دور صندوق النقد الدولي في تباطؤ الاقتصاد العالمي

تأسس لمنع وقوع أزمات في النظام المالي

مديرة صندوق النقد كريستين لاغارد تتحدث في اجتماع اللجنة النقدية والمالية للصندوق 8 أكتوبر2016 (أ.ف.ب)
مديرة صندوق النقد كريستين لاغارد تتحدث في اجتماع اللجنة النقدية والمالية للصندوق 8 أكتوبر2016 (أ.ف.ب)
TT

دور صندوق النقد الدولي في تباطؤ الاقتصاد العالمي

مديرة صندوق النقد كريستين لاغارد تتحدث في اجتماع اللجنة النقدية والمالية للصندوق 8 أكتوبر2016 (أ.ف.ب)
مديرة صندوق النقد كريستين لاغارد تتحدث في اجتماع اللجنة النقدية والمالية للصندوق 8 أكتوبر2016 (أ.ف.ب)

بينما يعاني الاقتصاد العالمي من تباطؤ وركود في بعض الدول، تتجه الأنظار إلى صندوق النقد الدولي المعني بتعزيز سلامة الاقتصاد العالمي، والذي يستهدف منع وقوع الأزمات في النظام المالي العالمي عن طريق تشجيع البلدان المختلفة على اعتماد سياسات اقتصادية سليمة.
ومع مرور الاقتصاد العالمي بفترة تاريخية أشد صعوبة منذ عشرات السنين، من ذي قبل، نجد أن صندوق النقد الدولي مستمر في سياساته المالية نفسها التي تشجع على مزيد من الإنفاق – حتى بالاقتراض- إذ إنه طالب حكومات الدول الأعضاء بإصلاحات هيكلية، إلى جانب استخدام السياسات النقدية والإنفاق الحكومي والاستثمار لتحفيز الاقتصاد العالمي.
واستجابت بالفعل الدول الأعضاء في الصندوق، وتعهدوا بإحياء التجارة العالمية، وتعزيز الإنفاق الحكومي، وإزالة القيود التي تكبح قطاع الأعمال من أجل دعم النمو.
ويبدو من الوهلة الأولى، أن تعزيز الإنفاق مطلب يفيد الجميع – حكومة وشعبًا- إلا أن مستوى الديون العالمية الذي بلغ 152 تريليون دولار بنهاية العام الماضي، وفقًا لتقديرات صندوق النقد الدولي، وأكثر من 216 تريليون دولار بنهاية النصف الأول من العام الحالي، وفقًا لمعهد التمويل الدولي، يضع الاقتصاد العالمي حبيس سياسات مالية خاطئة.
ومؤخرًا أوضح صندوق النقد الدولي أنه مستعد للنظر في فكره الاقتصادي ومناهجه المعنية بالسياسات المالية، وقال كبير الاقتصاديين في الصندوق موريس أوبتسفلد في تقرير على الموقع الإلكتروني للصندوق في أبريل (نيسان): «الصدمة التي أحدثتها الأزمة المالية العالمية أدت بالمجتمع الأكاديمي والمعني بالسياسات على مستوى العالم إلى القيام بعملية إعادة نظر واسعة النطاق في السياسة الاقتصادية الكلية والمالية، وبالنظر إلى تأثيرات قراراتنا على البلدان الأعضاء والنظام الاقتصادي العالمي، نرى أنه من المهم للغاية أن نواصل إجراء عمليات إعادة تقييم للفكر الذي نتبناه في ضوء الأدلة الجديدة».
ومع ذلك لم يغير الصندوق فكره الاقتصادي أو سياساته المالية حتى الآن، في الوقت الذي عبر فيه كبار المسؤولين الماليين بأنحاء العالم عن مخاوفهم من الغضب الشعبي تجاه التجارة والعولمة في الاجتماعات السنوية الأخيرة للصندوق والبنك الدولي في واشنطن.
صندوق النقد الدولي التابع للأمم المتحدة، أنشئ بموجب معاهدة دولية في عام 1945 للعمل على تعزيز سلامة الاقتصاد العالمي. ويقع مقر الصندوق في واشنطن، ويديره أعضاؤه الذين يشملون جميع بلدان العالم تقريبًا وعددهم 188 دولة.
والصندوق هو المؤسسة المركزية في النظام النقدي الدولي - أي نظام المدفوعات الدولية وأسعار صرف العملات الذي يسمح بإجراء المعاملات التجارية بين البلدان المختلفة.
ويستهدف الصندوق منع وقوع الأزمات في النظام عن طريق تشجيع البلدان المختلفة على اعتماد سياسات اقتصادية سليمة.
