من التاريخ: السلطان سليم الأول والتوسع العثماني

السلطان سليم الأول
السلطان سليم الأول
TT

من التاريخ: السلطان سليم الأول والتوسع العثماني

السلطان سليم الأول
السلطان سليم الأول

تحوّلت الدولة العثمانية على مدار القرنين الرابع والخامس عشر من قبيلة لتصبح دويلة صغيرة، ثم إمبراطورية، على أيدي سلاطين عظماء، مثل عثمان وأورخان ومراد الأول ومحمد الثاني «الفاتح» (فاتح القسطنطينية) - كما تابعنا على مدار الأسابيع الماضية - ولكن بعد موت محمد «الفاتح»، فإن الدولة العثمانية لم تشهد توسعات جديدة كتلك التي حققها السلطان سليم الأول. لقد كان سليم الأول شخصية محورية في التاريخ العثماني، ليس فقط لحجم فتوحاته، ولكن لنوعيتها أيضًا، إذ إنه السلطان الذي أسقط الدولة المملوكية (دولة المماليك) التي كانت أكبر دولة إسلامية نافست الشرعية العثمانية الوليدة، إضافة إلى تقليم أظافر الدولة الصفوية الشيعية في فارس.
وتبدأ قصة سليم الأول من خلال نسبه إلى والده السلطان بايزيد الثاني ابن السلطان محمد الثاني «الفاتح»، وكان بايزيد رجلاً ورعًا أقرب إلى التقوى والعلم منه إلى الشؤون العسكرية والتوسع، إلا أن الآفة السياسية للسلاطين العثمانيين كانت الخلافات التي نشبت داخل البيت الواحد لوراثة السلطنة، وهو ما دفع بايزيد إلى صراع عنيف مع أخيه جيم، إلى أن انتهت الحروب بينهما بتولي بايزيد الحكم، بعدما ضمن لنفسه مساندة فيالق الإنكشارية، فهرب جيم إلى بابا الفاتيكان، حيث تولى الأخير كل تكاليف إقامته مقابل مبلغ من المال دفعه أخوه السلطان لضمان إبقائه هناك بعيدًا عن الحكم، ولكن سرعان ما جرى التخلّص منه، إذ قتل مسمومًا، ويقال إن بايزيد كان له دور في هذا الأمر.
واتباعًا للقاعدة الإنسانية «كما تدين تدان»، واجه بايزيد المشكلة نفسها مع أبنائه الثلاثة، ومنهم سليم الذي لم يكن والده يريده أن يرث الحكم من بعده. بيد أن سليم أدرك بفراسته السياسية أنه مهدد بتجريده من أية فرصة لتولى العرش، فتحرك سريعًا، وبدأ يمالئ الإنكشارية مرة أخرى في مواجهة أخيه، وحصل على دعم من ابنه سليمان (السلطان سليمان «القانوني» العظيم لاحقًا)، حاكم إحدى الولايات. ومن ثم، أدار ما يمكن تسميته بلغة اليوم انقلابًا عسكريًا ضد والده بايزيد، فعزله واستولى على السلطنة عام 1512. وعلى الفور، وجه سليم الأول رجاله بقتل إخوته الذكور للقضاء على أية منافسة ممكنة، إلا أن دمويته لم تقف عند هذا الحد، بل أمر بقتل كل أبناء أخوته خنقًا، ويقال إنه كان يستمع إلى أنينهم وهم يموتون دون أية شفقة أو رحمة، ودون التفاتٍ لقيمة صلة الرحم. وهكذا، دانت له السلطنة، وبدأ يعد نفسه ليستعيد للدولة العثمانية المجد، من خلال التوجّه الفوري نحو توسيع رقعتها. وكان سليم يرى في ذلك وسيلة يستطيع من خلالها زيادة رقعة دولته من ناحية، وإشغالها بحروب ممتدة تبعد عن الدولة الفرقة، فيوجه الأنظار دائمًا إلى العدوّ الخارجي، وهو ما جعل مدة سلطنته في حروب شبه دائمة.
لقد عمد سليم الأول منذ البداية لمحاولة إيجاد الشرعية المطلوبة للدولة العثمانية للسيطرة على العالم الإسلامي. ويومذاك، كانت هناك دولتان أساسيتان تقفان ضد طموحاته، هما: الدولة الصفوية في إيران، والدولة المملوكية في مصر.
