محاربة الثقافة في عقر آثارها

الإهمال وتعديات البعض يهددان الآثار في السعودية

من آثار منطقة الفاو جنوب شرق السعودية
من آثار منطقة الفاو جنوب شرق السعودية
TT

محاربة الثقافة في عقر آثارها

من آثار منطقة الفاو جنوب شرق السعودية
من آثار منطقة الفاو جنوب شرق السعودية

ضمن زيارة لمدينة حائل مؤخرًا أتيح لي أن أزور موقعًا ينسب إلى أسطورة الكرم العربي حاتم الطائي. كنت قد تلقيت دعوة من نادي حائل الأدبي الثقافي لإلقاء محاضرة، فأكرمني منسوبو النادي فوق كرم الدعوة والضيافة بجولة تعرفت أثناءها على معالم المدينة القديمة وبعض ما يحيط بها من معالم، كان منزل وقبر حاتم الطائي من أبرزها، إن لم يكن بالفعل أبرزها.
تحدثت إلى النخبة المثقفة في حائل عن صورة المثقف في الرواية العربية المعاصرة، وكان من تلك الصور، بل أبرزها، صورة المثقف منفيًا ومضطهدًا، صورة نألفها في الحياة أكثر مما نألفها في الروايات، لكن الروايات وقد كتبها مثقفون في نهاية المطاف كان حريًا بها أن ترسم معاناة الكتاب في مجتمعات لا ترى قيمة كبرى للثقافة، أو لا توليها المكانة التي توليها إياها المجتمعات المتحضرة، وقد كتبت كثيرًا حول هذه وتلك في مقالات سابقة في هذا المكان.
عند منازل حاتم الطائي، بل بالقرب من القبر الذي يقال إنه مدفون فيه، رأيت اضطهاد الثقافة حية، اضطهادها في صورتين، إهمال الجهة المسؤولة عن السياحة والآثار الموقع - على الرغم من اللوحات وبعض الممرات المرصوفة - وتعديات بعض الزوار بتشويه المكان بعبارات غريبة وبلغات مختلفة. ولكن المشكلة الأنكى من ذلك هي الموقف الديني المتشدد إزاء العناية بالآثار ككل، والمواقع التي يمكن للناس أن يزوروها للتعرف على تاريخهم والاعتزاز به، أو حتى لمجرد الفرجة. هي الثقافة تضطهد حية وميتة.
أحد النصوص التي تناولتها في محاضرتي حول صورة المثقف في الرواية، يتحدث عما لحق بدولة عربية عريقة في آثارها من دمار نتيجة الحروب، شمل كل شيء حتى الآثار. أقصد رواية الكاتب العراقي سنان أنطون «فهرس»، الرواية المهمومة بكيفية إنقاذ ثقافة العراق وتاريخها من جرائم الغزاة وعبثهم وإهمال المسؤولين، وما أدراك ما المسؤولون. صحيح أن الرواية ليست معنية بالآثار العراقية مباشرة، لكن الهم الثقافي العام في العراق كما في بلاد عربية أخرى كثيرة، يشمل الآثار من ضمن ما يشمل من مكونات وأسس. العراق الذي تعرضت آثاره للنهب مثلما تعرضت وتتعرض آثار سوريا وربما ليبيا وغيرها حاليًا إما للتدمير المتعمد وإما غير المتعمد وإما للسرقة.
لدينا في السعودية الآن أناس يتمنون لو تسرق كل الآثار وتختفي إلى الأبد، يطاردهم في ذلك وهم عجيب هو أن الناس قد تعود إلى عبادة القبور والتبرك بالآثار. وقد لمست ذلك شخصيًا حين وضعت بعض صور منازل حاتم الطائي على «تويتر». اتهمني البعض بالتشجيع على زيارة القبور والتبرك بها، وهي تهمة مألوفة عانت منها جهات كثيرة، أولها هيئة السياحة والآثار السعودية التي تحارب على جبهات كثيرة، تنشط حينًا وتتعثر حينًا (ومن عثراتها ما أشرت إليه من تعامل مع موقع حاتم). لكن من يعرف واقع الصراع للحفاظ على آثار المملكة يدرك حجم الصعوبات التي تكتنف السعي للكشف عنها ثم حمايتها من عبث التشدد من ناحية، وعبث بعض الزوار من ناحية، وسعي البعض من ناحية ثالثة، لسرقة ما يمكن سرقته منها بغرض التجارة أو التباهي بها في المنازل.
