دولت بهشلي.. سياسي تركيا العجوز ولغزها المحيِّر

عقّد الحياة السياسية بـ«لاءاته» وعارض النظام الرئاسي.. ثم أصبح أول مروّج له

دولت بهشلي.. سياسي تركيا العجوز ولغزها المحيِّر
TT
20

دولت بهشلي.. سياسي تركيا العجوز ولغزها المحيِّر

دولت بهشلي.. سياسي تركيا العجوز ولغزها المحيِّر

بعدما عُرف رئيس حزب الحركة القومية التركي المعارض دولت بهشلي بـ«رجل اللاءات» الذي تسبّب في تعقيد المشهد السياسي في البلاد، وجعلها تعيش صيفًا مضطربًا بعد انتخابات السابع من يونيو (حزيران) 2015، التي خسر فيها حزب العدالة والتنمية الحاكم للمرة الأولى فرصة تشكيل الحكومة منفردا، أطل بوجه «توافقي» مختلف تمامًا عقب محاولة الانقلاب الفاشلة التي تعرضت لها تركيا منتصف يوليو (تموز) الماضي.
وتحوّلت سياسات بهشلي إلى لغز محيّر عقب انتخابات يونيو 2015، فبدلاً من أن يبادر حزبه إلى تقديم الرؤى والمشاريع السياسية والحلول للمشكلات المستعصية، عمد إلى انتهاج سياسة سلبية تقوم على ردود الفعل، وتتمركز حول العداء الصريح المعلن لشخص رئيس الجمهورية رجب طيب إردوغان، وتحميله مسؤولية كل شيء، وانتقاده بأسلوب يخلو من اللباقة والدبلوماسية، مما دفع إردوغان إلى الرد بالمثل.
رفع الزعيم القومي التركي دولت بهشلي «لاءاته» الشهيرة بعد انتخابات يونيو العامة التركية، وهي: لا للمشاركة في حكومة ائتلافية، سواء مع حزب العدالة والتنمية أو مع غيره من الأحزاب الأخرى؛ ولا لتشكيل حكومة أقلية مؤقتة تسير شؤون البلاد إلى حين إجراء الانتخابات المبكرة؛ ولا للمشاركة في أي تشكيل حكومي يكون حزب الشعوب الديمقراطي طرفًا فيه.
ثم أدهش بهشلي، السياسي العجوز المخضرم، الذي عاني خلال ما يقرب من عام من صراعات داخل حزبه تمكّن من التغلّب عليها في النهاية بالإطاحة بخصومه الذين نازعوه على رئاسة الحزب، وفي مقدمتهم نائبته ميرال أكشنار، الشارع التركي بمواقفه الإيجابية منذ محاولة الانقلاب. فمنذ ذلك الحين، ساير حزب العدالة والتنمية في خطواته لوقف التهديدات التي تتعرّض لها تركيا، وأيد فرض حالة الطوارئ ثم تمديدها، والأبعد من ذلك تأييده للنظام الرئاسي، ومطالبة نواب حزبه في البرلمان بالاستفتاء عليه.
وإذا كان هذا ليس بغريب على الحركة القومية، بوصفه حزبًا يدافع عن القومية التركية، إلا أن ما بدا غريبا حقا هو الدوران العكسي لزعيم الحزب بهشلي، الذي تسبب في عرقلة تشكيل حكومة ائتلافية عقب انتخابات يونيو 2015 بسبب رفضه فكرة النظام الرئاسي الذي طالب به رجب طيب إردوغان من أجل توسيع سلطاته.
وكان بهشلي قد دخل في معارك وتلاسن حاد مع إردوغان منذ بدأ الحديث عن النظام الرئاسي بشكل كثيف في عام 2013، وشكّل جبهة مع حزب المعارضة الرئيسي (الشعب الجمهوري) وعدد آخر من الأحزاب للدفع بمرشح توافقي في انتخابات الرئاسة في أغسطس (آب) 2014، في محاولة لمنع إردوغان من الفوز بها، وقدّموا الرئيس السابق لمنظمة التعاون الإسلامي الدكتور أكمل الدين إحسان أوغلو مرشحًا منافسًا لإردوغان، فضلا عن رئيس حزب الشعوب الديمقراطي الكردي صلاح دين دميرتاش الذي دخل مرشحًا ثالثًا، ولكن فاز إردوغان في نهاية المطاف بنسبة 52 في المائة من أصوات الناخبين.
النظام الرئاسي كان سببًا رئيسيا لحالة من الانقسام السياسي والاستقطاب المجتمعي في تركيا، لذلك سعى رئيس الوزراء السابق الدكتور أحمد داود أوغلو لإسقاطه من أجندة حزب العدالة والتنمية في حملة الدعاية للانتخابات المبكرة التي أجريت في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني)، والتي استعاد فيها الحزب الحاكم غالبية مكّنته من تشكيل الحكومة، لكنها لم تمكنه من الانفراد بالقرار في البرلمان.
