إرنستو ساباتو: مزيج من السخرية والكآبة

قال إن رواية «أبطال وقبور» كانت «لعنة»

إرنستو ساباتو
إرنستو ساباتو
TT

إرنستو ساباتو: مزيج من السخرية والكآبة

إرنستو ساباتو
إرنستو ساباتو

على طلل بلدة «روخاس» قرب «بوينس آيرس» في الأرجنتين 1911 ولد إرنستو ساباتو، حمل اسم أخيه الميت، وربما حمل معه جذوة من كآبة لم تمسحها نبراته الساخرة، أو شخصياته الأسطورية التي يوظفها في رواياته: «النفق» عام 1948 أو «أبطال وقبور» عام 1961 وصولا إلى «أبدون» عام 1967 والتي وصفها بـ«اللعنة». ذلك أنه تشبث بالبحث في موضوع العمى من خلال البطل: «فرناندو فيدال أولموس»، الشخصية التي لعبت دورا محوريا في التقرير حول العميان، وفي الأساطير - التي لا يحتقرها ساباتو - أن من بحث في عاهة وتعمق بها أصيب بنارها.
ومع أنه متخصص في الفيزياء غير أنه هجر العلوم كلها عام 1945 متجها نحو الأدب، حينها وصفه تلميذ آينشتاين البرفسور: «جيدو بيك» بأنه باتجاهه للأدب قد استسلم للشعوذة، هذه الحكاية يرويها ساباتو بحماس لأنها تعبر عن عبوره نحو الجنون، الشرط الأساسي لديه للإبداع الفني كله، وللأدب والرواية بشكل خاص.
لا تقل رؤيته في الفنون، واللغة، والدين، والأدب والأساطير عن رواياته، بل طغت أعماله النقدية على شغله وأكلت وقته وهمه. تعلق كثيرا بأفلاطون وبكيركغارد وبنيتشه وهايدغر الذين حرسوا الروح من أعباء التقنية، أو من «المدن الديكارتية» بحسب وصفه لباريس على سبيل الازدراء. يصف أولئك الفلاسفة بأنهم «عندما كان الجميع يعيشون في رخاء التقدم، وتبهرهم الآلة البخارية، فإنهم كما العصافير والكلاب والقطط التي تملك حواس أرهف من حواسنا، استشعروا الهزات الأرضية، وأحدثوا الثورات الروحية الكبرى». كما استلهم مقولات هيراقليطس ووظفها فنيا وأدبيا.
اعتبر الكتابة دفاعا عن الوجود، يرفض أن يكتب من أجل المال أو الجوائز والحوافز، بل أرادها حربا وجودية، فالكتابة فن ونتاج قلق داخل الذات، لم يكتب قط سيرة حياة، ولا حتى في رواية: «أبطال وقبور» ذلك أن أي عمل أدبي أو فني هو سيرة ذاتية بمعنى ما، يكتب: «ليست شجرة فان غوخ إلا صورة لروحه».
وجد ضالته في الأدب، وبينما كان يدرس الرياضيات نشبت أزمة روحية عميقة في داخله حين فقد بعض قناعاته الإيمانية، ورأى في الرياضيات والعلوم سببا في «أزمة الجنون التقني لدى الإنسان»، مستعيدا حديث مارتن هيدغر حول القنابل الذرية، و«ميتافيزيقا التقنية». يصرخ مرة كنت أشعر أن الرياضيات مسؤولة عن تنامي نزعة تجريد الإنسان من إنسانيته، بتحريمها التفكير السحري، والإبقاء على التفكير المنطقي فقط. اتصل برموز السوريالية في عام 1938 ولكن حين اتصل بهم كانت الحركة قد شارفت على الانتهاء وفضل الوجودية الظاهراتية على «اللاعقلانية البسيطة».
رأى ساباتو أن من شعر بالحنين فهو أرجنتيني. مستعيدا مقولة لألبير كامو: «إن تفكير أي إنسان هو قبل أي شيء حنينه». كتب في الحنين وعنه، ورأى في الأساطير شموخا وفي الخرافات كنزا يمكن استعادته وتركيبه وصهره في الأعمال الفنية والرسومات التي اتجه إليها بعد أن تعب بصره، لم يفصل بين الكتابة والرسم، يتحدث إلى كارلوس كاتانيا في كتاب «بين الحرف والدم»: «لست الكاتب الوحيد الذي يرسم، كان (كولوشكا) كاتبا وانتهى به الأمر إلى أن أصبح رساما، وكذلك الأمر لدى فيكتور هوغو، وكيبلبلغ، وغوته، وهوفان، وتولستوي، وبودلير، وبلاك، ورامبو». يعتبر الرسم فصيلا من الكتابة وتنويعا عليها، كما أن الكتابة والرسم يجمعها خيط الفنون الذي يرسمها ويدمجها ضمن صيغه المتعددة.
انحاز إلى «الإيماء» الذي طمسته إمبريالية اللغة، يتساءل: «من الذي قال إن الكلام أفضل من الإشارات، يرى هنري ميشو أن جل ما يشعر به لا يمكن تفسيره بالكلمات، وتؤكد عباراته أن الكلمات أقل من الإشارات كمالا. كان البدائيون يعبرون بالأصوات وبالألوان والرسوم والتعاويذ». تأثر كثيرا بالبنيوية وسحرته قيم الريف البدائية، ويشكو: «إن ثقافتنا التي اتخذت الكتب أساسا لها هي ثقافة سمتها المبالغة، وقد احتقرنا ثقافات قديمة لم تقم على الأبجدية، وإنما على أسس أخرى أشد أهمية، أسطورية حكيمة، وتوازن رائع مع الكون، وإلفة مع الموت، وإحساس مقدس باللحظات العظيمة لهذه الحياة البائسة، والمجردة الآن من أسطوريتها: الولادة، والبلوغ، واتصال الجنسين، والأولاد ثم الموت». وهذا يذكر بشغف كولد ليفي شتراوس الذي زار البرازيل والأمازون في ولايات ماتو روسو وبارانا وغوياس، وذلك في ثلاثينات القرن الماضي، واعتبر تلك الحمولة من الأساطير والمكونات لها أكبر الأثر في حياته.
أثمر مشروعه وقلقه وجنونه عن عشرين كتابا في الفنون والفكر والأدب والنقد والموسيقى، والرقص، إضافة إلى ثلاث روايات نال عليها جوائز كثيرة، والكثير من الحوارات، كان مرشحا أساسيا في جائزة نوبل للآداب، غير أنه رحل من دونها في 30 أبريل (نيسان) 2011. رأى في الأدب حقبة روحية، بالنسبة إليه: «ثمة قرابة بين فرانسيس بيكون وكيركغارد وألبير كامو وسارتر ودوستوفيسكي، وكافكا، فكلهم ينتمون إلى الحقبة الروحية نفسها». وذلك على الرغم من تباعد الأيام ومسافات القرون.
مزج بين السخرية والكآبة، بين الكبرياء والضعف، آمن بالمقاهي والفنون، يحزن كثيرا لكن على طريقة المهاجر القادم من نابولي وهو يلهو برقصة: «ترانتيلا» ويتعجب من مواطن بوينس آيرس الذي يستغرق في التفكير بمعضلات الحياة وهو يرقص: «التانغو».



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.