هؤلاء رسموا ملامح سياسة أوباما الشرق أوسطية

«العائلة» التي سيفتقدها «مطبخه السياسي» بعد نوفمبر المقبل

اوباما.. داخل البيت الأبيض
اوباما.. داخل البيت الأبيض
TT

هؤلاء رسموا ملامح سياسة أوباما الشرق أوسطية

اوباما.. داخل البيت الأبيض
اوباما.. داخل البيت الأبيض

يتسارع العد التنازلي لنهاية عهد الرئيس الأميركي باراك أوباما في البيت الأبيض، هذه الأيام. وأمام خلفية الأوضاع المأساوية التي تشهدها عموم أراضي سوريا، وبوادر الكارثة التي يحذر منها كثيرون في شمال العراق إذا شاركت ميليشيا «الحشد الشعبي» في عملية طرد «داعش» من مدينة الموصل، و«مصادرة» ما يسمى «حزب الله» المرتبط لمدة تزيد على سنتين بطهران، قرار انتخاب رئيس جديد للبنان، ورفض المتمردين الحوثيين المستقوين بالدعم الإيراني كل المساعي الخليجية والدولية لإعادة الوفاق وتثبيت الشرعية في اليمن، نسلط في ما يلي الضوء على أفراد «مطبخ» سياسات الشرق في إدارة أوباما. مع العلم، أن الأولوية الأولى لأوباما كانت خلال السنوات الأربع الماضي عقد الاتفاق النووي مع إيران.
خلال الأسابيع الأخيرة دأب الرئيس الأميركي باراك أوباما على إعطاء مقابلات تهدف إلى تلميع صورة إرثه السياسي للتاريخ. وكان اللافت المكرّر في هذه المقابلات إشارة أوباما إلى «فريقه» الذي يعتبره أشبه بجزء من «عائلته»، الذي يقول بشيء من الحنين المسبق أنه لن يظل معه بعد مغادرته البيت الأبيض.
الحقيقة أن كل رئيس أميركي، أو على الأقل منذ الرئيس يوليسيس غرانت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كان لديه عائلة من المستشارين الموثوقين المقربين، مهمتهم الإحاطة بالرئيس، وصدقه القول والمشورة، وحمايته من خصومه.. بل وأحيانًا من أصدقائه!
وبصفة عامة تضم هذه «العائلة» مجموعة من أصدقاء الرئيس ومساعديه الذين رافقوه من ولايته الأم. وحقًا، عندما جاء الرئيس جيمي كارتر إلى واشنطن فإنه جلب معه ثلة من أبناء ولايته جورجيا ذكّروا نخب العاصمة بريفيي الجنوب الأميركي الطارئين على المدن الكبرى العريقة. ولقد أقرّ أحد هؤلاء، هاميلتون جوردان، وهو أحد أقرب المقرّبين من كارتر ورئيس جهاز البيت الأبيض في عهده، في مذكراته بأنه مدين بتعلمه أصول استخدام الشوكة والسكين لزوجة السفير المصري خلال إحدى المآدب الرسمية.
وعندما جاء رونالد ريغان إلى واشنطن جلب معه أيضًا أصدقاءه ورفاقه من ولايته كاليفورنيا. وفي عهد ريغان، خاصة، ظهر تعبير «المطبخ الحكومي» وراج كثيرًا، وبخاصة أن الرئيس والممثل الهوليوودي السابق اعتاد مناقشة القضايا الكبرى على مائدة في المطبخ مع نفر من أصدقائه الخلّص. وسار الرئيس جورج بوش الابن على خطى ريغان ناقلاً معه إلى واشنطن زمرة من أبناء ولاية تكساس التي كان حاكمًا لها.

