الوجه الآخر لأكبر اقتصاد في أوروبا

«الكتاب الأسود» يكشف فضائح مالية تجاوزت 100 مليار يورو في ألمانيا

وزير الاقتصاد زيغمار غابريل خلال مؤتمر صحافي في برلين أمس (أ.ف.ب)
وزير الاقتصاد زيغمار غابريل خلال مؤتمر صحافي في برلين أمس (أ.ف.ب)
TT

الوجه الآخر لأكبر اقتصاد في أوروبا

وزير الاقتصاد زيغمار غابريل خلال مؤتمر صحافي في برلين أمس (أ.ف.ب)
وزير الاقتصاد زيغمار غابريل خلال مؤتمر صحافي في برلين أمس (أ.ف.ب)

تنزعج بعض مؤسسات الدولة والوزارات الألمانية عند تقديم رابطة دافعي الضرائب سنويًا كتابها المسمى «الكتاب الأسود»، ويشرف على وضعه مجموعة من خبراء الاقتصاد والمال، ويتضمن الكتاب معلومات بالأرقام عن فضائح مالية بالملايين؛ نتيجة عبث سياسيين ووزراء وإداريين ومؤسسات عامة بأموال دافعي الضرائب، أو سوء التصرف وقلة الأمانة، أو عدم الشفافية، وكانت مثل هذا الأمور تمر في الماضي دون أن يلحظها المواطنون، ولكن «الكتاب الأسود لعام 2016» وثّق تجاوزات حدثت في أكثر من 1400 مؤسسة ودائرة حكومية وبلدية ووزارة في كل الأقاليم الألمانية؛ ما تسبب بديون تجاوزت الـ108 مليارات يورو.
في الوقت نفسه قدم الكتاب تحليلاً لهذه التجاوزات ومقترحات لمزيد من الشفافية في العمل، لوضع حد لها، مع الإشارة إلى المخاطر المحفوفة بها إذا ما تواصلت، إلا أن هذه المقترحات تقدم منذ صدور أول كتاب قبل أكثر من 40 عامًا دون فائدة، وإذ تم علاج التجاوزات في مؤسسة ما ستظهر في مؤسسة أو دائرة حكومية أخرى.
وحسب قول رالف فون هوهينهاو، رئيس رابطة دافعي الضرائب: «في كل كتاب يصدر نختار الحالات الأكثر تجاوزًا، لكي يدرك المواطن ما يجري وراء الكواليس، وكم الأموال التي أُنفقت وكيف أُنفقت، وكتاب هذا العام يضم أسوأ عشر حالات».
وعلى رأس هذه الحالات فضيحة بناء مطار برلين - براندبنورغ الذي يعتبره الكثيرون فضيحة القرن، وكان يجب أن يُفتتح عام 2011 لكن مواصلة البناء فيه متوقفة ومن غير المعروف تاريخ افتتاحه، فكل المشرفين والمسؤولين في حكومتي برلين وبراندبورغ يتقاذفون التهم، على الرغم من أن صيانة المبنى غير الجاهز وتنظيفه وحمايته من الحشرات يكلف أكثر من 5 ملايين يورو سنويا.
ولقد وُضعت أسس بناء المطار عام 1996 بعد توحيد ألمانيا بفترة، وبكلفة تصل إلى 1.7 مليار يورو، يشارك فيها إقليما برلين وبراندبورغ، وسوف يحل محل مطاري تيغل وتبملهوف، واعتبر مشروع القرن الـ21 في ألمانيا وأوروبا، إلا أنه واجه بعض الصعوبات الصغيرة، حسب وصف القائمين عليه، فحُدد موعد جديد للافتتاح، وكان شهر أكتوبر (تشرين الأول) عام 2012، إلا أن هذا التاريخ كان مثل كذبة نيسان، بعد ما استعد الجميع حكومة وشعبا لليوم العظيم، لكن قبل يومين فقط من تاريخه تفاجأ الجميع بالتأجيل مجددًا، وكانت الشركة الموكلة بالتنفيذ قد أخفت حقيقة أن جهاز الإطفاء والإنذار وشريط الحقائب لتحميلها في الطائرة لا يعمل، وعند إجراء تحقيقات اتضح وجود تلاعب بالأسعار وعمليات غش بالملايين، وإهمال من قبل اللجنة المشرفة على المشروع، وعلى رأسها رئيس حكومة وعمدة برلين الأسبق كلاوس فوفرايت وماتياس بلاتشيك رئيس حكومة إقليم براندنبورغ، فما كان من الأخير إلا أن قدم استقالته من اللجنة.
بعد أيام من هذا التاريخ أعلن عن إلغاء عقد البناء ومنحه إلى شركة أخرى أكدت بأن المطار سوف يكون جاهزًا في عام 2014 مع ارتفاع التكاليف إلى 4.3 مليار يورو بحجة أن أسعار مواد البناء ارتفعت مقارنة مع السنة التي تقرر فيها بناء المطار، لكن أتى الموعد ولم تُحلق أي طائرة من المطار، بل ارتفعت تكاليفه مرة أخرى إلى 5.3 مليار يورو مع احتمال الانتهاء من البناء عام 2016.
والمفاجأة الكبيرة كانت بإعلان اللجنة المشرفة على البناء أن المشروع مهدد بالإفلاس، فدعمه الاتحاد الأوروبي بـ1.1 مليار يورو والحكومة الاتحادية في برلين بـ26.5 مليون يورو، والافتتاح قد يكون في عام 2017، والصفعة المؤلمة كانت اعتراف اللجنة بأن المطار قد يفتتح عام 2018، وتقديمها فاتورة جديدة بمبلغ إضافي للتكاليف وصل إلى 2.19 مليار يورو.
ونتيجة الضغوطات حكم على الرئيس السابق لإدارة الأعمال في المطار بالسجن ثلاث سنوات ونصف بتهمة الحصول على 150 ألف يورو رشوة من «إيمتيك»، وهي الشركة المشرفة على التمديدات الداخلية، وكانتقام منه فضح مشرفين بأنهم دفعوا الملايين لهذه الشركة دون إدخالها في دفاتر المحاسبة.
والحديث اليوم عن دفع رشى بالملايين من أجل عطاءات لشركات غير ذات كفاءة أوكلت دون أن تدخل مناقصة، كما لم تتم مساءلة عمدة برلين السابق فوفرايت بعد ظهور تلاعب بالفواتير.

