ديكارت دربنا على العزل المنهجي لمواجهة المعضلات

بأصالته وقوة منهجه وتأثيره على من جاء بعده

ديكارت
ديكارت
TT

ديكارت دربنا على العزل المنهجي لمواجهة المعضلات

ديكارت
ديكارت

تنبه العلماء بدءًا من القرن السابع عشر، إلى أهمية المنهج لسبر أغوار العالم الذي اتضحت ملامحه مع الفيلسوف ديكارت (1596 - 1650)، الذي وجد، بدوره، أن معيار الحقيقة هو الوضوح، مقلدًا في ذلك الرياضيات، ما دام أن هذه الرياضيات - كما اعتقد - مجمع عليها ومتفق حولها، نظرًا لوضوح وبداهة منطلقاتها. لهذا فحل أي مشكلة في القضايا الأخرى، يكمن في تقليدها، وذلك بتدريب عقلنا على ألا يقبل إلا الواضح كحقيقة، ويعلق الأحكام فيما هو غامض إلى أجل غير مسمى. وهذا ما دفع ديكارت إلى بدء مشروعه المنهجي بالقاعدة التالية: «يجب ألا أقبل شيئًا قط على أنه حق، ما لم يتبين لي، بالبداهة العقلية، أنه كذلك. ويجب ألا أحكم على الأشياء إلا بما يتمثله الذهن، بوضوح وتمييز، ينتفي معهما كل سبيل إلى الشك». هذه القاعدة، توضح أن معيار الحقيقة الذي ركز عليه ديكارت، يكمن في البداهة والوضوح. فما دامت الفكرة غامضة، فلا يمكن للعقل إصدار الحكم بصوابها، حتى يتم التقصي والضبط، وأخذ الوقت الكافي لجعلها تنجلي، وإلا على الأقل، تعليق الحكم احترامًا لهذا العقل. وبهذا، فأي مشكلة ملغزة تواجهنا في الحياة، ويختلط علينا أمرها، تكون أول خطوة منهجية للتعامل معها، هي ألا نسرع في إصدار أحكام طائشة تجعلنا لا نسيطر عليها.
لكن يبقى السؤال العالق، هو كيف السبيل إلى الوضوح؟ وما الطريقة الأقل كلفة التي يقدر عليها عقلنا وتتلاءم وقدراتنا نحن البشر؟ الجواب يكمن في التعامل مع العالم كآلة ميكانيكية، انطلاقًا من قاعدتي التحليل والتركيب. فكيف ذلك؟
إنه لكي نتمكن من القبض على المشكلة قيد الدراسة ومواجهتها وتبديد غموضها، وجب - حسب ديكارت - تحليلها وتفكيكها إلى أجزائها الواضحة. فذلك يعد بمثابة مهارة متاحة لنا كبشر، لفهم المعقّد وفك شفرة الألغاز. فالإنسان غير قادر على إدراك الأمور دفعة واحدة (فهو ليس إلهًا)، فليس له من خيار ما عدا هذه العملية التقسيمية إلى الوحدات الواضحة.
ويمكن أخذ أمثلة كثيرة تطبيقية تثبت قوة وصحة وكونية هذا المنهج التحليلي القائم على الفصل. فمحرك السيارة وهو يشتغل دفعة واحدة، يكون صعب التناول، لكن إذا قمنا بتحليله إلى أجزاء واضحة، سنتمكن من إزالة غموضه ومن ثم فهمه وهو السبيل للتحكم فيه. وكذلك نجد مفهوم القوة، فيزيائيًا، غامضًا، إلا إذا فككناه إلى وحداته الواضحة، وهي الكتلة والتسارع. الأمر نفسه يقال عن السرعة، فما هي إلا مسافة وزمن. والطاقة هي كتلة وسرعة ضوء، كما شرح ذلك آينشتاين. أما إذا قمنا بتفكيك الصوت فسنجده موجات بأطوال معينة.