مطبخ أوباما السياسي
بناءً عليه، لا غرابة إذن أن يجلب باراك أوباما معه إلى العاصمة الأميركية «مطبخه الحكومي» الخاص. ولكن من هم أفراد هذه «العائلة» التي يجلس أفرادها في هذا «المطبخ»؟
بداية، قبل استعراض الأسماء، لا بد من التطرق إلى بعض النقاط التي تؤكد أن «مطبخ» أوباما يختلف عن «مطابخ» سابقيه.
النقطة الأولى أنه في كل «المطابخ» السابقة كان المقرّبون يتمتعون ببعض الخبرة في المواقع السياسي الحكومية، على الأقل، على مستوى الولايات. وحتى أولئك الذين افتقروا إلى الخبرة الحكومية فإنهم تمتعوا بخبرات في عالمي المال والأعمال التجارية. غير أن «مطبخ» أوباما - كما سنرى - ضم أفرادًا يفتقرون فعليًا إلى الخبرتين السياسية والمالية - التجارية.
النقطة الثانية، أنه في كل «المطابخ» السابقة كان السواد الأعظم من المقرّبين رجالاً ومعظمهم من ذوي المناصب والتخصصات التقليدية والإدارية الراقية. أما في حالة أوباما فإننا رأينا الغالبية من النساء.
النقطة الثالثة، أن غالبية أفراد «المطابخ» السابقة من البيض المتحدرين من أصول أوروبية مسيحية، لكن في حالة أوباما ضمت «العائلة» عددًا كبيرًا من ممثلي الأقليات العرقية، ولا سيما من المتحدّرين من أصول أفريقية. وعكَس اختيار هؤلاء المستشارين المقرّبين إيمان أوباما بما ورد في كتابه «الأمل الجريء»، إذ يقول إن «استهدافًا مكثفًا للعرق الأبيض يشكل ثقلا كبيرًا يمنع مثاليات المسؤولية الفردية والجماعية من أن تجنح وتغرق في خضم اليأس».
أيضًا، كما ورد في كتابيه، حسم أوباما نهائيًا - وكان في العشرينات من العمر - مسألة ما إذا «كان أميركيًا أسود أو أبيض»، واختار في النهاية الجانب الأسود في هويته العرقية.
النقطة الرابعة أن «المطابخ الحكومية» السابقة لرئاسة أوباما برزت فيها تعددية معينة على صعيد مستوى التعليم والحساسيات السياسية للإرادة. ولكن وفق رؤية أوباما، جاء معظم المقرّبين منه من خلفيات حقوقية (قانونية) ومع ميول واضحة إلى يسار الوسط تعود إلى مرحلة شبابهم. ومع أن أوباما كتب في «الأمل الجريء» العبارة التالية: «كنت أرجو لو كان في هذه البلاد عدد أقل من المحامين وعدد أكبر من المهندسين»، فإن فريق المقرّبين منه خلا تمامًا من المهندسين والاقتصاديين.

حساباته.. مع الحزب
مما لا شك فيه، أن أوباما ما كان في بداية عهده واثقا من نفسه، وذلك في ضوء تواضع تجربته السياسية وإدراكه أنه رغم فوزه بالرئاسة فإنه لم يستطع الإمساك كليًا بمقدرات مؤسسة الحزب الديمقراطي. ولذا اختار أن يكون متعاونًا يمد اليد إلى مختلف أجنحة الحزب، بدليل اختياره جوزيف بايدن نائبا له مدركًا افتقار سيناتور ولاية ديلاوير السابق إلى «الكاريزما» والحيوية، اللتين كان من الممكن أن تهددا مكانته الرئاسية.
أيضًا عيّن أوباما منافسته السابقة هيلاري كلينتون وزيرة للخارجية بهدف «شراء الوقت» الكافي لفك مفاصل الماكينة الحزبية التي بناها زوجها الرئيس الأسبق بيل كلينتون خلال فترتين رئاسيتين. ثم اختار روبرت غايتس، مدير «السي آي إيه» الباهت السابق وأحد رجال مرحلة حكم الجمهوريين في عهد بوش وزيرا للدفاع. وتيموثي غايتنر، أحد المحسوبين سابقًا على شلة بوش، وزيرا للمالية.
ولكن بعد مضي ثماني سنوات، يتأكد أن الرئيس لم يرد أبدا جعل أي من هؤلاء جزءًا من بطانته.. أو «عائلته»، أو يعطيهم أي قدر من النفوذ.

