نبيه بري.. «ضابط إيقاع» اللعبة اللبنانية

24 سنة في رئاسة البرلمان.. والبديل غير موجود

نبيه بري.. «ضابط إيقاع» اللعبة اللبنانية
TT
20

نبيه بري.. «ضابط إيقاع» اللعبة اللبنانية

نبيه بري.. «ضابط إيقاع» اللعبة اللبنانية

تتركز الأنظار في لبنان على رئيس مجلس النواب نبيه برّي، حاليًا، باعتباره المعارض الأبرز لوصول رئيس تكتل «التغيير والإصلاح»، النائب العماد ميشال عون، إلى رئاسة الجمهورية. لكن برّي يحرص على التأكيد على أنه «ليس الوحيد»، غامزا من قناة كثير من الذين التقاهم رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، خلال جولته الأخيرة التي قيل إنها تستبق تأييدا محتملاً من الحريري لعون رئيسًا. ومضمون كلام برّي الذي يعد من أمهر من أجادوا لعبة التوازنات السياسية في لبنان، والذي قال - قبل محنة سوريا - إن ضمان حل أي أزمة من أزمات لبنان يأتي عبر «س - س»؛ أي المملكة العربية السعودية وسوريا، أن الساسة الرافضين لعون كثر، غير أنهم لا يقولون ذلك علنًا.
يكاد يصح في رئيس البرلمان اللبناني نبيه برّي الجزء الثاني من مقولة المتنبي الشهيرة: «وأنتَ الخصم والحكم». فبرّي الذي يعتبر عميدا لرؤساء البرلمانات في العالم، ببقائه رئيسا للبرلمان منذ عام 1992، لم يشهد يوما على الساحة اللبنانية منافسا جديا له في موقعه، مستفيدا من شخصيته التي تبقي شعرة معاوية مع الخصوم، ومسافة آمنة مع الحلفاء. وهكذا، تحوّل إلى حاجة لطرفي الأزمة اللبنانية منذ اغتيال الرئيس السابق للحكومة رفيق الحريري في عام 2005؛ يضبط إيقاع البلاد التي تسير منذ ذلك الحين على حافة الهاوية من دون أن تسقط. وفي رأي كثير من خصوم برّي، فإن له دورا أساسيا في عدم سقوطها.
ولقد نال برّي ألقابا كثيرة، أشهرها «الساحر»، فرئيس البرلمان كان دائما جاهزا لإخراج الـ«أرنب» من قبعته، عندما تتأزم الأمور، مجترحًا الحلول، وإن قال بعض السياسيين إنها غير دستورية. ومنها، مثلاً، حالة إسقاط المهلة التي يفرضها الدستور لانتخاب أحد موظفي الدولة رئيسا للجمهورية، من أجل تمكين النواب من انتخاب العماد ميشال سليمان رئيسا للجمهورية عام 2008 من دون تعديل للدستور، إلا أنه كان المخرج شبه الوحيد من الأزمة. كما أخرج بري أرنب «طاولة الحوار»، لامتصاص نقمة الشارع، ومنع الصدام بين الشارعين في عام 2006. ويقول المقربون منه إن «الحوار ووحدة اللبنانيين حوله شكلا السد المنيع الذي منع انتصار إسرائيل في حربها على لبنان، في ذاك العام». كذلك، أخرج أرنبا ثالثا مع تشكيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي عام 2009، بتخلي وزير شيعي عن حصته لصالح وزير سني، من أجل تسهيل تشكيل الحكومة، فكانت المرة الوحيدة التي لا تتساوى فيها الطائفتان في عدد الوزراء، كما ينص العرف الدستوري.
وحول ترشح النائب العماد ميشال عون للرئاسة، تجدر الإشارة إلى أن علاقة بري مع عون لم تكن يوما مضرب المثل، فهي لم ترتق يوما إلى خانة «الحليف»، بل يفضل برّي وصف عون بعبارة «حليف حليفي»؛ أي «حزب الله» الذي يتمتع بعلاقة جيدة مع عون وبرّي. ويوجد بين الرجلين كثير من مسببات التنافر، بالإضافة إلى غياب «الكيمياء» بين الشخصيتين.
ومعلوم أن بري، مثله مثل حليفه آنذاك النائب وليد جنبلاط، قد رفض في عهد الرئيس أمين الجميل تعيين عون قائدا للجيش، واصفا ذلك بأنه «مكافأة له على تدمير جبل والضاحية» (عون كان قائدا للواء الخامس في الجيش الذي خاض مواجهات عنيفة مع حركة (أمل) التي يرأسها برّي، والحزب التقدمي الاشتراكي الذي يرأسه جنبلاط). ويبدو أن انطباع برّي كان - وربما ما زال - سلبيا جدا عن عون، إذ وصفه في كتاب صدر عن حياته بأنه كان «ظاهرة استثنائية في الاستماتة من أجل الوصول إلى رئاسة الجمهورية، مهما كلّفه الأمر، حتى لو كان ذلك على أنقاض البلد كله».
أما عون، فقد «سلّف» برّي كثيرًا من المواقف غير الودية؛ كإصراره على أن المجلس الذي يرأسه برّي «غير شرعي». في حين كانت القشة التي قصمت ظهر البعير إصرار عون على مواجهة برّي انتخابيًا في مدينة جزين المسيحية (جنوب لبنان)، والحصول على نوابها الثلاثة في البرلمان، رغم «كل ما قدمه بري لهذه المدينة»، آخذا على تيار عون تسميته الحملة الانتخابية بأنها تسعى لـ«تحرير جزين».