في هذه الانتخابات التي طالب بها بهشلي منذ البداية، خسر حزبه نسبة كبيرة من أصواته، ولم يحصل إلا على 40 مقعدًا من مقاعد البرلمان، وأصبح ترتيبه الرابع بين الأحزاب الممثلة في البرلمان، خلف أحزاب العدالة والتنمية والشعب الجمهوري والشعوب الديمقراطي، وذلك بسبب التعنّت وسياسة الـ«لاءات» التي اعتمدها بهشلي في هذه الفترة.
جديد بهشلي
الجديد الذي أذهل الرأي العام والوسط السياسي والمتابعين للشأن التركي، كان تصريح دولت بهشلي، الأسبوع قبل الماضي، حول إمكانية الذهاب إلى استفتاء شعبي فيما يخصّ النظام الرئاسي والدستور الجديد. وجاء ذلك في لقاء صحافي عقده بهشلي في مركز حزب الحركة القومية، وأجاب فيه عن الأسئلة المتعلقة بآخر المستجدات المحلية. وبعدها، أعلن رئيس الوزراء بن علي يلدريم أن حكومته ستتقدم قريبا إلى البرلمان بمشروع دستور جديد يتضمن النظام الرئاسي، وأن ذلك لا يسبب أية مشكلة بينه بوصفه رئيسًا للحكومة والرئيس رجب طيب إردوغان بوصفه رئيسًا للجمهورية، وأنه أوضح منذ البداية أن حكومته ستعمل على تطبيق النظام الرئاسي، وستسير على منهج الزعيم التاريخي للحزب رجب طيب إردوغان. ومن ثم، قدم يلدريم الشكر إلى بهشلي لدعمه.
ويوم الاثنين الماضي، التقى يلدريم وبهشلي لإجراء مزيد من النقاش حول النظام الرئاسي والدستور الجديد، وعاد بهشلي ليدعم من جديد الاستمرار في النقاشات حول النظام الرئاسي والدستور الجديد، قائلا: «علينا أن نرى أولا النص الذي سيُقدم إلى البرلمان من قبل اللجان التي كلفت بهذا الأمر؛ منذ زمن والمباحثات جارية في هذا الصدد.. تركيا بحاجة ماسة إلى صيغة جديدة متفق عليها في ظل التطورات العالمية الحالية».
وأكد بهشلي ضرورة إنهاء المباحثات والجدل الدائر حول النظام الرئاسي والدستور الجديد، من خلال الصيغ الجديدة التي من الممكن الاتفاق حولها، موضحا أن «رؤية حزب الحركة القومية تتلخص في إيجاد صيغة من شأنها أن تعطي الأولوية للوطن، وكذلك من شأنها أن تسهم في حل المشكلات التي تعترض تركيا». واعتبرت الأوساط السياسية في تركيا أن بهشلي أعطى بهذه التصريحات الضوء الأخضر لإمكانية الذهاب إلى استفتاء شعبي على الدستور الجديد الذي سيتضمن النظام الرئاسي.
خلافات المعارضة
الموقف الجديد لبهشلي فتح زاوية للخلاف في أوساط المعارضة التركية، بعدما انتقد بشكل غير مباشر موقف حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، الذي انضوى بعد فشل محاولة الانقلاب تحت مظلة التوافق وروح التضامن التي حدثت في تركيا، لكنه أراد ألا يتخلى عن دوره بوصفه حزبا معارضا وظيفته توجيه النقد للسياسات والقرارات التي يرى أنها لا تنسجم مع رؤيته. إذ قال بهشلي: «نحن عبرنا عن موقفنا. وفي النهاية، كلّ يتبنى الروح التي يريدها، ومن لا يريد أن يتبنى تلك الروح أسأل الله أن يسهل طريقه».
وهذا الموقف من جانب بهشلي عرضه لانتقادات حادة من جانب حزب الشعب الجمهوري، إذ ردّت المتحدثة باسم الحزب سيلين ساياك بوكيه على انتقادات الزعيم القومي العجوز لرئيس الحزب كمال كليتشدار أوغلو، واصفة التحول الكبير لحزب الحركة القومية، ورئيسه بهشلي، من التعنت في رفض النظام الرئاسي والتوافق بين الأحزاب عقب انتخابات يونيو 2015 إلى الترويج للنظام الرئاسي حتى قبل أن تفتح الحكومة هذا الموضوع، وفتحه الباب أمامها لعرضه على البرلمان، بأن «الحركة القومية بات مثل إطار السيارة البديل (الاستبن) لحزب العدالة والتنمية الحاكم، يستعان به في وقت الأزمات». وعندما سئل بهشلي عن تعليقه على هذا الوصف، قال: «كان على زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليتشدار أوغلو الردّ على هذا التصريح».