وتتضمن الأهداف القانونية لصندوق النقد الدولي تيسير التوسع والنمو المتوازن في التجارة الدولية، وتحقيق استقرار أسعار الصرف، وتجنب التخفيض التنافسي لقيم العملات، وإجراء تصحيح منظم لاختلالات موازين المدفوعات التي تتعرض لها البلدان. ولتحقيق هذه الأهداف، يقوم الصندوق بمراقبة التطورات والسياسات الاقتصادية والمالية في البلدان الأعضاء وعلى المستوى العالمي، وتقديم المشورة بشأن السياسات لأعضائه. وإقراض البلدان الأعضاء التي تمر بمشكلات في موازين مدفوعاتها.
وإذا نظرنا على وضع الاقتصاد العالمي، سنجد أنه يعاني من تركة تحديات ضخمة، خفضت معها بعض الدول أسعار الفائدة البنكية لـ«صفر»، ووصلت بالسالب في دول أخرى، ولجأت أغلب الحكومات إلى برنامج للتيسير الكمي (شراء الأصول) كإجراء سهل لضخ سيولة جديدة في الأسواق؛ كما ارتفعت الديون السيادية على الدول حول العالم، نتيجة ارتفاع العائد على السندات وأذون الخزانة، فضلاً عن القروض التي توسعت فيها معظم الدول، لجذب سيولة جديدة.
وزادت المخاطر التي تهدد الاستقرار المالي العالمي، وفقًا لهذه المعطيات، كما تراجعت آفاق النمو المتوقعة في الاقتصادات المتقدمة والناشئة أيضًا، نتج عنها أزمة سيولة ضربت بعض الأسواق، انخفضت معها قيمة الأصول إلى مستويات أقل مما يتناسب مع أساسيات الاقتصاد الكلي.
ووصل الاقتصاد العالمي إلى مرحلة التباطؤ، بل والركود في بعض الدول، نتيجة تراكم هذه المؤشرات المخلّفة من الأزمة المالية العالمية، بالإضافة إلى معطيات جديدة مثل تراجع أسعار النفط والسلع الأولية، اللذين تسببا في تراجع معدلات التضخم في بعض الدول بأقل من المستهدف مثل الولايات المتحدة الأميركية ودول منطقة اليورو.
فضلاً زيادة أعداد الفقراء في العالم، وانخفاض نسبة الطبقة المتوسطة، بينما زادت ثروات الأغنياء نتيجة السياسات المالية والنقدية المتبعة الحالية.
وبالنظر إلى المعطيات العالمية الاقتصادية الحالية، نجد أن سياسات وقرارات الصندوق ساهمت بشكل أو بآخر في الوصول إلى تلك الأوضاع، إذ إن الدور الرئيسي للصندوق يستهدف منع وقوع الأزمات في النظام عن طريق تشجيع البلدان المختلفة على اعتماد سياسات اقتصادية سليمة، مما يوضح أن سياسات الصندوق نفسها غير صحيحة، إذا دافع هو عن سياسات الدول الأعضاء أو العكس.
وأوضحت اللجنة التوجيهية لصندوق النقد في بيان يوم السبت «النمو الضعيف المزمن كشف ضعفًا هيكليًا كامنًا، ويهدد بكبح النمو المحتمل وقد يشمل الجميع بصورة أكبر».
وقال صندوق النقد الدولي واللجنة المالية في بيان إن حالة عدم التيقن ومخاطر التراجع تزايدتا وتواجهان مخاطر آخذة في النمو جراء سياسات الحماية التجارية وتعثر الإصلاحات.
وتابع البيان: «نؤكد التزامنا بنمو قوي ومستدام وشامل وغني بالوظائف وأكثر توازنًا. سنستخدم كل أدوات السياسة - الإصلاحات الهيكلية وسياسات المالية العامة والسياسة النقدية - على المستويين الفردي والجماعي كليهما».
ووسط هذا، حثت كريستين لاغارد، مديرة صندوق النقد، الدول على بذل جهد أكبر لتعزيز النمو وزيادة الإنفاق على البنية التحتية والتعليم إذا أمكن.
ومع ارتفاع المخاوف من حدوث أزمة مالية جديدة، ودعوة الصندوق للدول الأعضاء في أبريل الماضي، لـ«اتخاذ تدابير إضافية للوصول إلى مزيج من السياسات الأكثر توازنًا لتحسين آفاق النمو والتضخم وتأمين الاستقرار المالي، وفي غياب هذه التدابير، قد تتكرر اضطرابات السوق». نجد أن الصندوق يدعو يوم السبت الماضي، إلى تقليص الاعتماد على سياسات التيسير النقدي التي بلغ تأثيرها مداه. وهو ما يوضح أن هناك سمة تخبط في القرارات، بعد تطبيقها.