سياسي ملم بالتفاصيل
يقول نائب رئيس البرلمان، فريد مكاري، الذي عمل نائبا لبرّي منذ عام 2005، إن رئيس البرلمان «من أكثر السياسيين معرفة بالوضع اللبناني»، مشيرا لـ«الشرق الأوسط» إلى أهمية براغماتية نبيه برّي التي تميزه عن غيره من بقية السياسيين. وإذ يصفه مكاري بأنه متحدث لبق مقنع، يؤكد أنه «خصم شرس، لكن يمكن التعاون معه».ويلفت مكاري إلى أن برّي لم يدخل في عداوة دائمة مع أحد من السياسيين اللبنانيين، والأهم أن طبيعته لا تتغير عند الخلاف معه. فإذا اختلفت معه بالسياسة، يستمر باستقبالك والكلام معك، وحتى المزاح، وهو ما خبرناه». أما في حياته الخاصة، فهو «يخاصم من يعتقد أنهم آذوه، لكنه سرعان ما يسامح»، كما يقول أحد أصدقائه المقربين لـ«الشرق الأوسط».
ويرد مكاري سبب قبول قوى 14 بالتصويت لبرّي، حتى عندما كانت لديها الأكثرية البرلمانية، وكان هو خصما لها، إلى ثلاثة أسباب: أولها، أنه الخيار الشيعي الوحيد. وثانيها، أنه الأفضل من بين كل القادرين على شغل هذا المنصب من النواب الشيعة الـ27. وثالثها، أن أيا من النواب الشيعة الذين كانوا مع {14 » لم يكن مستعدا للترشح ضده.
من جهة أخرى، ورغم التقارب الحاصل بين برّي و«حزب الله»، فإن العلاقة بين الطرفين كانت في السابق سيئة إلى حد الدم. فالحزب الذي نشأ على قاعدة الانشقاقات عن حركة «أمل»، تنامى بسرعة نتيجة الدعم الإيراني غير المحدود، واصطدم مع الحركة في صراع على القاعدة الشيعية توّج بحرب ضروس بين الطرفين. ولقد انتصر الحزب في معظم معاركه في البقاع، حيث كان معقله الأساسي، كما سيطر على معظم ضاحية بيروت الجنوبية، وتقدم نحو الجنوب، حيث دارت أشد المعارك قساوة. ويومها، خلع بري ثياب السياسة، ولبس ثياب الميدان، حاملا السلاح لدعم مقاتلي الحركة، مما جعلهم يصمدون ويصدون تقدم الحزب.