وأوضح بهشلي أن لحزبه مبادئ وأهدافا وغايات خاصة به، وليس بحاجة لأن يكون «استبنًا» لحزب آخر يستعين به وقت الأزمات، ولفت إلى أن أي فهم مختلف لموقف حزبه هو فهم خاطئ، موضحًا: «عندما يخرج أحدهم ويتحدث بصفته الناطق لحزب الشعب الجمهوري، وينعتنا بهذه النعوت، على زعيم الحزب كمال كليتشدار أوغلو أن يعطي الرد اللازم».
غالبية الثلثين
جدير بالذكر أن الموافقة على أي تعديل دستوري في البرلمان مباشرة تحتاج إلى غالبية ثلثي أعضاء البرلمان (367 صوتا من بين 550 هو عدد مقاعد البرلمان)، ومن أجل طرح تعديل الدستور في استفتاء شعبي هناك حاجة لموافقة ثلاثة أخماس أعضاء البرلمان (330 صوتا)، يملك حزب العدالة والتنمية 317 مقعدا (بما فيها مقعد رئيس البرلمان إسماعيل كهرمان). ولذلك، فهو يحتاج إلى دعم أحزاب أخرى لإجراء أي تعديل للدستور أو طرح التعديل في استفتاء شعبي.
ولهذا السبب، تحمّس إردوغان وحزب العدالة والتنمية بعدما طرح بهشلي - الذي يرأس حزبا يملك 40 مقعدا في البرلمان - هذه الفكرة.
في المقابل، قوبل تصريح بهشلي بانتقادات من حزبي المعارضة الكبيرين الشعب الجمهوري والشعوب الديمقراطي، واعتبر كليتشدار أوغلو، رئيس حزب الشعب الجمهوري، أن حزب الحركة القومية «عقد صفقة سرية مع حزب العدالة والتنمية في خطوة معادية للديمقراطية»، بينما قال إدريس بالوكين، نائب رئيس حزب الشعوب الديمقراطي الذي يركّز على مشكلة الأكراد، إن حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية «يحاولان جرّ تركيا إلى الديكتاتورية».
ونتيجة لردود الأفعال هذه، قال المتحدث باسم حزب الحركة القومية إرجان أكتشاي، إن تصريحات بهتشلي أسيء فهمها، مشددا على أن بهشلي لم يقل إن حزب الحركة القومية يدعم النظام الرئاسي، وأن الحزب في الواقع يدعم تعزيز النظام البرلماني في تركيا. لكن التصريح المفاجئ لبهشلي أشعل فتيل الأزمة من جديد، بعد أن قال مصطفى شينتوب، رئيس اللجنة الدستورية في البرلمان العضو البارز في حزب العدالة والتنمية، إن إجراء الاستفتاء قد يكون ممكنا في ربيع عام 2017، كما قال وزير العدل بكير بوزداغ: «إذا وافق حزب الحركة القومية، يمكننا تغيير النظام في تركيا في مطلع عام 2017». والآن، في حين يسري في كواليس حزب الشعب الجمهوري أن رئيس الحزب كمال كليتشدار أوغلو طلب من نوابه التأهب لإجراء انتخابات مبكرة في شهر أبريل (نيسان) 2017، يرى مراقبون أن بهشلي يرمي من وراء خطوته إلى تعزيز مكانة حزب الحركة القومية مرة أخرى على الساحة السياسية بعد الخسائر التي لحقت به في الانتخابات البرلمانية في نوفمبر من العام الماضي. ومن ثم، تقديم وجه مختلف للناخب التركي الذي اعتبر بهشلي وحزبه عقبه في طريق الاستقرار السياسي في البلاد.
كذلك يسعى الزعيم القومي إلى إعادة تأكيد قوته، واستعادة موقع الحزب على الخريطة السياسية في تركيا، بعد ما لحق به من أزمات، وبعدما استطاع أن يتخلص ممن كانوا ينازعونه سلطته، ويريدون اعتلاء منصب الرئيس عبر الدعوة إلى مؤتمر عام استثنائي للحزب، وإجراء انتخابات جديدة على منصب الرئيس، لكنه تمكن من التغلب عليهم، وأحالهم إلى مجلس التأديب بالحزب الذي قرر فصلهم.
وللعلم، كانت أبرز عقبة أمام بهشلي في إحكام قبضته على الحزب نائبته ميرال أكشنار التي كانت تتمتع بشعبية واسعة في صفوف الحزب، والتي قادت جناحًا معارضًا، إلا أن الأمر انتهى بطردها من الحزب بقرار من المجلس التأديبي في أعقاب نجاح بهشلي بتفكيك هذا الجناح المعارض، لتقود المعركة منفردة.
واعتبرت أكشنار أن قرار طردها من الحزب لا أصل قانونيًا له «لأنه اتخذ من قبل إدارة ذات مشروعية مثيرة للجدل لا وجود لها في ضمير الشعب التركي»، من وجهة نظرها، ملوّحة إلى أنها ستلجأ للقضاء.

