لإقليم الأندلس في جنوب إسبانيا مذاق خاص بعد فصل الصيف. فالطقس يتحول من الحرارة الشديدة إلى الاعتدال ويغادر سياح الصيف عائدين إلى بلدانهم وتعود الحياة إلى مسارها الطبيعي الهادئ في المنطقة.
ومن يعرف إقليم الأندلس جيدا يتجنبه خلال فترة الصيف، خصوصا في شهر أغسطس (آب) من كل عام، حيث الحرارة شديدة والأسعار ملتهبة وحجز الفنادق شبه مستحيل والحياة اليومية صعبة بالبحث عن موقف شاغر للسيارة أو مقعد متميز في مطعم أو حتى بقعة هادئة على الشاطئ.
في الخريف تبدو الحياة سهلة في الأندلس. فالشواطئ ما زالت نشطة ببعض المصيفين، لكن الأماكن الشاغرة متاحة وكذلك تنخفض تكاليف الإقامة والمطاعم ويقضي السائح وقتا ممتعا بعيدا عن ضوضاء الأطفال الذين يعودون إلى المدارس في شهر سبتمبر (أيلول) من كل عام.
وعلى رغم أن إقليم الأندلس يشمل ثماني مناطق جغرافية تمتد من ألميريا شرقا إلى هويلفا غربا مرورا بكل من غرانادا (غرناطة) وجاين وكوردوبا (قرطبة) وسيفيل (إشبيلية) ومالاغا (ملقا) وكاديز (قادش)، فإن التكدس السياحي عادة ما يكون في محيط إقليم مالاغا، وهي منطقة تمتد من مدينة مالاغا شرقا ومطارها الدولي الشهير وحتى منطقة ماربيا الأرستقراطية التي يؤمها كبار الزوار والأثرياء سنويا.
هذه المنطقة كانت الأكثر معاناة في مرحلة الكساد الاقتصادي التي عمت أوروبا منذ عام 2008. فزادت فيها نسب البطالة كما انهارت أسعار العقار فيها بنسبة 60 في المائة وهجرها السياح الأجانب واقتصر النشاط السياحي في أغلبه على الإسبان من مناطق الشمال.
ولكنها تبدو هذا العام وكأنها تعود للمرة الأولى منذ أكثر من ثماني سنوات إلى الانتعاش الذي تستمر مظاهره إلى ما بعد فترة الصيف الصاخبة. وهناك كثير من المظاهر لهذا الانتعاش مثل عودة القيمة إلى الأصول العقارية في المنطقة وتفوق الخدمات التي تقدمها الفنادق والمطاعم مع ارتفاع أسعارها رغم نهاية فصل الصيف. ويعكس الانتعاش أيضا نشاط البيع والشراء والإقبال على المطاعم والفنادق والخدمات السياحية والشعور العام أن الإسبان في حال اقتصادية أفضل هذا العام عما كانوا عليه في الأعوام السابقة.
وبالإضافة إلى الشاطئ الرملي الممتد عبر عشرات الأميال بين مالاغا وماربيا، هنالك عشرات من المدن والقرى الساحرة التي يتعين استكشافها عند الزيارة. ولكل من هذه المدن نكهة خاصة ومهرجان سنوي خاص تحتفل به (يسمى فيريا) وينتقل خلال أشهر العام بين مدينة وأخرى. وخلال ذروة الصيف في شهر أغسطس تستغرق مدينة مالاغا مهرجانها السنوي الذي يقام في شوارعها وعلى أرض فضاء خارج المدينة مخصصة للمهرجان السنوي.
وخلال المهرجان يرتدي الرجال بدلات سوداء وقبعات ويختالون على ظهور الخيول في شوارع المدينة، بينما ترتدي النساء والفتيات الفساتين الملونة المعروفة باسم الفلامينكو ويرتدن شوارع المدينة على عربات خاصة تجرها الخيول.
وفي المساء يتوجه الجميع إلى أرض المهرجان، حيث الموسيقى والألعاب تستمر حتى ساعات الصباح الأولى. وتأتي إلى المدينة أفواج السياح من المدن الأخرى لزيارة مالاغا في عيدها باعتبارها عاصمة الإقليم الجنوبي. ويستمر هذا المهرجان حتى نهاية الشهر وتتغير خلاله ملامح المدينة.