ورغم تجديد الدول الأعضاء تعهدها يوم السبت الماضي بالامتناع عن الخفض التنافسي لقيمة العملة، وعن استهداف سعر الصرف لأغراض تعزيز القدرة التنافسية، وبالإفصاح بشكل واضح عن السياسات، إلا أن الوضع التنافسي بين عملات الدول لا يمكن مطابقته بهذا التعهد، في ضوء تخفيض الصين لعملتها في بداية العام الحالي، مع توقعات ارتفاع العملة الأميركية، والارتفاعات التي ستتبعها من الدول التي تربط عملتها بالدولار.
وتوقع صندوق النقد الدولي الأسبوع الماضي نسبة نمو للاقتصاد العالمي قدرها 3.1 في المائة لهذا العام 3.4 في المائة لعام 2017. كما توقع نمو الناتج المحلي الإجمالي في الاقتصادات المتقدمة بنحو 1.7 في المائة في العام الحالي، بينما توقع نسبة نمو 4.4 في المائة في الأسواق الناشئة والاقتصاديات النامية بشكل جماعي.
وقال صندوق النقد الدولي مساء الأربعاء الماضي إن العالم يسبح في ديون حجمها 152 تريليون دولار بنهاية العام الماضي، لكن هذا المستوى القياسي لم يمنع الصندوق من تشجيع بعض الدول على زيادة الإنفاق لتعزيز النمو.
وترجع أهم أسباب ارتفاع الدين العالمي، إلى اعتماد معظم الدول على المبدأ الاقتصادي، «الذي يشجعه الصندوق»: «المتاجرة بالديون أفضل من استخدام رأس المال المملوك.. نظرًا لانخفاض التكلفة». مما رفع من حجم ديونها في ضوء التباطؤ العالمي الاقتصادي الذي يسود دول العالم حاليًا.
وقال الصندوق في تقريره إن الديون العالمية العامة والخاصة بلغت 225 في المائة من الناتج الاقتصادي العالمي العام الماضي ارتفاعًا من نحو 200 في المائة في عام 2002. موضحًا أن نحو ثلثي إجمالي ديون عام 2015، أي نحو 100 مليار دولار مستحقة على مقترضين من القطاع الخاص، محذرًا من أن تنامي الدين الخاص عادة ما يفضي إلى الأزمات المالية.
ووفقًا لمعهد التمويل الدولي، زادت الديون العالمية سواء الاستهلاكية أو الحكومية أو ديون الشركات المالية وغير المالية أكثر من عشرة تريليونات دولار في النصف الأول من 2016 لتتجاوز 216 تريليون دولار، بما يعادل 327 في المائة من الناتج الاقتصادي العالمي.
وكانت الزيادة كبيرة على نحو خاص في قطاع الشركات غير المالية حيث زادت الديون 3.3 تريليون دولار إلى أكثر من 63 تريليون دولار، وفي القطاع الحكومي حيث زادت الإصدارات 3.3 تريليون دولار أيضًا إلى 59 تريليون دولار.
وتقترب ديون الأسواق المتقدمة سريعًا من 400 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، حيث زاد إجمالي إصدارات الديون في شتى قطاعات الأسواق المتقدمة ثمانية تريليونات دولار إلى أكثر من 163 تريليون دولار في النصف الأول من العام.
ويهدد كل هذا، الأجيال القادمة التي ستغرق في ديون لطالما شجع عليها صندوق النقد الدولي من خلال سياساته الحالية.
ويحتاج الاقتصاد العالمي إلى «نموذج اقتصادي تشاركي» جديد يتناسب وحجم التحديات في الأسواق العالمية، إذ إن الاعتماد على السياسات النقدية المتبعة حاليًا والسياسات المالية لن تأتي بالنتائج المرجوة في ضوء المتغيرات الحالية.
ويجب التحذير هنا من السياسات النقدية التوسعية المتبعة من البنوك المركزية حول العالم، والتي لم تؤد إلى نتائج إيجابية من حيث رفع معدلات النمو ومواجهة الانكماش الاقتصادي، وهو ما يشبه حالة اليابان في التسعينات من القرن الماضي، حيث تم اتباع سياسة التيسير الكمي وخفض أسعار الفائدة لمواجهة الكساد الاقتصادي، والتي وإن نجحت في تقليل الخسائر الناتجة عن تراجع الدخل القومي، إلا أنها لم تنجح حتى الآن في إيجاد صيغة فعالة للعودة للنمو.
وتستخدم نحو 7 بنوك مركزية حول العالم الفائدة السلبية، وتبدو عاجزة عن تقديم حلول فعالة للأزمة الاقتصادية، خاصة في أوروبا واليابان.



