخزونات المتاحة».

ثقة الكرملين

على الرغم من هذه التحديات يبدو أن الوضع لا يثير قلقاً في الكرملين. وقال أكاديمي روسي له علاقات وثيقة مع كبار الدبلوماسيين في البلاد: «لا يوجد مزاج ذعر». وأضاف أن المسؤولين في الكرملين يعدّون أن «كل شيء يتطور بشكل جيد إلى حد ما». ووفقاً لهذا الرأي، فإن روسيا تواصل تحقيق تقدم عسكري، وفي ظل هذه الظروف، لا يرى الكرملين حاجة إلى تقديم أي تنازلات جادة.

وتزيد الاضطرابات السياسية في العواصم الغربية -بما في ذلك التصويت بحجب الثقة في فرنسا، مع التصويت المرتقب في ألمانيا، بالإضافة إلى اعتقاد الكرملين أن ترمب قد يقلّل من دعمه لأوكرانيا- من الثقة داخل روسيا.

وقد تصدّى بوتين لانتقادات متزايدة بشأن زيادات أسعار الفائدة ورئيسة البنك المركزي، إلفيرا نابيولينا، قائلاً في مؤتمر الاستثمار إن كبح جماح التضخم يظل أولوية بالنسبة إليه. ومع الارتفاع الكبير في أسعار المواد الغذائية الأساسية مثل البطاطس التي ارتفعت بنسبة 80 في المائة هذا العام، يواصل بوتين دعم نابيولينا وزيادات أسعار الفائدة، رغم شكاوى الشركات الكبرى. وقالت كلوغ: «من وجهة نظر بوتين، لا يمكن السماح للتضخم بالخروج عن السيطرة، لأنه يمثّل تهديداً لاستقرار النظام السياسي، ولهذا السبب منح نابيولينا تفويضاً قوياً».

لكن المستشارة السابقة للبنك المركزي، ألكسندرا بروكوبينكو، ترى أن الضغط من الشركات الكبرى لن يهدأ. وقالت: «عندما يكون التضخم عند 9 في المائة، وسعر الفائدة عند 21 في المائة، فهذا يعني أن السعر الرئيس لا يعمل بشكل صحيح، ويجب البحث عن أدوات أخرى. أولوية بوتين هي الحرب وتمويل آلتها، ولا يمتلك الكثير من الحلفاء، والموارد المتاحة له تتقلص». وأضافت أنه من المحتمل أن تتعرّض نابيولينا لمزيد من الضغوط مع استمرار الوضع الاقتصادي الصعب.

ومع تزايد الضغوط على بوتين، أصبحت الصورة في الغرب أكثر تفاؤلاً بشأن فرص التغيير في روسيا، وفقاً لمؤسسة شركة الاستشارات السياسية «ر. بوليتيك» في فرنسا، تاتيانا ستانوفايا.

وأضافت: «بوتين مستعد للقتال ما دام ذلك ضرورياً... لكن بوتين في عجلة من أمره. لا يستطيع الحفاظ على هذه الشدة من العمل العسكري والخسائر في الأرواح والمعدات كما كان في الأشهر الأخيرة».