الدولة الصفوية، بقيادة الشاه إسماعيل الصفوي في إيران، تمثلت خطورتها بالنسبة لسليم ليس فقط في كونها الدولة الحدودية الآسيوية ذات القوة، بل لأنها أيضًا كانت تتبع المذهب الشيعي بعد تولى إسماعيل الحكم. وهذا ما كان من وجهة نظره يتنافى مع هدفه بجعل الدولة العثمانية هي المرجعية الإسلامية لكل المسلمين. ومن منطلق تعصبه الشديد للمذهب السنّي، مع أنه لم يكن بتقوى أبيه وورعه، قرّر قبل أن يبدأ الصدام مع الصفويين توجيه جهده للقضاء على الفرق الشيعية في الأناضول كي لا يفاجأ بـ«طابور خامس» داخلي، بينما هو في صراع مع الصفويين الإيرانيين الشيعة. وفي المقابل، اتبع الشاه إسماعيل سياسة «الأرض المحروقة» لإنهاك الجيش العثماني وتراجعه، إلا أن سليم استطاع أن يجره إلى معركة مفتوحة في تشالديران (أو جالديران) عام 1514، وألحق به هزيمة نكراء قوّضت خطورة الدولة الصفوية.
بعد هذا الإنجاز، وجه سليم الأول اهتمامه إلى القضاء على دولة المماليك في مصر التي كان على رأسها في ذلك الوقت السلطان قنصوه الغوري. وواقع الأمر أن الدولة المملوكية في مصر كانت في حالة يرثى لها، إذ فقدت أهم مصادر دخلها، بعدما اكتشف البرتغاليون طريق «رأس الرجاء الصالح»، فتحوّلت التجارة من مصر إلى هذا الطريق الجديد. وعلى الرغم من تعاونه مع الدولة العثمانية لمواجهة الخطر البرتغالي في معركة ديو البحرية عام 1509، فإن الهزيمة المشتركة للأسطولين المملوكي والعثماني أدت إلى إضعاف المماليك كثيرًا. أضف إلى ذلك أن دولة المماليك كانت قد استنفدت آنذاك كل رصيدها التاريخي والسياسي بمرور القرون، وبالتالي أصبحت فرصة القضاء عليها أكبر. مع هذا، لم تكن دولة هينة بطبيعة الحال، لذا كان سليم الأول حذرًا في الصدام معها منذ البداية. وعندما وجه قواته جنوبًا، فإن قنصوه الغوري تحرّك بالجيش المصري صوب الشام، حيث دارت معركة مرج دابق الشهيرة، قرب مدينة حلب، في عام 1516. وكانت هذه المعركة فاصلة، وسمتها الأساسية الخلل الواضح في ميزان القوى لصالح الجيش العثماني الذي اعتمد خلال المعركة بالأساس على المدفعية في مواجهة جيش المماليك الذي اعتمد على الفرسان ورماة السهام. ولقد حسم الهجوم المكثف لسلاح المدفعية المعركة لصالح العثمانيين عند نقطة بعينها، وتضيف كتب التاريخ لذلك خيانة خائر بك، والي حلب وقائد ميسرة الجيش، الذي انضم للجيش العثماني، وبذا تسبب في فوضى في صفوف جيش المماليك، ثم انسحب وسط سقوط نسبة كبيرة من الجيش بين قتيلٍ وجريح، مقابل خسائر أقل في صفوف الجيش العثماني. ووسط الفوضى، قتل السلطان قنصوه الغوري تحت سنابك الخيل. وهنا، تعددت الروايات التي لا تجد لها سندًا بشأن مقتله وسط هذه الفوضى، أو مقتله في أثناء محاولة هروبه هو وكامل الجيش. وتتطرق بعض الروايات غير المؤكدة أيضًا إلى أن أحد ضباطه قطع رأسه ودفن الرأس كي لا يتعرف عليه العثمانيون ويتشفّون به. ولكن أغلب الظن أن الغوري مات بجلطة دماغية نتيجة للحسرة. وعلى الفور، توجه السلطان سليم إلى الحجاز، حيث ضمها لحكمه بعدما أدى مناسك الحج.