ميشيل.. وفاليري جاريت
من هم إذن أفراد «عائلة» أوباما السياسية التي سيفتقدها عندما يغادر الرئاسة؟
على رأس القائمة تأتي زوجته ميشيل. الشخصية اللامعة النافذة التي تألقت بوصفها «سيدة أولى» وحظيت باحترام عظيم أسهم كثيرًا في إكساب رئاسته احترامًا واسعًا. وخلال مقابلة أجريتها مع القس جيسي جاكسون، في منتجع إيفيان الفرنسي، قال الناشط والمرشح الرئاسي الديمقراطي السابق الذي كان له الفضل في تعريف أوباما على زوجة المستقبل، إن ميشيل هي «حامية» هوية أوباما «السوداء». وبعد مرور ثماني سنوات تؤكد ميشيل أوباما أكثر أهميتها، بجانب تذكيره بمعاناة الأميركيين السود، وهي معاناة لم يعرفها أجداد زوجها من شعب اللوو في أفريقيا.
بعد الزوجة اللامعة، ضمن كبار المؤثرين داخل «العائلة»، المحامية فاليري جاريت، المولودة في مدينة شيراز عاصمة فارس بجنوب إيران، عندما كان والداها الأسودان يعملان في أحد مستشفيات المدينة. ولقد أصبحت جاريت صديقة شخصية لميشيل أوباما إثر موافقتها على طلب توظيفها في بلدية مدينة شيكاغو حيث كانتا تعيشان. وتنسجم جاريت تمامًا مع البعد الكوزموبوليتاني العالمي لـ«العائلة» التي تشكل «المطبخ السياسي» لأوباما، وهذا ليس فقط بسبب مولدها في إيران، بل لنشوئها هناك وإجادتها اللغتين الفارسية والفرنسية نتيجة ظروف حياتها لفترات غير قصيرة خارج الولايات المتحدة مع ذويها. أما منصب جاريت الفعلي فمحاط بشيء من الغموض المثير، إذ إنها رئيسة مكتب التواصل والشؤون «بين الحكومية»، والمستشار الخاص للرئيس.
لكن فاليري جاريت في واقع الأمر أكثر تأثيرًا بكثير مما يوحي منصباها. وكان من مؤشرات أهميتها في «مطبخ» إدارة أوباما قيادتها مسيرة ما يعرف بـ«مشروع إيران» الذي همّش معه سيد البيت الأبيض كلاً من مجلس الأمن الدولي والوكالة الدولية للطاقة الذرية والكونغرس الأميركي، بل وحتى البرلمان الإيراني، للخروج بصفقة «الاتفاق النووي» مع إيران، التي لم يوقعها أحد ولم تخضع لأي مسار تشريعي.
ولإرسال رسالة صداقة إلى إيران، مارست جاريت نفوذها أيضًا لبناء شبكة تضم مسؤولين أميركيين وإيرانيين وعاملين داخل البيت الأبيض، بالإضافة إلى المساعدة في الترويج لـ«اللوبي الإيراني» الذي أسس في واشنطن إبان رئاسة محمود أحمدي نجاد بهدف تلميع صورة إيران في الولايات المتحدة.

رايس وباور
بعد جاريت، من حيث الأهمية في «المطبخ الحكومي» تأتي سوزان إليزابيث رايس، المحامية السوداء، التي مع أنها ولدت في العاصمة واشنطن، فإنها مثل باراك أوباما وفاليري جاريت، لديها جذور وصلات عائلية خارج الولايات المتحدة، في هذه الحالة في جامايكا. ولقد كانت رايس وما زالت من مستشاري أوباما المفضلين للشؤون الخارجية منذ أطلق حملة ترشحه للرئاسة عام 2008. بعد ذلك تولت منصب نائب رئيس مجلس الأمن القومي، ثم السفير في الأمم المتحدة، ثم عادت رئيسة لمجلس الأمن القومي.
ثم تأتي ضمن «العائلة» و«مطبخها الحكومي» سامانثا باور، وهي محامية أخرى، وتتقاسم مع أوباما وجاريت ورايس البعد «العالمي» لخلفيتها العائلية. فهي من مواليد آيرلندا لعائلة آيرلندية كاثوليكية. ولقد عملت في الصحافة، وضمن فريق السياسة الخارجية التابع للبيت الأبيض، وهي اليوم السفيرة في الأمم المتحدة. ووفق الكتب التي ألفتها باور، فإنها تتشارك مع الرئيس منظور «العائلة» ومبادئها وأولوياتها في مجال العلاقات الخارجية، وعلى رأسها أن الولايات المتحدة كانت غالبًا قوى متغطرسة متسلطة على المسرح العالمي ومتجاهلة للمصالح المشروعة للدول الأخرى، ومن ثم، يتوجب على واشنطن - في عهد أوباما - أن تمارس الانكفاء وتحاول التعويض عن الأضرار التي ألحقتها بتلك الدول عبر العقود.

الأزمة السورية
وحقًا، كان هذا الاعتقاد المنظومي والمفهومي الراسخ مسؤولاً بدرجة كبيرة، حتى عن محاولة إدارة أوباما فهم طبيعة الأزمة السورية منذ تفجرت في العام 2011. وبالمناسبة، خلال عام 2012 أتيحت فرصة لإنهاء الأزمة السورية عبر مساومات يجري التفاوض عليها مع بشار الأسد من خلال وسطاء سوريين ولبنانيين، يتنحى بموجها رأس النظام جانبا من دون أن يستقيل، ومن ثم يتاح تشكيل سلطة انتقالية تعمل على رعاية مصالحة وطنية وإجراء انتخابات تعددية حرة.
واللافت أن مجموعة المولجين بملف سوريا في مجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية الأميركية أيدت هذه المبادرة التي كان من الممكن أن تنجح أو لا تنجح. لكن أوباما قرر رفض المبادرة معلنًا: «على الأسد الرحيل»، مع أنه رفض أيضًا أي خطوات تجبر حاكم دمشق على ذلك. في صميم ما حدث كان «الثلاثي» النسوي جاريت ورايس وباور.