وباتجاهنا صوب الجسم البشري، فإنه يصعب فهمه في كليته. ولا حل لدينا إلا تقسيمه إلى مجموعة أجهزة (جهاز عصبي، عضلي، هضمي، تنفسي...). ولنتأمل كم في كلمة جهاز من نزعة آلية. هذه الأجهزة هي أيضًا تحلل إلى أجزاء أصغر. ونحن نعلم الآن، أن العلماء فككوا الشفرة الوراثية، وبلغوا قواعدها الكيميائية الأساسية المشكلة لهوية الفرد البيولوجية. فلولا آلية التحليل، لما استطاع الإنسان فهم واستيعاب ألغاز ما حوله.
إن هذا هو المقصود بالنزعة الميكانيكية عند ديكارت، التي طبعت العلم ونموذج التفكير الحديث. إلى درجة أن العالم كله أصبح منظورًا إليه باعتباره آلة كبرى، مما أتاح فرصة إدراكه. فيكفي لفهمه، أن نقوم بتحليله إلى قطاعات وورش عمل نقدر عليها، الأمر الذي يبرر ظهور التخصصات في كل قطاعات الحياة. فالفيزيائيون تكفلوا بدراسة المادة، لكن المادة معقدة بدورها، مما جعل المهام تقسم إلى وحدات صغرى، بحيث نجد الآن، تخصصات داخل الفيزياء نفسها (دراسة المغناطيس، الحركة، الكهرباء، سقوط الأجسام، الحرارة...). أما البيولوجيون، فتكفلوا بدراسة الكائنات الحية، ومجال الأحياء بحر واسع يتطلب بدوره تحليلاً أعمق (حيوانات، حشرات، نباتات، إنسان... إلخ).
هكذا تناسلت التخصصات تلو التخصصات، إلى أن ظهر آخر تخصص، وهو العلوم الإنسانية التي أخذت على عاتقها دراسة الكائن اللغز، الكائن المنفلت: إنه الإنسان في جوانبه الروحية. فهو بدوره لم ينجُ من آلية التحليل، فتم تفتيته إلى: نفس، واجتماع، وإنثربولوجيا، وتاريخ، وجغرافيا، وسياسة، واقتصاد.
كل هذا يظهر أصالة ديكارت وقوة منهج العزل وتأثيره على اللاحقين، خصوصًا في مجال العلوم. فلا فهم ولا دراسة ولا إدراك إلا بالتحليل، فهو وسيلتنا الوحيدة ما دام، كما قلنا، أننا عاجزون عن إدراك الكون دفعة واحدة، فذاك أمر يتجاوزنا. إن ديكارت علمنا التواضع، علمنا ألا ندعي الحقيقة الجاهزة، فهي «إلهية». أما نحن فعملنا عمل النملة، عمل المختبرات، عمل الزمن الطويل، عمل المشعل المنقول جيلاً بعد جيل.
إن المنهجية التي تبلورت في القرن السابع عشر، والقائمة على العزل والفصل قصد الضبط والتحكم، ستسري في كل مناحي التخصصات ولن يسلم منها أي قطاع، إلى درجة يمكن أن نقول معها، إنها هي الثابت البنيوي الذي يمكن تلمسه كخيط ناظم لعقد المنظومة الحداثية. وتجدر الإشارة إلى أن خطوة التحليل خطوة محض منهجية، يقوم بها الإنسان عنوة، ويفرضها فرضًا على المشكلات والمعضلات التي تجابهه، كي تفشي سرها وتعطي شفرتها.
فهي عملية مصطنعة ومفتعلة، غرضها تبديد الغموض، وخلق الشفافية في كل شيء، على الرغم من أن هذا التحليل يشوه الحقيقة، لأنها تقدمها ممزقة الأوصال. علمًا بأن الأصل في الحقيقة، هو كونها لوحة كاملة تشتغل موحدة، الجزء فيها متصل بالآخر دونما بتر. بكلمة واحدة، التحليل يفقد الحقيقة جماليتها، مما يستدعي خطوة موالية سماها ديكارت بالتركيب، باعتبارها ترميمًا ولم شمل الأجزاء من جديد، في توليفة متناغمة، سيدعي الإنسان أنها الحقيقة ولو مؤقتًا. وهذا موضوع آخر يحتاج إلى دراسة بعينها.