وقبل استيلاء سليم الأول على مصر، فإنه استولى على مفهوم «الشرعية» عندما احتجز الخليفة العباسي الذي غدا في ذلك الوقت مجرد رمز في أيدي السلاطين المماليك لتثبيت شرعيتهم في حكم مصر والحجاز. ومن ثم، أرسل للسلطان المملوكي الجديد طومان باي ما يفيد بأن الخليفة العباسي تنازل له عن الخلافة، وطالبه بتسليم مصر. إلا أن طومان باي رفض تمامًا، وجهّز البلاد لمواجهة الجيش العثماني الغازي. وقد صمد بالفعل السلطان المملوكي أمام الجيش العثماني لفترة زمنية غير قليلة، بل إنه استطاع أن يكبّد القوات العثمانية خسائر ملحوظة، وكان من الممكن أن تستمر الحرب مع العثمانيين، لولا استدراجه لحوار مع سليم الذي أبدى إعجابه الشديد به وبجلده على الحرب، غير أن مستشاري سليم أبدوا قلقهم من مهادنة الرجل، وإبقائه على ولاية مصر كما كان يفكر، فقضي الأمر بشنق طومان باي على باب زويلة، وترك جثته عبرة لمن حوله. وهكذا، انتهت بموته دولة المماليك في مصر، ودخلت مصر حظيرة حكم الدولة العثمانية لقرون مقبلة.
وواقع الأمر أنه يمكن اعتبار عام 1517 تاريخ الإعلان الرسمي للخلافة العثمانية على البقاع المركزية في العالم الإسلامي، بعد سقوط مصر، ومن قبلها تقليم أظافر الصفويين في إيران. وهذا بالضبط ما كان يطمح إليه السلطان سليم الأول، ومن قبله سلاطين آخرين، منذ فترة طويلة. وبالفعل، انتقلت الخلافة رسميًا إلى إسطنبول، بعدما جرّدت مصر من شرعيتها وخيرة رجالها من الصناع المهرة والعلماء الذين انتقلوا للاستقرار في العاصمة العثمانية. ومنذ ذلك التاريخ حتى عام 1807، عاشت مصر أضعف حالاتها السياسية والعسكرية والاقتصادية منذ الفتح الإسلامي لها في القرن السابع الميلادي، وذلك بسبب سوء الإدارة العثمانية، وسعي إسطنبول المستمر لإخراج القاهرة من المعادلة السياسية الإسلامية والدولية. لكن هذا الحال تغير تمامًا خلال الفترة من 1831 حتى 1839، بعدما كاد الجيش المصري أن يرث الدولة العثمانية، لولا تدخل الدول الغربية عسكريًا، وفقًا لمعاهدة لندن 1840.
لقد كان السلطان سليم الأول شخصية غير خلافية، إذ إنه كان فظًا، غليظ القلب، دموي الطابع، سادي التوجّه، لا يكترث كثيرًا بمن حوله أو بأسرته، وكان يحكم بالحديد والدم، ويذكر المؤرخون أنه كان سيء الظن بمن حوله، وهو ما جعله يقتل سبعة من رؤساء وزرائه. ويقال في روايات التاريخ إن أحد رؤساء وزرائه قال له إنه يخشى أن يقوم بقطع رقبته دون إنذار سابق، فضحك سليم وقال له: «أنا فعلاً قررت أن أقطع رقبتك، ولكن ما يحول دون ذلك أنني لم أجد من يحل محلك بعد!».
وعلى الفور، توجه سليم بعد بسط نفوذه على مصر، ليمد دولته إلى الخط الساحلي الليبي، قبل أن يتوجه إلى الشمال مرة أخرى، إلا أن القدر لم يمهله كثيرًا، إذ إنه مات متأثرًا بالسرطان وهو في طريق عودته. وإذا ما جاز لنا أن نقيم سيرة السلطان سليم الأول، فإن أهم إنجازه إلى جانب التوسع الجغرافي هو صك الشرعية الجديدة على ملكه باعتباره «خليفة المسلمين»، مما جعل حكمه مهمًا للغاية لمستقبل الدولة العثمانية، شكلاً وموضوعًا. وبمماته، آلت السلطنة من بعده إلى واحد من أعظم سلاطين بني عثمان، وهو السلطان سليمان «القانوني».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.