بهشلي في سطور
- ولد دولت بهشلي في الأول من يناير (كانون الثاني) 1948، في بلدة بهشة بمحافظة عثمانية، في جنوب تركيا، لعائلة غنية تنتمي أساسًا إلى حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه مصطفى كمال أتاتورك وعصمت إينونو.
- اختار في شبابه الانضمام إلى الحركة القومية التي تزعمها إلب أرسلان توركيش.
- تخرج في أكاديمية العلوم الاقتصادية والتجارية بجامعة أنقرة، عام 1971، وحصل على الدكتوراه في الاقتصاد من معهد العلوم الاجتماعية بجامعة غازي (أو الغازي).
- عمل في الجامعة نفسها أستاذا محاضرًا حتى عام 1987.
- لم يتزوج حتى اليوم، وهو يتمتع بشخصية جادة قوية بعيدة عن الفساد.
- كان أستاذًا جامعيًا عندما دعاه إلب أرسلان توركيش، زعيم حزب العمل القومي (الحركة القومية، الآن)، ليكون أحد قيادات الحزب. وبعد وفاة توركيش عام 1997، تسلّم قيادة الحزب.
- لمع نجمه في انتخابات 1999، عندما أحرز الحزب نجاحًا كبيرًا، وفاز بنسبة 18 في المائة من الأصوات، ودخل البرلمان في المركز الثاني، حاصلا على 129 مقعدا.
- شارك الحزب في الائتلاف الحاكم، مع حزب اليسار الديمقراطي وحزب «الوطن الأم»، وعيّن بهشلي وزيرًا ونائبًا لرئيس الوزراء
- يحسب ضده مشاركته في الائتلاف الحاكم الذي عاشت البلاد في عهده أزمة اقتصادية طاحنة، ومعارضته لمنح الأكراد الحريات الثقافية، وموقفه المناهض لعضوية الاتحاد الأوروبي.