إن مسألة هيمنة منهجية العزل في الزمن الحديث، كانت عبارة عن موجة عارمة اكتسحت كل النطاقات، وتوضحت عند كل مجايلي ديكارت. فمثلاً نجد أن فيلسوفًا من طراز توماس هوبز (1588 - 1679)، وهو من المؤسسين للفلسفة السياسية الحديثة، وصاحب الكتاب المشهور «التنين»، كان من المتشبعين بالنزعة الميكانيكية القائمة على التحليل والتركيب حتى النخاع. إذ كان يحلو له أن يوضح منهجه باستخدام مثال الساعة، وذلك كالتالي: إنه عندما نريد فهم كيف تعمل الساعة (لنعتبرها هنا هي المعضلة العالقة بين أيدينا)، نقوم بتفكيكها، وندرس مكوناتها المختلفة، وخواص هذه المكونات. ثم نجمع أجزاء الساعة، وبجمعنا الأجزاء بشكل يعيد الساعة إلى العمل من جديد، نتعلم كيف ترتبط الأجزاء بعضها بعضًا، وكيف تعمل الساعة، ونفهم ما هي الساعة.
ولقد حاول توماس هوبز، تطبيق هذا المنهج التحليلي والتركيبي على المجتمع، بحيث سيعمل على تقسيمه إلى أجزائه الواضحة. وجزؤه الجوهري، كما توصل إلى ذلك، هو الفرد بأهوائه وأنانيته. ثم إعادة جمع هذه الأجزاء، بحيث نرى روابطها وكيفية عملها. وبفعلنا ذاك، نفهم ما هو المجتمع. مع التذكير بأن هذا التقسيم ليس دائمًا قسمة واقعية، بل يتم خياليًا افتراضيًا أحيانًا.
إن الأمر نفسه سيتم وبالطريقة نفسها، مع العالم غاليليو (1564 - 1642). إذ سيعمل على عزل الطبيعة عن الإنسان. فغاليليو سيسير في الطريقة الجديدة نفسها في التفكير، والمسماة حداثية، حيث سينقلنا من النظرة التأملية الدافئة والساحرة للعالم، إلى نظرة باردة. فقد كان يرى أنه عندما تلمسك الريشة وتحدث لك دغدغة، فهذا الإحساس ينتمي لذاتك، وليس إلى الريشة. فغاليليو وكما يظهر من هذا المثال، كان يسعى لوضع فصل بين ما ينتمي للذات، وما ينتمي للعالم الخارجي. إذ لا يجب بحسبه، إسقاط ما هو إنساني على الطبيعة. فهذه الأخيرة، صماء وعاطلة، لا سبيل إلى فهمها إلا بتكميمها وترويضها، ووضعها في قوالب رياضية. فالكيفيات التي نسقطها على الطبيعة تشوه الموضوع المدروس، وتعطي صورة زائفة عنه. بكلمة واحدة معه، سيضرب سؤال الغايات والمقاصد عرض الحائط. أي أن أسئلة الخير والشر هي خارج اهتمام العلم.
إن المتأمل في الدرس الحداثي، بدءًا من القرن السابع عشر، وهو فجر العلم الحديث، يكتشف أن عملية الفصل هذه لم تتوقف أبدًا. ولعل أكبر من كان له النصيب الأكبر في العزل وبوضوح، ألقى بظله على الحياة البشرية إلى حد الساعة هو الدين، الذي تم فصله عن كل قطاعات الحياة، فأعطانا ما يسمى باللائكية أو الدنيانية بتعبير طه عبد الرحمن.



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!