لا يحارب داخليًا
يقول برّي إنه لم يتخذ قرارًا بخوض معركة داخلية مع الحركة الوطنية، ولا مع الفلسطينيين، ولا مع الحزب التقدمي الاشتراكي، ولا مع «حزب الله»، ولا مع أي كان،موضحًا: «عشت لحظات ندم كبيرة جدًا، ولا سيما في موقعين: الأول، عندما فرضت علي الفتنة بين حركة (أمل) والفلسطينيين. والثاني، عندما فرضت علي أيضًا فتنة بين حركة (أمل) و(حزب الله). هاتان الفتنتان آلمتاني كثيرًا لأن معركتي لم تكن هناك؛ كنت أشعر بأن يدا تقاتل يدًا، وعينًا تقاتل عينًا، وشريانًا يقاتل شريانًا، والدم ينزف نفسه. إن مجرّد تذكّرهما موجع، وهو يعصرني. وعندما كنت أعيشهما، كان أمرًا في منتهى الصعوبة والألم».
وفي وقت لاحق، تحولت العلاقة تدريجيا بين الحركة والحزب إلى الأفضل، نتيجة التقارب الإيراني - السوري، لكنها توثقت أكثر بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وتشكل فريقي 8 و14، حيث كانا في الخندق ذاته. لكن هذا لا يعني إطلاقا أن ثمة تطابقا في مواقف الطرفين اللذين ظلا يتمايزان بشكل لافت، رغم محافظتهما على الثوابت التي يتفقان عليها.وعلي أي حال، فإن السياق العام لمواقف الطرفين، بعيدا عن الثوابت، يبدو لافتا. فبرّي يحرص على إبقاء قنوات الحوار مفتوحة بشكل دائم. وعندما بدأت الأزمة السورية، انحاز حزب الله إلى جانب النظام بكل قوة، واندفع في وقت لاحق إلى مشاركته في القتال ضد المعارضة، لكن بري انحاز إلى موقف «الحل السلمي» الذي ظل ينادي به منذ اللحظة الأولى، ولا يزال. وبقيت حركة أمل، التي يرأسها برّي، وحيدة بين حلفاء النظام السوري، بعيدة عن الميدان العسكري الذي انخرط فيه بقية الحلفاء. كما كان لافتا أن برّي لم يقم بزيارة واحدة لدمشق منذ ذلك التاريخ. بل على العكس من ذلك، يحرص برّي بشكل دائم على إبداء إشارات التمايز، فعندما صعد حزب الله حملته على المملكة العربية السعودية، اختار برّي اليوم نفسه لاستقبال السفير السعودي في بيروت، وتوزيع صور اللقاء، ليظهر في اليوم التالي خبر الاستقبال مع خبر تصعيد الأمين العام للحزب حسن نصر الله.

بطاقة شخصية
ولد نبيه برّي في مدينة فريتاون، عاصمة سيراليون، يوم 28 يناير (كانون الثاني) عام 1938، حيث كان يقيم والده مصطفى برّي، وهو من أوائل الجنوبيين الذين عملوا في أفريقيا. وعندما بلغ السنة الثالثة من عمره، عاد مع والدته إلى لبنان نظرًا لظروفها الصحية. وعندما عادت الوالدة لتلتحق بزوجها، استقر الرأي على بقائه في لبنان. وفي بلدته تبنين، تربّى نبيه برّي في كنف عمّته التي كانت بمثابة أمّه لجهة الرعاية والاهتمام بشؤون معيشته. ومن ثم، تنقّل بين المدارس بطريقة لافتة، حتى كاد يقضي كل سنة في مدرسة مختلفة. ففي مدرسة تبنين، تلقى علومه الأولى، بالإضافة إلى الدروس الدينية على يد شيخ الضيعة، حيث تمكّن من تجويد القرآن الكريم وهو في السادسة من عمره.
وعندما أنهى المرحلة الابتدائية، اصطدم بواقع أنه لا وجود لمدرسة متوسطة، مما أوجب عليه الانتقال إلى بيروت، فدرس المتوسط الأول في مدرسة الحكمة ذات الطابع المسيحي الماروني، ثم رجع إلى الجنوب، فالتحق بالمدرسة المتوسطة في بنت جبيل، ودرس المتوسط الثاني. ثم انتقل إلى مدينة صور، ليدرس المتوسط الثالث. أما المتوسط الرابع؛ أي الشهادة المتوسطة المعروفة في لبنان بـ«البريفيه»، فقد تقدم فيها «بطلب حر» على اسم مدرسة ليلية، وخاض الامتحان ونجح. وبعد ذلك، انتقل إلى بيروت، ودرس الثانوي الأول في ثانوية الإمام علي بن أبي طالب، التابعة لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية (السنية). ثم في العام التالي، تقدم بطلب حر على اسم مدرسة ليلية للاشتراك في امتحان البكالوريا، وخاض الامتحان ونجح. فالتحق على الأثر بصف الفلسفة في ثانوية الإمام علي بن أبي طالب مجددا. وفي المرحلة الجامعية، انتسب برّي إلى كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية، ونال إجازة في الحقوق بتفوق عام 1963، محتلاً المركز الأول في سنوات الدراسة الأربع، ثم أكمل دراساته العليا في الحقوق في جامعة باريس – السوربون، في فرنسا.
ولقد لمع اسمه خلال ممارسته مهنة المحاماة، بعد أن تدرج في مكتب المحامي المعروف عبد الله لحود. وهكذا، بدأ نبيه برّي شق حياته المهنية حتى لمع وبرع في مجال المحاماة. ولكن مع أنه زاول مهنة المحاماة، فإن عينه كانت دائما على العمل السياسي، كما يقول أحد المقربين منه، فما لبث أن تخلى عن المهنة، ليصبح سياسيا بدوام كامل.
ولقراره دخول العمل السياسي حكاية، ينقلها عنه زواره لـ«الشرق الأوسط»، يقول فيها الرئيس برّي نفسه: «كنت صغيرا أتربى في بلدة تبنين لدى عمة أمي، وكان يسكن قبالتنا أحد النواب. وكنت أرى الناس تتردد إلى هذا المنزل الذي أمامه ساحة كبيرة أقامها النائب. وذات يوم، وكنت وقتها في العاشرة تقريبا، رحت أتفرج من وراء القضبان على الصالون الكبير، حيث يستقبل النائب الناس. ورأيت أمامي منظرا غريبا، فقد كان النائب يقف وأمامه رجل من قرية عيتا راكعا على رجل ونصف يشكو للنائب شيئا، والنائب واقف أمامه. عندها، قررت أن أعمل في السياسة. لقد أدركت يومها أن على الإنسان، إن قابل شخصا متواضعا، أن ينزل تحت. وكلما أوغل الأخير في تواضعه، أوغلت. فالأرض تتغذى من مائها وماء غيرها. أما إذا رأيت متكبرا، فأتكبر عليه أكثر».
ولهذه الرواية تتمة نعرفها من خلال واقعة جرت لبرّي مع الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي. يقول برّي: «ذهبت إلى فرنسا خلال رئاسته، بدعوة من الحكومة الفرنسية. وقد عيّنت لي المواعيد. وعندما وصلت إلى لقاء ساركوزي، دخلت فوجدت الوفد الفرنسي بأكمله في الداخل ما عدا ساركوزي! عندها، رفضت أن أجلس رغم دعوتهم، وانتظرت وصوله لأني رفضت أن أكون جالسا عندما يدخل، فأقف له. ودخل الرئيس الفرنسي، ومن دون مقدمات أو ترحيب، بدأ حديثه قائلا: إن فرنسا ترفض الخضوع لأي تهديد، وترفض، وترفض... وقد كان هناك مشكلات حينها بين الأهالي والقوة الفرنسية العاملة في القوة الدولية (في جنوب لبنان)». ويضيف بري: «انتظرت نهاية خطابه، ثم تحدثت، فقلت له: (إنت كيفك؟). ثم بدأت حواري بالقول: أنتم من دعاني إلى هنا، وأنا لم أطلب المجيء، فجنود القوة الفرنسية هم بحمايتنا، ولا أحد يعلمنا ماذا نفعل. وقد انتهى الأمر بتقديمه الاعتذار، وتحول الجو وديا إلى حد أنه أعطاني رقم هاتفه الخاص، قائلا لي: أي شيء تحتاج إليه، اتصل بي مباشرة».