في عام سابق كانت لي زيارة لمواقع أخرى تعاني كثيرا من اضطهاد الإهمال على كل المستويات. مدينة الأخدود التاريخية في نجران، جنوب المملكة، رأيتها قبل أعوام قليلة وهي تعاني من الإهمال ويد الاندثار تحيط بها وتتهددها من كل جهة. وذكر لي بعض الزوار الأجانب مؤخرًا أن التراب يكاد يغطي ما ظهر منها بعد أن غطى ما بطن. وموقع الرجاجيل في سكاكا شمال المملكة رأيته ويد البلى نهب، كما يقول الشريف الرضي «ولقد مررت على ديارهم- وطلولها بيد البلى نهب»، ولم أملك إلا أن ألتفت التفاتة العاشق كما صوره الشاعر: «وتلفتت عيني فمذ خفيت - عني الطلول تلفت القلب». وأظن الحال لا تختلف كثيرًا في أماكن أخرى. نعم يقتضي الإنصاف الإشادة بجهود هيئة السياحة والآثار في العناية بمواقع كثيرة، مثل قصر مارد في دومة الجندل وغيره من المواقع، لكن جهود الهيئة لن تكفي ما دامت ثقافة التدمير وضعف العقاب لمرتكبيها شاعت بيننا، وما دامت معتقدات لا أساس لها انتشرت، من أن الناس مهيؤون للعودة إلى الوثنية بمجرد زيارة موقع أو رؤية قبر، كأن كل هذا الإيمان الذي نراه منغرسًا في النفوس وكل هذه العبادات الصحيحة والكثيفة، كل هذه القرون من التمسك بالدين الحنيف، أن كل ذلك مهيئًا للزوال أو من الهشاشة، بحيث يلغيه مرأى غار أو منزل أو قبر.
مدينة الفاو الأثرية على أطراف الربع الخالي، المدينة التي شهدت فصلاً مهما من تاريخ الجزيرة العربية الحضاري حين سادت ممالك قديمة مثل مملكة كندة على مساحات كبيرة من الجزيرة، تلك المدينة بذلت جامعة الملك سعود جهودًا جبارة في استكشافها بقيادة رائد البحث الأثري في المملكة أستاذنا الدكتور عبد الرحمن الأنصاري متعه الله بالصحة، سمعت مؤخرًا بأنها تكاد تختفي تحت الرمال الزاحفة. ويحدث هذا في خضم «رؤية 2030» التي تجعل السياحة مرتكزًا من مرتكزات الاقتصاد، وبعد صدور أنظمة تدعم البحث الأثري والحفاظ على الآثار ضمن دعم السياحة. لكن الأنظمة أو القوانين شيء والواقع شيء آخر. كما أن الجهود المحدودة شيء والدعم الكبير المادي والمعنوي شيء آخر. لا شك أن الدولة بقيادة ولاة أمرها وأولهم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان الذي سبق أن وافق على نظام حماية الموروث الوطني في خطوة رائعة، لا شك أن القيادة شديدة الحرص على كل ما يدعم الحياة الثقافية في المملكة، لكن واقع الحال كثيرًا ما يشير مع الأسف إلى أن الدعم المخصص لم يصل أو لم يترك الأثر المرجو.
عند منازل حاتم الطائي بحائل كان واضحًا أن الدعم كان يمكن أن يترك أثره البالغ، وأن إمكانات سياحية لا بأس بها كان يمكن أن تظهر للعيان ويفيد منها الناس لو وجد المكان عناية كافية. ستأتي الاستثمارات حين يرى المستثمرون كثرة الزوار من سعوديين وعرب وأجانب يختلفون إلى الأماكن، وحين يرون، وهذا هو الأهم، مواقع محمية ومعتنى بها. نعم في حائل، كما في غيرها الآن نهضة اقتصادية واستثمارية لافتة تشمل الفنادق الراقية والمتنزهات، لكن ذلك كله لن ينهض بالسياحة الأثرية ما لم تقم الجهات المسؤولة بدورها في دعم المواقع وتنظيمها، وأهم من ذلك حمايتها من أيدي المتربصين المتعدين.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.