ترسيم حدود لبنان وسوريا يشكّل الاختبار الأول لعلاقاتهما

الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي يتوسط الوزيرين منسى وابو قصرة في لقاء التوقيع بمدينة جدة (واس)
الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي يتوسط الوزيرين منسى وابو قصرة في لقاء التوقيع بمدينة جدة (واس)
TT
20

ترسيم حدود لبنان وسوريا يشكّل الاختبار الأول لعلاقاتهما

الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي يتوسط الوزيرين منسى وابو قصرة في لقاء التوقيع بمدينة جدة (واس)
الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي يتوسط الوزيرين منسى وابو قصرة في لقاء التوقيع بمدينة جدة (واس)

شكّلت الاشتباكات التي شهدتها الحدود الشرقية للبنان منتصف شهر مارس (آذار) الحالي أول اختبار للدولتين اللبنانية والسورية الجديدتين، في مقاربة الملفات المعقّدة والمتراكمة التي كان النظام السوري السابق كما الحكومات اللبنانية التي كان يسيطر عليها «حزب الله» تفضّل أن تبقى مجمّدة على حالها تبعاً لمصالح الطرفين. الحدود اللبنانية - السورية تمتد على طول أكثر من 375 كلم. ويُجمع الخبراء على أن تأخر ترسيمها، ووجود عوامل جغرافية واجتماعية تضاف إليها عوامل أخرى سياسية وأمنية، أمور تجعل منها «خاصرة رخوة» للبلدين، قد تشهد تجدد المواجهات العسكرية في أي وقت كان، وبخاصة أن فيها عشرات المعابر غير الشرعية التي تُستخدم لتهريب الأفراد والسلع والسلاح منذ سنوات طويلة.

شهد ملف ترسيم الحدود اللبنانية - السورية خلال الساعات الماضية خرقاً كبيراً بالإعلان من مدينة جدّة عن توقيع اتفاق برعاية ووساطة المملكة العربية السعودية بين وزير الدفاع اللبناني ميشال منسّى ووزير الدفاع السوري مُرهف أبو قصرة، جرى فيه التأكيد على «الأهمية الإستراتيجية لترسيم الحدود بين البلدين، وتشكيل لجان قانونية ومتخصصة بينهما في عدد من المجالات، وتفعيل آليات التنسيق بين الجانبين للتعامل مع التحديات الأمنية والعسكرية على أن يُعقد اجتماع متابعة في المملكة العربية السعودية خلال الفترة المقبلة».

الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي يتوسط الوزيرين منسى وابو قصرة في لقاء التوقيع بمدينة جدة (واس)
الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي يتوسط الوزيرين منسى وابو قصرة في لقاء التوقيع بمدينة جدة (واس)

مصادر مطلعة رأت أن دخول المملكة العربية السعودية على خط الوساطة بين البلدين «يجعل أي اتفاق أو تفاهم أمكن التوصل إليه ملزِماً للطرفين ويعطيه بُعداً أكثر جدية». وما تجدر الإشارة إليه هنا أن الجيش اللبناني ينشر 4 أفواج على طول الحدود اللبنانية - السورية بعدد عناصر يبلغ نحو 4838 عنصراً، يتوزّعون على 108 مراكز من بينها 38 برج مراقبة مجهزين بكاميرات وأجهزة استشعار ليلية، كما كان قد أعلن رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي. إلا أن هذا الواقع لم يحُل دون مواجهات عنيفة شهدتها هذه الحدود بدأت بين العشائر، وانضم إليها «حزب الله» قبل أن تتحوّل بين الجيش اللبناني وقوات الأمن السورية؛ ما أدى إلى مقتل 7 أشخاص في لبنان و3 من الجانب السوري.

التطورات الميدانية

المناطق الحدودية – في شمال شرقي لبنان بالذات - كانت قد شهدت، بعد سقوط النظام السابق في دمشق، اشتباكات متفرقة بين مهرّبين من الطرفين. وأطلقت قوات الأمن السورية خلال شهر فبراير (شباط) الماضي حملة أمنية في محافظة حمص التي تحدّ شمال لبنان وشماله الشرقي؛ بهدف إغلاق الطرق المستخدمة في تهريب الأسلحة والبضائع. وتتهم هذه القوات «حزب الله» بأنه ينشط في رعاية عصابات التهريب عبر الحدود، وأن المواجهات المسلحة التي خاضتها على الحدود الشرقية للبنان شارك فيها عناصر الحزب بشكل مباشر. غير أن قيادة «حزب الله» نفت أي علاقة له بالموضوع.

وفي منتصف الشهر الحالي، بعد مواجهات دامية بين الطرفين على أثر اتهام سوريا عناصر «حزب الله» بدخول أراضيها وخطف وقتل ثلاثة من أفراد الجيش السوري، دخل الجيش اللبناني على الخط بإيعاز من رئيس الجمهورية العماد جوزيف عون الذي أعطى توجيهاته بالردّ على مصادر النيران والانتشار في بلدة حوش السيد علي التي شهدت أعنف المواجهات. ومن ثم، أوكل الرئيس عون وزير الخارجية اللبناني يوسف رجّي التواصل مع السلطات السورية لحل الأزمة، قبل أن يتسلّم وزير الدفاع منّسى الملف.