عروبي مزمن
منذ شبابه، عرف برّي بحبه للمطالعة، وحماسته للقضايا الوطنية والعروبية، إذ قاد كثيرًا من النشاطات والمظاهرات الطلابية عندما كان رئيسا للاتحاد الوطني للطلبة اللبنانيين. وعندما عرض عليه المساهمة في تأسيس «الجمعية اللبنانية للتخصص العلمي»، وافق من دون مناقشة، فقد كان متحمسا لإنشاء هذه الجمعية التي عنيت بتعليم المتفوقين من ذوي الحاجة المادية. ويقول أحد أصدقاء برّي لـ«الشرق الأوسط» إن الأخير بدأ العمل الوطني منذ كان في المدرسة المتوسطة، حين تناهى إليه أن ثمة لبنانيين يتعاونون مع إسرائيل، سواء بالمعلومات أو بالتجارة، فأقنع برّي مجموعة من زملائه، وألفوا جماعة كان هدفها تهديد هؤلاء عبر رسائل مكتوبة بخط اليد دست تحت أبوابهم. كذلك، عرف عن برّي رفضه التشدّد المذهبي، حتى قال عن نفسه في عام 2013: «أنا شيعي الهوية، سني الهوى، لبناني وعربي المنتهى».
حتى علاقته مع الإمام موسى الصدر كادت أن تنتهي قبل أن تبدأ، لأنه كان مقتنعا أن الصدر «آت للتفريق بين السنة والشيعة»، كما قال في مقابلة له مع الزميل نبيل هيثم حول كتاب يوثق حياته. إلا أن الإمام الصدر نفسه بدّد هذا الانطباع في لقاء خاص بينهما، ليتحوّل مع الوقت إلى ساعده الأيمن، حيث كان برّي مندفعا جدا في العمل السياسي أواسط الستينات، ثم انتسب إلى حركة المحرومين التي أسسها الصدر.
أيضًا، يعرف عن برّي تعلقه بأصدقائه، وإصراره على التواصل معهم. وهو يسعى دائما للبقاء على تواصل معهم ومعرفة أخبارهم. ويقول أحدهم: «للرئيس بري حنين بالغ ولفتات ودية، وهو يتحدث دائما عن ذكرياته»، ويشير إلى أن برّي كان ذات يوم في صالة سينما مع زميل لهم، ففوجئا بقطع الفيلم من أجل احتفال حزبي، وبادر الزميل إلى فتاة تجلس إلى جانبه، قائلا لها: «ما هذه القرنبيطة؟»؛ في إشارة إلى شعار حزبها. عندها، بادر برّي فورا إلى ضرب زميله، والصراخ عليه، وجره إلى الخارج، موحيا للآخرين أنه منهم وأنه يعتقله، فأنقذه بذلك - وأنقذ نفسه - من مأزق محتم.