تجاوزات الوزارات
ومرتكبو التجاوزات وقلة التقدير هم أيضًا وزراء، مثل وزير الاقتصاد الاشتراكي زيغمار غابريل الذي خصص مبلغ 45 مليون يورو من أجل حملة إعلانية لإقناع المواطنين بترشيد الطاقة الكهربائية وهو مبلغ باهظ لم يأت بالنتيجة التي كان يتوقعها. ليس هذا فقط بل خصص مبلغ 235 ألف يورو بهدف الترويج للمعاهدة التجارية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فهو كوزير من المؤيدين لها، لكن ما يدعو للغرابة أنه كسياسي اشتراكي داعم لمنظمات مناهضة لهذه المعاهدة.
ولم تسلم الحكومة والوزارات الاتحادية من انتقاد رابطة دافعي الضرائب، حيث تجاوزت أتعاب خبراء وضعوا تدابير الاحتياجات الدفاعية المليون يورو، فخرجوا بالنتيجة نفسها التي وصلت إليها الوزارات، كما خصصت الحكومة الاتحادية مبلغ 11.5 مليون يورو للمكتب الاتحادي للهجرة واللجوء كي يبرم عقودًا مع مؤسسات استشارية لتحسين سير العمل فيه دون نتيجة تذكر.
وشملت اللائحة وزارة الدفاع، فهي سرحت قبل سنوات قليلة الكثير من العاملين فيها بحجة تراجع حجم موازنتها وعدم الحاجة إليهم، واليوم ومع أن الوضع لم يتغير خصصت 11 مليون يورو من أجل القيام بحملات دعائية للتوظيف من جديد.
وهناك حالة أخرى تدعو للاستغراب، فالحكومة الاتحادية كانت تملك بناية بوزارة الداخلية ظلت خالية منذ عام 2009 مع تكاليف لصيانتها تصل إلى 80 ألف يورو سنويا، لكن بدلاً منها استأجرت الوزارة مبنى في مكان يبعد بضعة كيلومترات، وظلت حتى عام 2015 فيها إلا أنها اضطرت لإخلائه والانتقال إلى المبنى الآخر، بعد أن طالب المالك برفع قيمة الإيجار. مع ذلك كان على الوزارة دفع 10 ملايين يورو بدل إيجار المبنى السابق لمدة عام كامل؛ لأن عقد الإيجار فسخ من طرفها قبل نهاية مدته، إضافة إلى مليون يورو دفعته إلى مكتب مخصص لتنظيم عملية الانتقال.