الترسيم أولاًفي أي حال، يرى كثيرون أن حل الأزمة الحدودية بين البلدين تبدأ بترسيم الحدود. وحقاً، هذا ما نصّ عليه قرار مجلس الأمن الدولي في عام 2006، وحمل الرقم 1680، ولحظ إلى جانب الترسيم إقامة علاقات دبلوماسية رسمية بين البلدين، كما أكد على وجوب نزع سلاح الميليشيات. غير أن سوريا رفضت، يومذاك، القرار، واعتبرته تدخلاً في شؤونها الداخلية، بينما رحّب به عدد من الدول الغربية بجانب الحكومة اللبنانية.

قوات في المنطقة الحدودية بين سوريا ولبنان (آ ب)
قوات في المنطقة الحدودية بين سوريا ولبنان (آ ب)

العميد المتقاعد خليل الحلو، الباحث اللبناني في الشؤون السياسية والاستراتيجية، يرى أن «مسألة ترسيم الحدود مع سوريا ليست مسألة طوبوغرافية حصراً، إنما لها بُعد اجتماعي باعتبار أن لدى كثيرين من اللبنانيين أملاكاً في الجهة السورية من الحدود، ما يتطلب نقاشات ومفاوضات طويلة». ويلفت الحلو في لقاء مع «الشرق الأوسط» إلى أن «القضية لا تُحل على مستوى وزيري الدفاع أو الجيشين اللبناني والسوري، بل تحتاج إلى مؤتمر قمة بين رئيسي جمهورية البلدين يضم وزراء متخصصين، وهي ورشة إذا ما انطلقت قد تستمر لسنوات».

وفق الحلو، فإن «تطبيق القرار الدولي 1680 مرتبط بشكل أساسي بقدرة الجيش اللبناني على الانتشار لضبط الحدود. وراهناً لديه 4 أفواج حدود برّية وعشرات أبراج المراقبة، كما يمتلك سلاح جو. وبالتالي، إذا ما كُلّف فعلياً ضبط الحدود عبر قرار سياسي واضح، لا بالكلام وحده، فهو قادر على ذلك، من دون تناسي أدوار الأجهزة الأمنية الأخرى في هذا المجال».

للعلم، تربط لبنان وسوريا 6 معابر نظامية، هي:

- معبر المصنع الذي يربط بين بيروت ودمشق من جهة البقاع الشرقي

- معبر جوسية الواقع بين بلدة القاع اللبنانية ومدينة القصير السورية

- معبر مطربا شرقي مدينة الهرمل اللبنانية

- معبر الدبوسية بشمال لبنان

- معبر تلكلخ غربي محافظة حمص، مقابل منطقة وادي خالد في عكار

- ومعبر العريضة قرب الشاطئ الذي يؤدي من شمال لبنان إلى مدينة طرطوس السورية.

أما المعابر غير الشرعية فتعدُ بالمئات.

الرؤية السورية

في هذه الأثناء، ترى جهات رسمية لبنانية، فضَّلت إغفال ذكر هويتها، أن السلطة الجديدة في سوريا «لا تبدو متحمسة أو مستعجلة» لبت الملفات العالقة مع لبنان، سواء الملف الحدودي أو ملف اللاجئين أو سواها من الملفات؛ نظراً لأن أولوياتها لا تزال محصورة بضبط الوضع في الداخل السوري، ومعالجة مئات الملفات لتسهيل أمور الناس داخل البلاد. وتشير مصادر في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إلى وجود علامات استفهام حول قدرة السلطات الجديدة هناك من الإمساك بكامل الأراضي السورية وضمناً الحدود.

في المقابل، توضح السياسية والباحثة السورية - الأميركية الدكتورة مرح البقاعي لـ«الشرق الأوسط» أن «الدولة الجديدة في سوريا لا تزال في مرحلة التأسيس؛ إذ لم يتجاوز عمرها ثلاثة أشهر». ومن ثم تتطرق إلى «الكثير من القضايا والمشكلات العالقة في الداخل السوري، خصوصاً بعد سقوط نظام استبدّ بالحكم لمدة خمسين سنة ونصف السنة. لذلك؛ حتى الآن، لم يكتمل المشهد الداخلي السوري بصورته الرسمية والإجرائية».