حياته العائلية
تزوّج برّي مرتين: الأولى، ابنة عمه ليلى برّي التي أنجب منها: سيلان وسوسن وفرح ومصطفى وعبد الله وهند. والثانية، رندة عاصي برّي ،وله منها: أمل وميساء وباسل. ولا يوجد من بين أبناء برّي حاليا من يعمل في الحقل السياسي، رغم عمل بعضهم في الحقل العام، من خلال جمعيات خيرية وتعليمية، كابنيه عبد الله، وباسل الذي يرأس حاليا جامعة «فينيقيا». ويقول برّي لسائليه إنه يرفض التوريث، وإنه وقف ضد الإقطاع السياسي، ووراثة الزعامة، ولن يقتدي بها. وعلى صعيد الهوايات، كان برّي ماهرًا في السباحة، وهي من الهوايات التي مارسها صيفًا وشتاءً. وفي صغره، مارس الملاكمة، لكنه لم يحترفها. أما «السنوكر»، فكان من الرياضات المحببة إليه، إلى جانب رياضته المفضلة «كرة القدم». كذلك، هوى نبيه برّي الشعر، نظمًا وإلقاءً وقراءةً، وكان يكرّس وقته للقراءة والكتابة وتدوين الخواطر. وهو معروف ببلاغته وقدراته اللافتة في اللغة العربية.



إبعاد لوبن... هل تتحوّل المتاعب القضائية منفعةً سياسية؟

زمّور (آ ف ب)
زمّور (آ ف ب)
TT
20

إبعاد لوبن... هل تتحوّل المتاعب القضائية منفعةً سياسية؟

زمّور (آ ف ب)
زمّور (آ ف ب)

أثارت إدانة مارين لوبن، زعيمة رئيسة حزب «التجمّع الوطني» اليميني المتطرف، في قضية الوظائف الوهمية، اضطراباً كبيراً في المشهد السياسي الفرنسي بين مؤيد لقرار العدالة الفرنسية ومعارض لها. وأيضاً فتحت باب النقاش حول مستقبل أقوى قوى اليمين المتطرف وزعيمته التاريخية التي ستمنع - ما لم تتمكن من إلغائه بقرار قضائي جديد - من تقديم ترشّحها لأي منصب سياسي لمدة خمس سنوات؛ وهو ما يعني القضاء على طموحها في خلافة الرئيس إيمانويل ماكرون في 2027. أضف إلى ذلك أن هذا الإبعاد قد يعني أيضاً إضعاف هيمنة «آل لوبن»، الذين سيطروا على المناصب الريادية في ثاني أهم تشكيل سياسي فرنسي منذ أسسه جان ماري لوبن (والد مارين) عام 1972، والاحتمال الآخر هو أن تتحول المتاعب القضائية حجّة مثالية للعب دور «الشهيد السياسي» وحشد التأييد والفوز بالانتخابات. وللعلم، بيّنت دراسة أخيرة لاستطلاع الرأي من معهد «إيلاب» أن لوبن تبقى الأوفر حظاً في الفوز بالجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية المقبلة.

في مقال بعنوان «مارين لوبن تُدان في قضية البرلمانيين الأوروبيين، بماذا يتهمها القضاء الفرنسي؟» وصفت صحيفة «لوموند» القضية التي تهدّد بالقضاء على المستقبل السياسي لزعيمة حزب «التجمّع الوطني» اليميني المتطرف بأنها من أهم قضايا الفساد المالي التي تورّط فيها سياسيون فرنسيون على الإطلاق. فالقضية امتدت لأكثر من 20 سنة (بين 2004 و2016)، وبدأت مع زعيم الحزب السابق (المتوفى) جان ماري لوبن الذي لجأ إلى التحايل المالي، واستمرت مع ابنته مارين إثر تسلمها زعامة الحزب عام 2011.

ولقد أفضت تحقيقات القضاء الفرنسي إلى الكشف عن شبكة معقَّدة من التوظيف الوهمي للمساعدين البرلمانيين، كما وصل فيها مقدار الأموال المُختلسة إلى أربعة ملايين ونصف المليون يورو، وعدد المتورطين إلى 12 شخصاً كانوا يتقاضون رواتبهم من البرلمان الأوروبي بينما كانوا يعملون لصالح الحزب اليميني المتطرف؛ وهو ما يعدّ جناية يعاقب عليها القانون الفرنسي.

القضاء الفرنسي عدَّ أن دور مارين لوبن في هذه القضية كان مركزياً؛ لأنها شجَّعت هذه الممارسات، بل أجبرت بعض مساعديها على تبنّيها بحجّة التصّدي للعجز المالي الذي كان يعاني منه الحزب. حيث نقرأ مثلاً في تقرير «المكتب الأوروبي لمكافحة التحايل» الذي تولى التحقيقات أن لوبن كانت توظّف رسمياً حارسها الشخصي ومديرة أعمالها على أساس أنهما مساعدان برلمانيان بينما كانا يعملان فعلياً في مقر الحزب بضاحية نانتير قرب باريس.

المساعدة، بالذات، لم تُمضِ داخل البرلمان الأوروبي، حسب تحقيقات «المكتب»، سوى 12 ساعة... وكان كل عملها في مقر الحزب. كذلك، كشفت المراسلات التي قدمها المدعي العام في جلسات المرافعة عن أن لوبن كانت على دراية تامة بأن هذه الممارسات غير قانونية، لكنها تجاهلت تحذيرات مسؤولي المحاسبة والمالية.

معركة آيديولوجية وهجوم على القضاة...

ولكن، في الولايات المتحدة وإيطاليا ورومانيا، وفّرت قرارات إدانة سياسيين تورّطوا في قضايا فساد مالي فرصة ذهبية لعكس الأوضاع وتقمُّص الجاني دور الضحية. وحصل هذا عبر الهجوم على القضاة باعتبارهم امتداداً «للنظام الفاسد»، وطرفاً في «المؤامرة» التي تحاك ضدّهم. وهذا، بالضبط، ما حاول معسكر لوبن فعله بعد صدور قرار الإدانة. إذ فتح معركة «آراء» لمحاولة إقناع الفرنسيين بأن الحكم الذي صدر في حق زعيمتهم «ضربة للمبادئ الديمقراطية» و«استهداف» لأحد أكثر التشكيلات السياسية شعبية في فرنسا.

جوردان بارديلا (آ ف ب)
جوردان بارديلا (آ ف ب)

وحقاً دعا معسكر لوبن إلى تجمّع في 6 من أبريل (نيسان) الحالي للتنديد بقرار العدالة الفرنسية، لم يحضره، حسب أرقام الصحافة الفرنسية، سوى 5000 شخص. وفي الخطاب الذي ألقته خلال هذا التجمع قالت الزعيمة المتطرفة إن «حزبها لا يطالب بأن يكون فوق القانون، لكنه لا يريد أن يكون تحت القانون أيضاً». واعتبرت أن الحكم القضائي الذي صدر ضدها كان «مُسيساً» ويستهدفها بشكل خاص، مضيفة: «الهدف الوحيد للقضاء هو منعي من تمثيل حزبي في الرئاسيات... على المرء أن يكون أعمى وأصّم حتى لا يفهم ذلك».

الإعلام لم يقتنع بموقف لوبن

استراتيجية الهجوم على القضاء الفرنسي وتقمّص دور الضحية لم يثمرا أمام وسائل الإعلام الفرنسي التي هاجمت لوبن واتهمتها «بالنفاق» والتهرب من المسؤولية، وبالأخص بعدما كُشف عن تسجيلات ولقاءات صحافية قديمة تبدو فيها وهي تدعو إلى التعامل «بحزم» و«صرامة» مع السياسيين المخالفين للقانون «ليس فقط بالإبعاد السياسي لبضع سنوات، بل بالإبعاد السياسي نهائياً».

ففي لقاء تلفزيوني من عام 2013 علّقت على قضية الفساد المالي التي تورط فيها جيروم كازوياك، الوزير الاشتراكي السابق، قائلة: «سمعت رئيس الحكومة وهو يصرّح بأنه يجب تطبيق الإبعاد السياسي على كل من أُدين في قضية التهرب الضريبي حقاً؟ ولِمَ لا الوظائف الوهمية؟ نعم... ولِمَ لا؟ كل الأحزاب السياسية متورّطة في قضايا اختلاس ما عدا حزب الجبهة الشعبية (الاسم القديم للتجمّع الوطني). الفرنسيون سئموا من هذه الممارسات والمطلوب المعاقبة بحزم».

جان ماري لوبن (آ ف ب)
جان ماري لوبن (آ ف ب)

تعليقات منتقدة

التعليقات التي أعقبت ظهور هذا الأرشيف شملت هجوماً على لوبن التي تنادي بتطبيق القانون، لكنها ترفضه حين يتعلق الأمر بها وبحزبها السياسي. إذ وصف الوزير اليميني السابق كازفي برتران موقف مارين لوبن «بمسرحية النفاق الكبيرة»، مردفاً: «لتكفّ عن تقمُّص دور الضحية، وكأن التجمع الوطني لا يملك سوى مرشح واحد؟ عندهم مرشح ثانٍ اسمه جوردان بارديلا وهو ينتظر الترشح منذ مدة».

وركّز آخرون على علاقة اليمين المتطرف بـ«المجموعة الأوروبية»، مذكّرين بأن زعماء هذا التيار كانوا أكثر من هاجم الاتحاد الأوروبي ومؤسساته، لكنهم لم يترددوا في التحايل عليه لاستغلال دعمه المالي. ونشرت صحيفة «ليبراسيون» ما يلي: «المرأة التي لطالما بصقت على الاتحاد الأوروبي، كانت تستغله بشكل واسع لخدمة أغراضها الشخصية. إنه نفاق واستهزاء وتعّدٍ على القانون في آن واحد».

دعم الشعبويين المحافظين

ولئن كانت أحزاب اليسار واليمين قد اتفقت على احترام استقلالية السلطة القضائية وتجنب انتقاد قرارتها، فإن تشكيلات اليمين المتطرف الأخرى ساندت لوبن بمهاجمة قرار القضاء، منهم زعيم حركة «روكونكيت» إيريك زمّور، الذي كتب على منصة «إكس» ما يلي: «ليس من مهام القضاة إقرار مَن هو أهل للترشح في الانتخابات ومن ليس أهلاً»، مندّداً بما وصفه بـ«السلطة المُفرطة للقضاة».

أما خارج فرنسا، فكان لافتاً الدعم الذي حظيت به لوبن من قيادات أجنبية قريبة من التيارات الشعبوية المحافظة كالرئيس الأميركي دونالد ترمب الذي صرّح في منصّته الخاصة «تروث سوشيال» بما يلي: «أطلقوا سراح مارين لوبن... لقد تكبّدت الكثير من الهزائم، والآن وقد اقتربت من الفوز يحاولون النيل منها بسبب تهمة بسيطة... إنها مطاردة الساحرات...». وكذلك فعل نائبه جي دي فانس الذي اعتبر أن ما حدث للوبن في فرنسا «لا يتوافق مع أعراف الديمقراطية». وأيضاً رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان الذي كتب: «أنا مارين» على منصة «إكس» تضامناً معها. أما الكرملين، فقد استنكر قرار المحكمة وعدّه «انتهاكاً للمعايير الديمقراطية».

مارين لوبن (آ ف ب)
مارين لوبن (آ ف ب)

المستقبل مع لوبن... أم في غيابها؟

بنسب نوايا تصويت تتراوح ما بين 32 و49 في المائة في الرئاسيات المقبلة تبدو حظوظ حزب «التجمّع الوطني» في الترشح للدور الثاني، بل والفوز بالرئاسيات قوية. ولذا؛ فإن المحيط المقرَّب لمارين لوبن لا يزال متشبثاً بتقديم ترشحها للرئاسيات رغم المصاعب القضائية. فهي الزعيمة التاريخية التي تعلمت السياسة منذ الصغر على يد والدها مؤسّس الحزب وأول من قاد اليمين المتطرف إلى الدور الثاني في الانتخابات الرئاسية عام 2002.

ثم منذ تسلُّم مارين زعامة الحزب عام 2011، حرصت على تلميع صورة الحزب، مستغلة تراجع اليسار وفشله باستقطاب الطبقات العاملة وسكان الأرياف، كما تقرّبت مع يهود فرنسا لكسب أصواتهم، ولم تتردد في إقصاء والدها من المكتب السياسي للحزب عام 2015 بسبب تصريحاته «المعادية للسامية» وشخصيته المثيرة للجدل.

وفعلاً، دراسات عديدة سجّلت تحسُّناً لصورة «التجمّع الوطني» منذ انتقال الزعامة من جان ماري لوبن إلى ابنته. أيضاً أحكمت الابنة قبضتها على كل أجهزة الحزب بعدما وضعت أفراد عائلتها وأصدقاءها في المناصب الاستراتيجية. ولقد كتب لوك روبون، الباحث في معهد «سيانس بو» للعلوم السياسية، على صفحات جريدة «لوبنيون» في موضوع بعنوان «تابوه خطّة بارديلا للسباق الرئاسي» ما يلي: «لو كان حزب التجمع حزباً عادياً، لانسحبت مارين لوبن فوراً ليجري تنظيم الانتخابات حول جوردان بارديلا، لكنه حزب «تراثي» ورثته البنت عن والدها، وكل أعضائه يدينون بالولاء الشخصي لمارين لوبن، وكل محاولات الابتعاد أو التمرد تنتهي بالإقصاء. وأكبر مثال المصير الذي لقّيه برونو ميغريه، النائب السابق لجان ماري لوبن، الذي حاول الاستحواذ على زعامة الحزب عام 1999 فأقصي منه نهائياً وانتهى باعتزال النشاط السياسي، أو فلوريان فيليبو أحد أقرب المقربّين لمارين لوبن، لكنه أيضاً أقصي من «التجمّع» عام 2017 بعدما حاول الترشح لزعامة الحزب.

التعلّق بأمل الترشح...

في أي حال، تبقى آمال ترشح لوبن معلقة على نتائج الطعن الذي قدمته للعدالة، والذي قد يفضي إذا نجح إلى التبرئة أو تقليص مدة الابعاد السياسي إلى سنتين؛ ما سيسمح لها بخوض الانتخابات قبل ستة أشهر من تنظيمها. وهنا يستشهد مناصرو لوبن بوضع رئيس الوزراء الحالي فرنسوا بايرو، الذي كان قد اتهم أيضاً بقضية وظائف وهمية لمساعدين برلمانيين أوروبيين بين 2005 و2017، لكنه حصّل على البراءة في جلسة الطعن على أساس قاعدة «تفسير الشّك لمصلحة المتهم» وهو الآن يشغل منصب رئيس الوزراء وكأن شيئاً لم يكن.

إبعاد لوبن... إضعاف للحزب أم هبة من السماء؟

> على الرغم من شعبية مارين لوبن، ثمة أصوات كثيرة داخل حزب «التجمّع الوطني» بدأت تعبر عن قلقها من استراتيجية «إنكار الواقع» التي تتبعها الزعيمة التاريخية على مستقبل الحزب اليميني المتطرف، خاصةً أن «سيناريو» ترشحها للسّباق الرئاسي عام 2027 بات مستبعداً بسبب صلابة الأدلة التي تدينها، والتي لا تدع مجالاً للأمل في نتائج الطعن. وأيضاً هناك التداعيات السلبية لقضية التحايل المالي، فمنذ خبر إدانتها اهتزت صورة الزعيمة اليمينية المتطرفة لدى الرأي العام. ولقد نشرت صحيفة «ويست فرانس» استطلاعاً للرأي تبّين من خلاله بأن 64 في المائة من الفرنسيين (أي أكثر من النصف) موافقون على تطبيق عقوبة الإبعاد السياسي على السياسيين المتورطين في قضايا فساد، و53 في المائة منهم يعتبر أن القضاء الفرنسي عامل لوبن كأي شخصية أخرى دون أي نوع من أنواع الإجحاف أو الظلم. والأهم أن الاستطلاع نفسه كشف عن أن 66 في المائة من الفرنسيين يرون أن إقصاء لوبن عن تمثيل «التجمّع الوطني» في الانتخابات الرئاسية المنتظر تنظيمها في 2027 لن يشكل عائقاً... «بل قد يكون إيجابياً على مستقبل وصورة الحزب». للتذكير، القضاء الفرنسي كان قد أصدر بحق لوبن أواخر مارس (آذار) الماضي حكماً بالسجن لأربعة سنوات، منها سنتان نافذتان، والإبعاد السياسي لمدة خمس سنوات، وغرامة مالية تقدر بـ100 ألف يورو في قضية تتعلق بالاحتيال المالي والتلاعب في توظيف مساعدين برلمانين مع تزوير أوراق رسمية. هذه الأجواء خلقت انقسامات داخل «التجمّع» بين فريق مصرّ على ولائه للوبن، وآخر يطالب بالإسراع في تحضير جوردان بارديلا للانتخابات، والاستثمار في التعاطف الذي قد يثيره إقصاء الزعيمة اليمينية من الترشح، فالفرصة قد تكون «ذهبية» شرط استغلالها بسرعة قبل أن تضعف موجة التعاطف. وهذا أيضاً ما رأته مجلة «دير شبيغل» الألمانية التي اعتبرت أن أسوأ طريقة للتخلص من خطر اليمين المتطرف هو منع زعيمته من الترشح، وذهبت أبعد لتقول إن ما حدث للوبن في فرنسا «هبة من السماء» لليمين المتطرف سيستغلها معسكرها للتنديد بـ«المؤامرة السياسية القضائية» وحشد التعاطف.