وفي الماضي كانت مالاغا تعد من المدن الفقيرة مقارنة بمدينة مثل سيفيل. ولكنها استطاعت خلال فترة الكساد أن تعيد ابتكار نفسها بوصفها مدينة سياحية طوال العام. وفي الخريف يمكن زيارة متحف بيكاسو ومجمع الملاهي الجديد «مويل أونو» الذي أضيف إلى معالم المدينة هذا العام بالقرب من الميناء. وتعمل المدينة الآن على تأسيس مركز فني بوهيمي على أطرافها أطلقت عليه اسم «سوهو».
وإذا كان معظم سياح مالاغا يعرفون متحف بيكاسو، فكثير منهم لا يعرف أن مالاغا بها أكبر عدد من المتاحف في الأندلس، بعدد يفوق الثلاثين متحفا. وهي تتنوع بين كل المجالات ويحتفي أحدها بالفنان المحلي فيلكس ريفيللو ديل تورو.
وبالمدينة كثير من الآثار الرومانية منها مدرج روماني مفتوح للزيارة كما توجد فيها قلاع من العصر الإسلامي، إحداها تسمى قلعة جبرالفارو والأخرى قلعة القصبة التي يعود تاريخها إلى عام 1065، وتوجد حفريات تاريخية في القلعتين حاليا للبحث عن معالم هذه الحقبة في التاريخ الإسباني.
وتشتهر مالاغا بالتسوق وبها شوارع تزخر بأحدث ابتكارات الموضة مثل شارع الأميدا وشارع ماركيز دو لاريوس (يسميه الإسبان شارع لاريوس) الذي تحول إلى منطقة مشاة فقط منذ عام 2002، وينتهي الشارع إلى الميدان الرئيسي في المدينة وهو ميدان (بلازا دو كونستيتيوسيون) وفيه تقام الاحتفالات الشعبية كافة.
وهناك أيضا كثير من مولات التسوق، مثل مالاغا بلازا، والمحلات المشهورة، مثل كورت إنغليز، التي تفتح أبوابها طوال ساعات النهار بخلاف البوتيكات الصغيرة، التي ما زالت تغلق أبوابها في فترة الظهيرة التي تسمى فترة «سييستا».
وتقام في المدينة بعض المهرجانات العالمية مثل مهرجان موسيقى الجاز في نوفمبر (تشرين الثاني) سنويا ومهرجان الأفلام الذي يقام سنويا في شهر مارس (آذار). وتقام هذه الأحداث في قاعة شهيرة في وسط المدينة تسمى تياترو سيرفانتيس.
بالإضافة إلى الأحداث الثقافية والفنية تشتهر مالاغا بحديقة استوائية على الطريق الرئيسي بينها وبين مدينة أنتيكيرا. ويمكن للسياح استخدام الباص السياحي المكشوف لاستكشاف معالم المدينة.
ومن مالاغا يمكن استكشاف كثير من المدن والقرى الأخرى وبعضها غير معروف للسياح، مثل قرية ميخاس التي تطل على شاطئ الأندلس من ارتفاع شاهق من فوق التلال القريبة. وهي تبعد نحو نصف ساعة بالسيارة من الشاطئ وتحتفظ بطابعها الأندلسي الأصيل على رغم شعبيتها بين السياح الأجانب. ويتخذ كثير من الفنانين والأدباء من ميخاس موطنا دائما لهم للاستمتاع بالطقس المشمس طوال العالم وبأسلوب الحياة الأندلسية الهادئ بعيدا عن الزخم السياحي للمدن الساحلية.
وتشتهر المدينة بالمشغولات اليدوية واللوحات الفنية من فنانين محليين. وهي تقيم مهرجانها السنوي في شهر سبتمبر ويقام على مشارف المدينة.
ولعل أشهر ما يجذب السياح إلى المنطقة المدن السياحية الشهيرة مثل ماربيا وبورتو بانوس ونيرخا. كما تجذب مدن أخرى أقل جاذبية فئات أخرى من السياح، ومنها مثلا توريمولينوس وبن المدينة وفوينخرولا. ولكل من هذه المدن خصائصها ومميزاتها وبعضها يجذب سياحا إليها طوال شهور العام.
وتعرف ماربيا بأنها المقصد الأول للطبقة الأرستقراطية في جنوب إسبانيا. وبها تسكن الطبقة العليا من الزوار الأجانب وإن كان السياح العاديون من مناطق إسبانيا الأخرى يزورون المدينة على نحو دوري ويستمتعون بها. وهي المعادل الإسباني لمدينة سان تروبيه على الريفييرا الفرنسية.