الآخرون النافذون
«العائلة» تضم أيضًا رجلين نافذين إلا أن نفوذهما أقل من «ثلاثي» السيدات السابق الذكر، وهما جايك سوليفان وبن رودز.
سوليفان (40 سنة) محام من أصل آيرلندي ضمن فريق نائب الرئيس جو بايدن مستشارا لشؤون الأمن القومي وهو موقع قرّبه من الدائرة الصغرى المحيطة بالرئيس وأدخله بالتالي «العائلة». أيضًا عمل سوليفان في مرحلة من مسيرته مع هيلاري كلينتون إبان حملتها الرئاسية عام 2008. ورشحه كثيرون لمنصب رئيس جهاز مجلس الأمن القومي في حال فازت هيلاري يومذاك ودخلت البيت الأبيض.
بعدها لفت سوليفان نظر فاليري جاريت لدى مشاركته في مفاوضات مسقط السرّيّة مع إيران، إبان حكم أحمدي نجاد في طهران. وتبعًا للدكتور علي أكبر صالحي وزير الخارجية الإيراني يومذاك، كان على سوليفان تقديم التنازلات بسخاء. ومما قاله صالحي في هذا الصدد: «عندما أبلغنا المرشد الأعلى بما يعرضه الأميركيون علينا في مسقط فوجئ ولم يصدق».
وأخيرًا، هناك بن رودز (39 سنة) نائب رئيس مجلس الأمن القومي لشؤون الاتصالات الاستراتيجية. وهو حسب اعترافه، روائي فاشل، لكنه حاول إعادة كتابة تاريخه عبر محاولة خداع الإعلام الأميركي بما بات يعرف بـ«الصفقة النووية» مع إيران. ولقد بدأ رودز مسيرة صعوده عندما جرى تعيينه ضمن كتّاب خطب أوباما عام 2007 مع بدء الأخير إعداد نفسه للترشح للرئاسة في العام التالي. ويقول عنه من التقوا به خلال زيارة قام بها إلى لندن عام 2009 إنه رجل مزهو بنفسه بصورة مفرطة.
إلا أن أوباما منح رودز فرصة ذهبية لتعزيز هذا الزهو عندما كلفه بكتابة خطابه الشهير في العاصمة المصرية القاهرة الذي عرف بـ«خطاب القاهرة». وبالفعل، صال رودز وجال في هذا الخطاب، موظفًا تعابيره الإنشائية الروائية لتمرير رسالة إلى القوى الإسلامية في مصر، جوهرها أن واشنطن قررت التخلي عن حليفها القديم الرئيس حسني مبارك، وستكون مستعدة للتعاون مع حكومة على رأسها «الإخوان المسلمون».
وحتى اليوم، يُتهَّم رودز بأنه الشخص الذي أقنع أوباما بـ«طعن مبارك في الظهر»، مع أن في هذا الاتهام مبالغة في تصوير حقيقة نفوذ رودز، ذلك أن القرار الحاسم وراء تغيير واشنطن سياستها بعيدًا عن حلفائها التقليديين في الشرق الأوسط والتوجه نحو تحالف وهمي مع إيران كانت خلفه فاليري جاريت وسوزان رايس، وبادر أوباما بسرعة إلى اعتماده.
أخيرًا، فضلاً عمّن ذُكرت أسماؤهم، يقف بجوار «العائلة» عدد من «المصفقين»، أبرزهم رئيس جهاز البيت الأبيض دينيس ماكدوناه، الذي تمكن أحيانًا من لفت نظر الرئيس إلى الحقائق خارج شرنقة «العائلة». وبيتر لافوي، كبير مديري مجلس الأمن القومي، الذي أدلى بدلوه في شؤون الهند وباكستان. وروبرت مالي، الأميركي - المصري الأصل، وهو محام وأكاديمي ذو خلفية ملوّنة جدًا تحكم نظرته إلى السياسة العالمية «صورة عقد الستينات» من القرن الماضي، وفيها يرى أن أميركا كانت قوة للشر أكثر منها للخير.
هذه هي «العائلة» التي سيفتقدها الرئيس أوباما والتي أسهمت إسهامًا كبيرًا في أوضاع الشرق الأوسط الراهنة.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.