والبلديات متهمة أيضا
في ساكسن تقرر بناء معبر لسكة الحديد في وسط المدينة رغم وجود معبر قديم بحجة أنه غير صالح للاستعمال، وأوكل أمر التنفيذ إلى شركة مغمورة وحددت التكاليف بنحو مليون يورو لأنها بنت ممرا خاصا لراكبي الدراجات، لكن المشكلة اليوم أن لا أحد يستخدم هذا المعبر بل القديم، ومن يتحمل التقدير الخاطئ لاعتماد مشروع قيل إنه مربح هم بالطبع دافعو الضرائب لوحدهم.
وفي تورينغن شرق ألمانيا تم تسجيل دفع شركات رشى لأعضاء البلديات من أجل الموافقة عليها، لكن اتضح أنها فاشلة، منها في بلدة كامرفورست التي قررت لجنة البلدية فيها بناء مطعم جديد وسط الغابة بدلاً من القديم لأنه غير جذاب، وعند الانتهاء عام 2016 من بنائه تم تأجيره لمدد طويلة ووصلت تكاليفه إلى 800 ألف يورو، إلا أن المطعم لم يؤجر وتكاليف صيانته ترتفع إلى أن بيع بالمزاد العلني بـ200 ألف يورو مع ديون على البلدية أكثر من 600 ألف تضاف إليها الفوائد المصرفية.
وأصبح موقف الدراجات أمام المحطة الرئيسية للقطارات في مدينة إيرفورد مادة ساخنة، فعند إقراره العام الماضي وضعت له ميزانية وصلت إلى 484 ألف يورو، لكن وبسبب أخطاء في تقدير ثمن مواد البناء وأتعاب مكتب للاستشارات زادت التكلفة 90 ألف يورو.
وبعد نقاشات حادة أقرت بلدية مدينة شفرين توسيع خطوط الترام في الوسط التجاري وربطها ببعضها البعض بكلفة 4 ملايين يورو طوله بضعة كيلومترات، وكان البدء في مد الخطوط من جانبي المدينة لكن عند التقاء الخطين معًا اتضح أن كل واحد له اتجاه آخر، أي من دون نقطة التقاء والخطأ في التخطيط والتنفيذ، لكن الشركة المنفذة ترفض تحمل المسؤولية وتقول إنها اعتمدت على خرائط قدمتها البلدية إليها وكان المواطنون يراهنون في تنقلاتهم على الترام.
وسوء التصرف بأموال دافعي الضرائب لا يقتصر على الأقاليم الشرقية بل أيضا الغربية مثل بافاريا، حيث قررت بلدية ميونيخ عام 2010 ترميم مسرح الدولة بتكاليف تصل إلى أكثر من 70 مليون يورو أقرها البرلمان البافاري وتطلب الإنجاز عامين، إلا أن تنفيذ المشروع تعرقل لخطأ في تقدير الشركة المنفذة، فارتفعت التكاليف 6.6 مليون يورو، وحل عام 2015 والمشروع لم ينجز فاعترض السكان على الضجيج، واستخدام أرض غير تابعة للمسرح لوضع معدات البناء وغيرها، وطالبوا بتعويض، فأضيفت إلى التكاليف 19.7 مليون يورو لتصل في النهاية إلى 97 مليون يورو، والموعد الجديد لانتهاء المشروع هو عام 2018.
وتلعب المعرفة في بعض الأحيان دورًا كبيرًا عندما يتعلق الأمر بمشروع دسم، فمدير سجن الأحداث في بلدة إيشاخ بولاية بافاريا لديه صديق إسباني يملك شركة للتبليط أوكله أمر تبليط السجن، لكن عقب البدء بالعمل ارتفعت التكاليف من 18 إلى 21 مليون يورو، ليس هذا فقط، إذ لم يمض وقت قصير حتى بدأ البلاط يتكسر، فظهر سوء مستوى العمال والمواد؛ ما دفع إدارة السجن إلى رفع دعوى ضد الشركة الإسبانية، وهذا يكلف أيضًا مبالغ طائلة، وقد يحل المتهم ضيفًا على السجن إذا ما قُبلت الدعوى.

لاجئون سياسيون بالتاكسي إلى مخيماتهم
وتتطلب الإنسانية معاملة اللاجئ بالإحسان، لكن أن يستخدم التاكسي فإنه شيء غير عادي، لكن هذا ما حدث في مقاطعة ساكسونيا، حيث تولت مكاتب خاصة رعاية شؤون طالبي اللجوء أيضا ما يتعلق بتنقلهم، وكانت ترسلهم بالتاكسي إلى مكاتب شؤون اللاجئين أو إلى المعاينة الطبية، ووصل المبلغ إلى 51 ألف يورو عام 2015، واتضح أن هذه المكاتب أرادت تشغيل ما لديها من سيارات أجرة، وتم لها ما أرادت لعدم وجود مراقبة على عملها.



هل تؤدي العقوبات وأسعار الفائدة الروسية إلى موجة شاملة من الإفلاسات؟

الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
TT

هل تؤدي العقوبات وأسعار الفائدة الروسية إلى موجة شاملة من الإفلاسات؟

الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)

في ظلّ الضغوط المتزايدة التي فرضتها العقوبات الغربية وارتفاع أسعار الفائدة بشكل مذهل، تتزايد المخاوف في الأوساط الاقتصادية الروسية من احتمال حدوث موجة من الإفلاسات التي قد تهدّد استقرار الكثير من الشركات، لا سيما في ظل استمرار الرئيس فلاديمير بوتين في التمسّك بحربه في أوكرانيا.

وفي كلمته خلال مؤتمر الاستثمار الذي نظمته مجموعة «في تي بي» هذا الشهر، لم يفوّت بوتين الفرصة للتفاخر بما عدّه فشل العقوبات الغربية في إضعاف الاقتصاد الروسي، فقد صرّح قائلاً: «كانت المهمة تهدف إلى توجيه ضربة استراتيجية إلى روسيا، لإضعاف صناعتنا وقطاعنا المالي والخدماتي». وأضاف أن النمو المتوقع للاقتصاد الروسي سيصل إلى نحو 4 في المائة هذا العام، قائلاً إن «هذه الخطط انهارت، ونحن متفوقون على الكثير من الاقتصادات الأوروبية في هذا الجانب»، وفق صحيفة «واشنطن بوست».

وعلى الرغم من التصفيق المهذّب الذي قُوبل به الرئيس الروسي، فإن التوترات بدأت تظهر بين النخبة الاقتصادية الروسية بشأن التأثيرات السلبية المتزايدة للعقوبات على الاقتصاد الوطني. فقد حذّر عدد متزايد من المسؤولين التنفيذيين في الشركات الكبرى من أن رفع البنك المركزي أسعار الفائدة لمكافحة التضخم -الذي تفاقم بسبب العقوبات والنفقات العسكرية لبوتين- قد يهدد استقرار الاقتصاد في العام المقبل. وقد تتسبّب هذه السياسة في تسارع موجات الإفلاس، لا سيما في القطاعات الاستراتيجية الحساسة مثل الصناعة العسكرية، حيث من المتوقع أن يشهد إنتاج الأسلحة الذي يغذّي الحرب في أوكرانيا تباطؤاً ملحوظاً.

حتى الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترمب، أشار في منشور على شبكته الاجتماعية «تروث سوشيال» إلى أن روسيا أصبحت «ضعيفة جزئياً بسبب اقتصادها المتداعي».

تحذيرات من الإفلاس

ومع تزايد توقعات أن «المركزي الروسي» سيضطر إلى رفع الفائدة مرة أخرى هذا الشهر، انضم بعض الأعضاء المعتدلين في الدائرة الداخلية لبوتين إلى الانتقادات غير المسبوقة للسياسات الاقتصادية التي أبقت على سعر الفائدة الرئيس عند 21 في المائة، في وقت يستمر فيه التضخم السنوي في الارتفاع ليصل إلى أكثر من 9 في المائة. وهذا يشير إلى احتمالية حدوث «ركود تضخمي» طويل الأمد أو حتى ركود اقتصادي في العام المقبل. وبالفعل، يتوقع البنك المركزي أن ينخفض النمو الاقتصادي بشكل حاد إلى ما بين 0.5 في المائة و1.5 في المائة في العام المقبل.

كما تسبّبت العقوبات الأميركية الجديدة التي شملت فرض عقوبات على 50 بنكاً روسياً، بما في ذلك «غازبروم بنك»، وهو قناة رئيسة لمدفوعات الطاقة، في زيادة تكاليف المعاملات بين المستوردين والمصدرين الروس. وقد أسهم ذلك في انخفاض قيمة الروبل إلى أدنى مستوى له مقابل الدولار منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2022. وقد أدى هذا الانخفاض في قيمة الروبل إلى زيادة التضخم، حيث ارتفعت الأسعار بنسبة 0.5 في المائة بين 26 نوفمبر (تشرين الثاني) و2 ديسمبر (كانون الأول)، وفقاً للبيانات الرسمية.