ماربيا القديمة هي مدينة عتيقة شوارعها مرصوفة بالأحجار المصقولة ومعظم نوافذ بيوتها في الواقع حدائق أزهار وورود من كل صنف ولون. وأهم ميدان في المدينة مليء بأشجار البرتقال ويسمى بلازا دو لوس نارانخا. وهي تشتهر بمطاعمها الفاخرة التي توفر كل الوجبات الإسبانية والعالمية. وتعود شهرة ماربيا إلى الستينات حيث وقع في غرامها أمير ألماني اسمه ألفونسو دو هوهينلوه، وبنى فيها قصرا على الشاطئ كان ملتقى الملوك ونجوم هوليوود في العقود التالية. وما زال هذه القصر مفتوحا حتى الآن تحت اسم «ماربيا كلوب». وهناك كثير من السياح والمشاهير الذين زاروا المدينة وقرروا بعدها الإقامة الدائمة فيها.
وعلى مقربة ستة كيلومترات غرب مدينة ماربيا يقع ميناء بويرتو بانوس، الذي كان في الأصل قرية صيد تقع بين البحر والجبال القريبة، إلا أنها طورت في عقد السبعينات لكي تكون مرفأ فاخرا لليخوت ومركزا حديثا للتسوق.
واتخذ الميناء هذا الاسم تيمنا بالمعماري الذي كان وراء المشروع، وهو خوزيه بانوس. ويعرف الميناء حاليا بأنه مرتع الأثرياء خلال عطلاتهم على يخوتهم الفاخرة. وتعكس البوتيكات أسلوب حياة مرفه، حيث تعرض أحدث خطوط الموضة الباريسية بأسعار باهظة.
ويذهب معظم السياح إلى بويرتو بانوس من أجل مشاهدة المشاهير، خصوصا في فصل الصيف. وإذا لم يجد هؤلاء وجوها مشهورة يعرفونها فإنهم يكتفون بمتابعة السيارات السوبر من أنواع فيراري ولامبورغيني المنتشرة في أرجاء الميناء.
ومن أقصى الغرب إلى أقصى الشرق في إقليم مالاغا، حيث تقع مدينة نيرخا على مقربة 50 كيلومترا شرق مدينة مالاغا، وهي في الأصل قرية صيد ولكنها الآن مدينة يصل تعدادها إلى 22 ألف نسمة. وتمتد نيرخا بشواطئ رملية ساحرة على مساحة 16 كيلومترا، وهي لذلك تتخصص في الرياضات البحرية بأنواعها.
وأفضل ما في نيرخا أنها تجنبت «جنون الإسمنت» الذي لحق بغيرها من المدن الساحلية من أمثال توريمولينوس وحولها إلى غابات من المكعبات الإسمنتية في صيغة عمارات شاهقة تسد مشاهد الساحل وتعد من مظاهر الفشل التخطيطي وأحيانا الفساد.
وما زالت نيرخا تحتفظ برونقها القديم وشوارعها الضيقة وبيوتها البيضاء المليئة بالزهور الحمراء وطيور الزينة. ولكن أهم معالم المدينة رصيف هائل يطل على البحر اسمه «بالكون أوروبا»، وهو رصيف أقيم في موقع قلعة عربية كانت تطل على الموقع أثناء فترة الحكم العربي لإسبانيا، وهو موقع خلاب يطل على البحر بمشاهد بانورامية ويتجمع تحته المصيفين على الشاطئ وتظلله جبال سييرا الميجارا خلف المدينة.
من معالم المدينة أيضا كهوف نيرخا التي تقع على مقربة ثلاثة كيلومترات من مركز المدينة وهي تضم كهوفا طبيعية تاريخية يمكن مشاهدة بعض الرسوم البدائية على جدرانها، ويعود تاريخها إلى 20 ألف سنة.
تلك هي بعض معالم الأندلس التي تجذب السياح كل عام وهي جديرة بالزيارة، خصوصا في فصل الخريف.
الأندلس تعاود نشاطها السياحي بعد خمول طويل
الإسبان يودعون الصيف بالمهرجانات والزهور
الأندلس تعاود نشاطها السياحي بعد خمول طويل
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة