نبيه بري.. «ضابط إيقاع» اللعبة اللبنانية

24 سنة في رئاسة البرلمان.. والبديل غير موجود

نبيه بري.. «ضابط إيقاع» اللعبة اللبنانية
TT

نبيه بري.. «ضابط إيقاع» اللعبة اللبنانية

نبيه بري.. «ضابط إيقاع» اللعبة اللبنانية

تتركز الأنظار في لبنان على رئيس مجلس النواب نبيه برّي، حاليًا، باعتباره المعارض الأبرز لوصول رئيس تكتل «التغيير والإصلاح»، النائب العماد ميشال عون، إلى رئاسة الجمهورية. لكن برّي يحرص على التأكيد على أنه «ليس الوحيد»، غامزا من قناة كثير من الذين التقاهم رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، خلال جولته الأخيرة التي قيل إنها تستبق تأييدا محتملاً من الحريري لعون رئيسًا. ومضمون كلام برّي الذي يعد من أمهر من أجادوا لعبة التوازنات السياسية في لبنان، والذي قال - قبل محنة سوريا - إن ضمان حل أي أزمة من أزمات لبنان يأتي عبر «س - س»؛ أي المملكة العربية السعودية وسوريا، أن الساسة الرافضين لعون كثر، غير أنهم لا يقولون ذلك علنًا.
يكاد يصح في رئيس البرلمان اللبناني نبيه برّي الجزء الثاني من مقولة المتنبي الشهيرة: «وأنتَ الخصم والحكم». فبرّي الذي يعتبر عميدا لرؤساء البرلمانات في العالم، ببقائه رئيسا للبرلمان منذ عام 1992، لم يشهد يوما على الساحة اللبنانية منافسا جديا له في موقعه، مستفيدا من شخصيته التي تبقي شعرة معاوية مع الخصوم، ومسافة آمنة مع الحلفاء. وهكذا، تحوّل إلى حاجة لطرفي الأزمة اللبنانية منذ اغتيال الرئيس السابق للحكومة رفيق الحريري في عام 2005؛ يضبط إيقاع البلاد التي تسير منذ ذلك الحين على حافة الهاوية من دون أن تسقط. وفي رأي كثير من خصوم برّي، فإن له دورا أساسيا في عدم سقوطها.
ولقد نال برّي ألقابا كثيرة، أشهرها «الساحر»، فرئيس البرلمان كان دائما جاهزا لإخراج الـ«أرنب» من قبعته، عندما تتأزم الأمور، مجترحًا الحلول، وإن قال بعض السياسيين إنها غير دستورية. ومنها، مثلاً، حالة إسقاط المهلة التي يفرضها الدستور لانتخاب أحد موظفي الدولة رئيسا للجمهورية، من أجل تمكين النواب من انتخاب العماد ميشال سليمان رئيسا للجمهورية عام 2008 من دون تعديل للدستور، إلا أنه كان المخرج شبه الوحيد من الأزمة. كما أخرج بري أرنب «طاولة الحوار»، لامتصاص نقمة الشارع، ومنع الصدام بين الشارعين في عام 2006. ويقول المقربون منه إن «الحوار ووحدة اللبنانيين حوله شكلا السد المنيع الذي منع انتصار إسرائيل في حربها على لبنان، في ذاك العام». كذلك، أخرج أرنبا ثالثا مع تشكيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي عام 2009، بتخلي وزير شيعي عن حصته لصالح وزير سني، من أجل تسهيل تشكيل الحكومة، فكانت المرة الوحيدة التي لا تتساوى فيها الطائفتان في عدد الوزراء، كما ينص العرف الدستوري.
وحول ترشح النائب العماد ميشال عون للرئاسة، تجدر الإشارة إلى أن علاقة بري مع عون لم تكن يوما مضرب المثل، فهي لم ترتق يوما إلى خانة «الحليف»، بل يفضل برّي وصف عون بعبارة «حليف حليفي»؛ أي «حزب الله» الذي يتمتع بعلاقة جيدة مع عون وبرّي. ويوجد بين الرجلين كثير من مسببات التنافر، بالإضافة إلى غياب «الكيمياء» بين الشخصيتين.
ومعلوم أن بري، مثله مثل حليفه آنذاك النائب وليد جنبلاط، قد رفض في عهد الرئيس أمين الجميل تعيين عون قائدا للجيش، واصفا ذلك بأنه «مكافأة له على تدمير جبل والضاحية» (عون كان قائدا للواء الخامس في الجيش الذي خاض مواجهات عنيفة مع حركة (أمل) التي يرأسها برّي، والحزب التقدمي الاشتراكي الذي يرأسه جنبلاط). ويبدو أن انطباع برّي كان - وربما ما زال - سلبيا جدا عن عون، إذ وصفه في كتاب صدر عن حياته بأنه كان «ظاهرة استثنائية في الاستماتة من أجل الوصول إلى رئاسة الجمهورية، مهما كلّفه الأمر، حتى لو كان ذلك على أنقاض البلد كله».
أما عون، فقد «سلّف» برّي كثيرًا من المواقف غير الودية؛ كإصراره على أن المجلس الذي يرأسه برّي «غير شرعي». في حين كانت القشة التي قصمت ظهر البعير إصرار عون على مواجهة برّي انتخابيًا في مدينة جزين المسيحية (جنوب لبنان)، والحصول على نوابها الثلاثة في البرلمان، رغم «كل ما قدمه بري لهذه المدينة»، آخذا على تيار عون تسميته الحملة الانتخابية بأنها تسعى لـ«تحرير جزين».

سياسي ملم بالتفاصيل
يقول نائب رئيس البرلمان، فريد مكاري، الذي عمل نائبا لبرّي منذ عام 2005، إن رئيس البرلمان «من أكثر السياسيين معرفة بالوضع اللبناني»، مشيرا لـ«الشرق الأوسط» إلى أهمية براغماتية نبيه برّي التي تميزه عن غيره من بقية السياسيين. وإذ يصفه مكاري بأنه متحدث لبق مقنع، يؤكد أنه «خصم شرس، لكن يمكن التعاون معه».ويلفت مكاري إلى أن برّي لم يدخل في عداوة دائمة مع أحد من السياسيين اللبنانيين، والأهم أن طبيعته لا تتغير عند الخلاف معه. فإذا اختلفت معه بالسياسة، يستمر باستقبالك والكلام معك، وحتى المزاح، وهو ما خبرناه». أما في حياته الخاصة، فهو «يخاصم من يعتقد أنهم آذوه، لكنه سرعان ما يسامح»، كما يقول أحد أصدقائه المقربين لـ«الشرق الأوسط».
ويرد مكاري سبب قبول قوى 14 بالتصويت لبرّي، حتى عندما كانت لديها الأكثرية البرلمانية، وكان هو خصما لها، إلى ثلاثة أسباب: أولها، أنه الخيار الشيعي الوحيد. وثانيها، أنه الأفضل من بين كل القادرين على شغل هذا المنصب من النواب الشيعة الـ27. وثالثها، أن أيا من النواب الشيعة الذين كانوا مع {14 » لم يكن مستعدا للترشح ضده.
من جهة أخرى، ورغم التقارب الحاصل بين برّي و«حزب الله»، فإن العلاقة بين الطرفين كانت في السابق سيئة إلى حد الدم. فالحزب الذي نشأ على قاعدة الانشقاقات عن حركة «أمل»، تنامى بسرعة نتيجة الدعم الإيراني غير المحدود، واصطدم مع الحركة في صراع على القاعدة الشيعية توّج بحرب ضروس بين الطرفين. ولقد انتصر الحزب في معظم معاركه في البقاع، حيث كان معقله الأساسي، كما سيطر على معظم ضاحية بيروت الجنوبية، وتقدم نحو الجنوب، حيث دارت أشد المعارك قساوة. ويومها، خلع بري ثياب السياسة، ولبس ثياب الميدان، حاملا السلاح لدعم مقاتلي الحركة، مما جعلهم يصمدون ويصدون تقدم الحزب.

لا يحارب داخليًا
يقول برّي إنه لم يتخذ قرارًا بخوض معركة داخلية مع الحركة الوطنية، ولا مع الفلسطينيين، ولا مع الحزب التقدمي الاشتراكي، ولا مع «حزب الله»، ولا مع أي كان،موضحًا: «عشت لحظات ندم كبيرة جدًا، ولا سيما في موقعين: الأول، عندما فرضت علي الفتنة بين حركة (أمل) والفلسطينيين. والثاني، عندما فرضت علي أيضًا فتنة بين حركة (أمل) و(حزب الله). هاتان الفتنتان آلمتاني كثيرًا لأن معركتي لم تكن هناك؛ كنت أشعر بأن يدا تقاتل يدًا، وعينًا تقاتل عينًا، وشريانًا يقاتل شريانًا، والدم ينزف نفسه. إن مجرّد تذكّرهما موجع، وهو يعصرني. وعندما كنت أعيشهما، كان أمرًا في منتهى الصعوبة والألم».
وفي وقت لاحق، تحولت العلاقة تدريجيا بين الحركة والحزب إلى الأفضل، نتيجة التقارب الإيراني - السوري، لكنها توثقت أكثر بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وتشكل فريقي 8 و14، حيث كانا في الخندق ذاته. لكن هذا لا يعني إطلاقا أن ثمة تطابقا في مواقف الطرفين اللذين ظلا يتمايزان بشكل لافت، رغم محافظتهما على الثوابت التي يتفقان عليها.وعلي أي حال، فإن السياق العام لمواقف الطرفين، بعيدا عن الثوابت، يبدو لافتا. فبرّي يحرص على إبقاء قنوات الحوار مفتوحة بشكل دائم. وعندما بدأت الأزمة السورية، انحاز حزب الله إلى جانب النظام بكل قوة، واندفع في وقت لاحق إلى مشاركته في القتال ضد المعارضة، لكن بري انحاز إلى موقف «الحل السلمي» الذي ظل ينادي به منذ اللحظة الأولى، ولا يزال. وبقيت حركة أمل، التي يرأسها برّي، وحيدة بين حلفاء النظام السوري، بعيدة عن الميدان العسكري الذي انخرط فيه بقية الحلفاء. كما كان لافتا أن برّي لم يقم بزيارة واحدة لدمشق منذ ذلك التاريخ. بل على العكس من ذلك، يحرص برّي بشكل دائم على إبداء إشارات التمايز، فعندما صعد حزب الله حملته على المملكة العربية السعودية، اختار برّي اليوم نفسه لاستقبال السفير السعودي في بيروت، وتوزيع صور اللقاء، ليظهر في اليوم التالي خبر الاستقبال مع خبر تصعيد الأمين العام للحزب حسن نصر الله.

بطاقة شخصية
ولد نبيه برّي في مدينة فريتاون، عاصمة سيراليون، يوم 28 يناير (كانون الثاني) عام 1938، حيث كان يقيم والده مصطفى برّي، وهو من أوائل الجنوبيين الذين عملوا في أفريقيا. وعندما بلغ السنة الثالثة من عمره، عاد مع والدته إلى لبنان نظرًا لظروفها الصحية. وعندما عادت الوالدة لتلتحق بزوجها، استقر الرأي على بقائه في لبنان. وفي بلدته تبنين، تربّى نبيه برّي في كنف عمّته التي كانت بمثابة أمّه لجهة الرعاية والاهتمام بشؤون معيشته. ومن ثم، تنقّل بين المدارس بطريقة لافتة، حتى كاد يقضي كل سنة في مدرسة مختلفة. ففي مدرسة تبنين، تلقى علومه الأولى، بالإضافة إلى الدروس الدينية على يد شيخ الضيعة، حيث تمكّن من تجويد القرآن الكريم وهو في السادسة من عمره.
وعندما أنهى المرحلة الابتدائية، اصطدم بواقع أنه لا وجود لمدرسة متوسطة، مما أوجب عليه الانتقال إلى بيروت، فدرس المتوسط الأول في مدرسة الحكمة ذات الطابع المسيحي الماروني، ثم رجع إلى الجنوب، فالتحق بالمدرسة المتوسطة في بنت جبيل، ودرس المتوسط الثاني. ثم انتقل إلى مدينة صور، ليدرس المتوسط الثالث. أما المتوسط الرابع؛ أي الشهادة المتوسطة المعروفة في لبنان بـ«البريفيه»، فقد تقدم فيها «بطلب حر» على اسم مدرسة ليلية، وخاض الامتحان ونجح. وبعد ذلك، انتقل إلى بيروت، ودرس الثانوي الأول في ثانوية الإمام علي بن أبي طالب، التابعة لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية (السنية). ثم في العام التالي، تقدم بطلب حر على اسم مدرسة ليلية للاشتراك في امتحان البكالوريا، وخاض الامتحان ونجح. فالتحق على الأثر بصف الفلسفة في ثانوية الإمام علي بن أبي طالب مجددا. وفي المرحلة الجامعية، انتسب برّي إلى كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية، ونال إجازة في الحقوق بتفوق عام 1963، محتلاً المركز الأول في سنوات الدراسة الأربع، ثم أكمل دراساته العليا في الحقوق في جامعة باريس – السوربون، في فرنسا.
ولقد لمع اسمه خلال ممارسته مهنة المحاماة، بعد أن تدرج في مكتب المحامي المعروف عبد الله لحود. وهكذا، بدأ نبيه برّي شق حياته المهنية حتى لمع وبرع في مجال المحاماة. ولكن مع أنه زاول مهنة المحاماة، فإن عينه كانت دائما على العمل السياسي، كما يقول أحد المقربين منه، فما لبث أن تخلى عن المهنة، ليصبح سياسيا بدوام كامل.
ولقراره دخول العمل السياسي حكاية، ينقلها عنه زواره لـ«الشرق الأوسط»، يقول فيها الرئيس برّي نفسه: «كنت صغيرا أتربى في بلدة تبنين لدى عمة أمي، وكان يسكن قبالتنا أحد النواب. وكنت أرى الناس تتردد إلى هذا المنزل الذي أمامه ساحة كبيرة أقامها النائب. وذات يوم، وكنت وقتها في العاشرة تقريبا، رحت أتفرج من وراء القضبان على الصالون الكبير، حيث يستقبل النائب الناس. ورأيت أمامي منظرا غريبا، فقد كان النائب يقف وأمامه رجل من قرية عيتا راكعا على رجل ونصف يشكو للنائب شيئا، والنائب واقف أمامه. عندها، قررت أن أعمل في السياسة. لقد أدركت يومها أن على الإنسان، إن قابل شخصا متواضعا، أن ينزل تحت. وكلما أوغل الأخير في تواضعه، أوغلت. فالأرض تتغذى من مائها وماء غيرها. أما إذا رأيت متكبرا، فأتكبر عليه أكثر».
ولهذه الرواية تتمة نعرفها من خلال واقعة جرت لبرّي مع الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي. يقول برّي: «ذهبت إلى فرنسا خلال رئاسته، بدعوة من الحكومة الفرنسية. وقد عيّنت لي المواعيد. وعندما وصلت إلى لقاء ساركوزي، دخلت فوجدت الوفد الفرنسي بأكمله في الداخل ما عدا ساركوزي! عندها، رفضت أن أجلس رغم دعوتهم، وانتظرت وصوله لأني رفضت أن أكون جالسا عندما يدخل، فأقف له. ودخل الرئيس الفرنسي، ومن دون مقدمات أو ترحيب، بدأ حديثه قائلا: إن فرنسا ترفض الخضوع لأي تهديد، وترفض، وترفض... وقد كان هناك مشكلات حينها بين الأهالي والقوة الفرنسية العاملة في القوة الدولية (في جنوب لبنان)». ويضيف بري: «انتظرت نهاية خطابه، ثم تحدثت، فقلت له: (إنت كيفك؟). ثم بدأت حواري بالقول: أنتم من دعاني إلى هنا، وأنا لم أطلب المجيء، فجنود القوة الفرنسية هم بحمايتنا، ولا أحد يعلمنا ماذا نفعل. وقد انتهى الأمر بتقديمه الاعتذار، وتحول الجو وديا إلى حد أنه أعطاني رقم هاتفه الخاص، قائلا لي: أي شيء تحتاج إليه، اتصل بي مباشرة».

عروبي مزمن
منذ شبابه، عرف برّي بحبه للمطالعة، وحماسته للقضايا الوطنية والعروبية، إذ قاد كثيرًا من النشاطات والمظاهرات الطلابية عندما كان رئيسا للاتحاد الوطني للطلبة اللبنانيين. وعندما عرض عليه المساهمة في تأسيس «الجمعية اللبنانية للتخصص العلمي»، وافق من دون مناقشة، فقد كان متحمسا لإنشاء هذه الجمعية التي عنيت بتعليم المتفوقين من ذوي الحاجة المادية. ويقول أحد أصدقاء برّي لـ«الشرق الأوسط» إن الأخير بدأ العمل الوطني منذ كان في المدرسة المتوسطة، حين تناهى إليه أن ثمة لبنانيين يتعاونون مع إسرائيل، سواء بالمعلومات أو بالتجارة، فأقنع برّي مجموعة من زملائه، وألفوا جماعة كان هدفها تهديد هؤلاء عبر رسائل مكتوبة بخط اليد دست تحت أبوابهم. كذلك، عرف عن برّي رفضه التشدّد المذهبي، حتى قال عن نفسه في عام 2013: «أنا شيعي الهوية، سني الهوى، لبناني وعربي المنتهى».
حتى علاقته مع الإمام موسى الصدر كادت أن تنتهي قبل أن تبدأ، لأنه كان مقتنعا أن الصدر «آت للتفريق بين السنة والشيعة»، كما قال في مقابلة له مع الزميل نبيل هيثم حول كتاب يوثق حياته. إلا أن الإمام الصدر نفسه بدّد هذا الانطباع في لقاء خاص بينهما، ليتحوّل مع الوقت إلى ساعده الأيمن، حيث كان برّي مندفعا جدا في العمل السياسي أواسط الستينات، ثم انتسب إلى حركة المحرومين التي أسسها الصدر.
أيضًا، يعرف عن برّي تعلقه بأصدقائه، وإصراره على التواصل معهم. وهو يسعى دائما للبقاء على تواصل معهم ومعرفة أخبارهم. ويقول أحدهم: «للرئيس بري حنين بالغ ولفتات ودية، وهو يتحدث دائما عن ذكرياته»، ويشير إلى أن برّي كان ذات يوم في صالة سينما مع زميل لهم، ففوجئا بقطع الفيلم من أجل احتفال حزبي، وبادر الزميل إلى فتاة تجلس إلى جانبه، قائلا لها: «ما هذه القرنبيطة؟»؛ في إشارة إلى شعار حزبها. عندها، بادر برّي فورا إلى ضرب زميله، والصراخ عليه، وجره إلى الخارج، موحيا للآخرين أنه منهم وأنه يعتقله، فأنقذه بذلك - وأنقذ نفسه - من مأزق محتم.

حياته العائلية
تزوّج برّي مرتين: الأولى، ابنة عمه ليلى برّي التي أنجب منها: سيلان وسوسن وفرح ومصطفى وعبد الله وهند. والثانية، رندة عاصي برّي ،وله منها: أمل وميساء وباسل. ولا يوجد من بين أبناء برّي حاليا من يعمل في الحقل السياسي، رغم عمل بعضهم في الحقل العام، من خلال جمعيات خيرية وتعليمية، كابنيه عبد الله، وباسل الذي يرأس حاليا جامعة «فينيقيا». ويقول برّي لسائليه إنه يرفض التوريث، وإنه وقف ضد الإقطاع السياسي، ووراثة الزعامة، ولن يقتدي بها. وعلى صعيد الهوايات، كان برّي ماهرًا في السباحة، وهي من الهوايات التي مارسها صيفًا وشتاءً. وفي صغره، مارس الملاكمة، لكنه لم يحترفها. أما «السنوكر»، فكان من الرياضات المحببة إليه، إلى جانب رياضته المفضلة «كرة القدم». كذلك، هوى نبيه برّي الشعر، نظمًا وإلقاءً وقراءةً، وكان يكرّس وقته للقراءة والكتابة وتدوين الخواطر. وهو معروف ببلاغته وقدراته اللافتة في اللغة العربية.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.