وفي هذا السياق، حذّر رئيس هيئة الرقابة المالية الروسية، نجل أحد أقرب حلفاء بوتين، بوريس كوفالتشوك، من أن رفع أسعار الفائدة «يحد من إمكانات الاستثمار في الأعمال، ويؤدي إلى زيادة الإنفاق في الموازنة الفيدرالية». كما انتقد الرئيس التنفيذي لشركة «روسنفت» الروسية، إيغور سيتشين، البنك المركزي بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، مؤكداً أن ذلك أسهم في زيادة تكاليف التمويل للشركات وتأثر أرباحها سلباً.

وفي تصريح أكثر حدّة، حذّر رئيس شركة «روس أوبورون إكسبورت» المتخصصة في صناعة الأسلحة، سيرغي تشيميزوف، من أن استمرار أسعار الفائدة المرتفعة قد يؤدي إلى إفلاس معظم الشركات الروسية، بما في ذلك قطاع الأسلحة، مما قد يضطر روسيا إلى الحد من صادراتها العسكرية.

كما شدّد قطب صناعة الصلب الذي يملك شركة «سيفيرستال»، أليكسي مورداشوف، على أن «من الأفضل للشركات أن تتوقف عن التوسع، بل تقلّص أنشطتها وتضع الأموال في الودائع بدلاً من المخاطرة بالإدارة التجارية في ظل هذه الظروف الصعبة».

وحذّر الاتحاد الروسي لمراكز التسوق من أن أكثر من 200 مركز تسوق في البلاد مهدد بالإفلاس بسبب ارتفاع تكاليف التمويل.

وعلى الرغم من أن بعض المديرين التنفيذيين والخبراء الاقتصاديين يشيرون إلى أن بعض الشركات قد تبالغ في تقدير تأثير أسعار الفائدة المرتفعة، في محاولة للحصول على قروض مدعومة من الدولة، فإن القلق بشأن الوضع الاقتصادي يبدو مشروعاً، خصوصاً أن مستويات الديون على الشركات الروسية أصبحت مرتفعة للغاية.

ومن بين أكثر القطاعات تأثراً كانت صناعة الدفاع الروسية، حيث أفادت المستشارة السابقة للبنك المركزي الروسي، ألكسندرا بروكوبينكو، بأن الكثير من الشركات الدفاعية لم تتمكّن من سداد ديونها، وتواجه صعوبة في تأمين التمويل بسبب ارتفاع تكاليفه. وقالت إن بعض الشركات «تفضّل إيداع الأموال في البنوك بدلاً من الاستثمار في أنشطة تجارية ذات مخاطر عالية».

كما تحدّث الكثير من المقاولين علناً عن الأزمة الاقتصادية المتزايدة في روسيا. ففي أوائل نوفمبر، أشار رئيس مصنع «تشيليابينسك» للحديد والصلب، أندريه جارتونغ، خلال منتدى اقتصادي إلى أن فروعاً رئيسة من الهندسة الميكانيكية قد «تنهار» قريباً.

وفي الثالث من ديسمبر (كانون الأول)، أفادت وكالة «إنترفاكس» الروسية بأن حالات عدم السداد انتشرت في مختلف أنحاء الاقتصاد، حيث تأخرت الشركات الكبرى والمتوسطة بنسبة 19 في المائة من المدفوعات بين يوليو (تموز) وسبتمبر (أيلول)، في حين تأخرت الشركات الصغيرة بنسبة 25 في المائة من المدفوعات في الفترة نفسها.

وحسب وزارة التنمية الاقتصادية الروسية، فقد انخفض الاستثمار في البلاد، وتسببت العقوبات في ارتفاع تدريجي لتكاليف الواردات والمعاملات المالية، مما أدى إلى زيادة التضخم. كما قال مسؤول مالي روسي كبير سابق، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته بسبب حساسية الموضوع: «ما يحدث هو صدمة إمداد نموذجية في البلاد».