وترى البقاعي أن «الاشتباكات عبر الحدود هي في منطقة لطالما كانت غير مستقرة لعقود. ثم أنها كانت تحت سيطرة النظام السابق في سوريا، شهدت تفاعلات معقدة، إذ كانت بعض العشائر المحلية على وفاق مع النظام الذي رحل، كما كان لها علاقات مع (حزب الله) في لبنان. هذه العشائر كانت تعمل على طرفي الحدود، وتعتمد بشكل أساسي على التهريب مصدراً للموارد».

وبحسب البقاعي، «تكمن المشكلة الأساسية في هذه المنطقة الحدودية - وتحديداً في المنطقة الشرقية - في غياب الأمن والسيطرة الفعلية، حيث تنتشر عصابات التهريب التي اعتاشت لعقود على هذه الأنشطة في ظل غياب أي تنمية حقيقية. ومع الواقع الجديد في البلدين، أتت الاشتباكات نتيجةً مباشرة لمحاولة الأطراف الجديدة فرض سيطرتها».

أما عن رؤيتها للحل، فتقول الباحثة السورية - الأميركية إنه «من الضروري البدء بوقف عمليات التهريب، لكن الحل الجذري يتطلب العودة إلى مسألة ترسيم الحدود بين البلدين. وهذا أمر معقّد وسيأخذ وقتاً؛ إذ إنه مرتبط بالوضع الإقليمي ككل، وليس فقط بالحدود اللبنانية - السورية، بل يشمل أيضاً الحدود اللبنانية مع إسرائيل».

وللعلم، تعدّ مصادر نيابية لبنانية أن وضع الحدود السورية الراهن مرتبطاً إلى حد كبير بوضع الحدود الجنوبية. وتشير لـ«الشرق الأوسط» إلى «وجود قرار أميركي - إسرائيلي حاسم بتضييق الخناق على (حزب الله)، وقطع كل طرق إمداده بكل الوسائل، ومن هنا تُفهم عمليات القصف الإسرائيلي التي نشهدها للحدود الشرقية بين الحين والآخر».

ولادة متعسّرة

في الحقيقة، بعد سقوط النظام في سوريا، كانت هناك خشية لبنانية كبيرة من تفلّت أمني ينسحب على لبنان. وظلّت السلطات في بيروت تراقب من بعيد التطورات إلى أن قرّر رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي زيارة دمشق للقاء الرئيس السوري أحمد الشرع منتصف يناير (كانون الثاني) الماضي، إلا أن اللقاء بقي دون نتائج. وعملية.

أيضاً، عُقد لقاء بين الشرع وعون على هامش القمة العربية في مارس (آذار) الحالي، شدَّدا خلاله على ضرورة ضبط الحدود بين البلدين. لكن المواجهات المسلحة التي تلت اللقاء أكدت أن الملف يتطلب معالجة أعمق وعلى المستويات كافة.

هنا لا تُنكر مرح البقاعي أن «العلاقات السورية - اللبنانية تشهد ولادة متعسّرة، سواءً في سوريا بعد سقوط النظام، أو في لبنان بعد الفراغ الحكومي الطويل. وكلا البلدين في حاجة ماسة إلى التعاون في مختلف المجالات، وأهمها المجال الأمني».

وهي ترى أيضاً أن «ما يمنح الدولة السورية الجديدة شرعية كبيرة، ويجعل المجتمع الدولي، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية، يثق بها، هو أن بعض المجموعات التي كانت في السلطة سابقاً والمصنّفة على قوائم الإرهاب لم تعُد جزءاً من المشهد». وتتابع أن «الدول الأوروبية بدأت بالتعامل بشكل إيجابي مع الدولة الوليدة في سوريا. والسبب الرئيس لهذا التغير هو قدرة السلطات الجديدة في سوريا على إنهاء وجود حزب الله والميليشيات الإيرانية في البلاد خلال وقت قياسي... وهذا إنجاز يحسب لها، ليس فقط على المستويين الدولي والإقليمي، بل أيضاً بالنسبة للشعب السوري نفسه. إذ تم تحرير سوريا، وحياتها العامة، ومجتمعها من قبضة النفوذ الإيراني، الذي تسبّب في حالة من الفساد وانعدام الاستقرار لعقود طويلة».