صناعة الدفاع مهددة

تأتي هذه التحديات في وقت حساس بالنسبة إلى صناعة الدفاع الروسية. فعلى الرغم من ضخ بوتين مبالغ ضخمة من التمويل الحكومي في هذا القطاع، مع تخصيص 126 مليار دولار في موازنة العام المقبل، فإن معظم الزيادة في الإنتاج كانت ناتجة عن تعزيز القوة العاملة لتشغيل المصانع العسكرية على مدار الساعة وتجديد مخزونات الحقبة السوفياتية. ومع ذلك، ومع استمرار الحرب ودخولها عامها الثالث، وارتفاع خسائر المعدات العسكرية، فإن القوة العاملة في القطاع قد وصلت إلى أقصى طاقتها، وإمدادات الأسلحة السوفياتية تتضاءل بسرعة.

وتقول جانيس كلوغ، من المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، إن التكاليف المتزايدة والعقوبات المشددة على واردات المعدات تجعل من الصعب على قطاع الدفاع الروسي بناء الأسلحة من الصفر. ووفقاً لتقرير صادر هذا العام عن الباحثَين في المعهد الملكي للخدمات المتحدة بلندن، جاك واتلينغ ونيك رينولدز، فإن 80 في المائة من الدبابات والمركبات القتالية المدرعة التي تستخدمها روسيا في الحرب ليست جديدة، بل جُدّدت من المخزونات القديمة. ويضيف التقرير أن روسيا «ستبدأ في اكتشاف أن المركبات بحاجة إلى تجديد أعمق بحلول عام 2025. وبحلول عام 2026 ستكون قد استنفدت معظم المخزونات المتاحة».

ثقة الكرملين

على الرغم من هذه التحديات يبدو أن الوضع لا يثير قلقاً في الكرملين. وقال أكاديمي روسي له علاقات وثيقة مع كبار الدبلوماسيين في البلاد: «لا يوجد مزاج ذعر». وأضاف أن المسؤولين في الكرملين يعدّون أن «كل شيء يتطور بشكل جيد إلى حد ما». ووفقاً لهذا الرأي، فإن روسيا تواصل تحقيق تقدم عسكري، وفي ظل هذه الظروف، لا يرى الكرملين حاجة إلى تقديم أي تنازلات جادة.

وتزيد الاضطرابات السياسية في العواصم الغربية -بما في ذلك التصويت بحجب الثقة في فرنسا، مع التصويت المرتقب في ألمانيا، بالإضافة إلى اعتقاد الكرملين أن ترمب قد يقلّل من دعمه لأوكرانيا- من الثقة داخل روسيا.

وقد تصدّى بوتين لانتقادات متزايدة بشأن زيادات أسعار الفائدة ورئيسة البنك المركزي، إلفيرا نابيولينا، قائلاً في مؤتمر الاستثمار إن كبح جماح التضخم يظل أولوية بالنسبة إليه. ومع الارتفاع الكبير في أسعار المواد الغذائية الأساسية مثل البطاطس التي ارتفعت بنسبة 80 في المائة هذا العام، يواصل بوتين دعم نابيولينا وزيادات أسعار الفائدة، رغم شكاوى الشركات الكبرى. وقالت كلوغ: «من وجهة نظر بوتين، لا يمكن السماح للتضخم بالخروج عن السيطرة، لأنه يمثّل تهديداً لاستقرار النظام السياسي، ولهذا السبب منح نابيولينا تفويضاً قوياً».

لكن المستشارة السابقة للبنك المركزي، ألكسندرا بروكوبينكو، ترى أن الضغط من الشركات الكبرى لن يهدأ. وقالت: «عندما يكون التضخم عند 9 في المائة، وسعر الفائدة عند 21 في المائة، فهذا يعني أن السعر الرئيس لا يعمل بشكل صحيح، ويجب البحث عن أدوات أخرى. أولوية بوتين هي الحرب وتمويل آلتها، ولا يمتلك الكثير من الحلفاء، والموارد المتاحة له تتقلص». وأضافت أنه من المحتمل أن تتعرّض نابيولينا لمزيد من الضغوط مع استمرار الوضع الاقتصادي الصعب.

ومع تزايد الضغوط على بوتين، أصبحت الصورة في الغرب أكثر تفاؤلاً بشأن فرص التغيير في روسيا، وفقاً لمؤسسة شركة الاستشارات السياسية «ر. بوليتيك» في فرنسا، تاتيانا ستانوفايا.

وأضافت: «بوتين مستعد للقتال ما دام ذلك ضرورياً... لكن بوتين في عجلة من أمره. لا يستطيع الحفاظ على هذه الشدة من العمل العسكري والخسائر في الأرواح والمعدات كما كان في الأشهر الأخيرة».