هل تؤدي العقوبات وأسعار الفائدة الروسية إلى موجة شاملة من الإفلاسات؟

الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
TT

هل تؤدي العقوبات وأسعار الفائدة الروسية إلى موجة شاملة من الإفلاسات؟

الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)

في ظلّ الضغوط المتزايدة التي فرضتها العقوبات الغربية وارتفاع أسعار الفائدة بشكل مذهل، تتزايد المخاوف في الأوساط الاقتصادية الروسية من احتمال حدوث موجة من الإفلاسات التي قد تهدّد استقرار الكثير من الشركات، لا سيما في ظل استمرار الرئيس فلاديمير بوتين في التمسّك بحربه في أوكرانيا.

وفي كلمته خلال مؤتمر الاستثمار الذي نظمته مجموعة «في تي بي» هذا الشهر، لم يفوّت بوتين الفرصة للتفاخر بما عدّه فشل العقوبات الغربية في إضعاف الاقتصاد الروسي، فقد صرّح قائلاً: «كانت المهمة تهدف إلى توجيه ضربة استراتيجية إلى روسيا، لإضعاف صناعتنا وقطاعنا المالي والخدماتي». وأضاف أن النمو المتوقع للاقتصاد الروسي سيصل إلى نحو 4 في المائة هذا العام، قائلاً إن «هذه الخطط انهارت، ونحن متفوقون على الكثير من الاقتصادات الأوروبية في هذا الجانب»، وفق صحيفة «واشنطن بوست».

وعلى الرغم من التصفيق المهذّب الذي قُوبل به الرئيس الروسي، فإن التوترات بدأت تظهر بين النخبة الاقتصادية الروسية بشأن التأثيرات السلبية المتزايدة للعقوبات على الاقتصاد الوطني. فقد حذّر عدد متزايد من المسؤولين التنفيذيين في الشركات الكبرى من أن رفع البنك المركزي أسعار الفائدة لمكافحة التضخم -الذي تفاقم بسبب العقوبات والنفقات العسكرية لبوتين- قد يهدد استقرار الاقتصاد في العام المقبل. وقد تتسبّب هذه السياسة في تسارع موجات الإفلاس، لا سيما في القطاعات الاستراتيجية الحساسة مثل الصناعة العسكرية، حيث من المتوقع أن يشهد إنتاج الأسلحة الذي يغذّي الحرب في أوكرانيا تباطؤاً ملحوظاً.

حتى الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترمب، أشار في منشور على شبكته الاجتماعية «تروث سوشيال» إلى أن روسيا أصبحت «ضعيفة جزئياً بسبب اقتصادها المتداعي».

تحذيرات من الإفلاس

ومع تزايد توقعات أن «المركزي الروسي» سيضطر إلى رفع الفائدة مرة أخرى هذا الشهر، انضم بعض الأعضاء المعتدلين في الدائرة الداخلية لبوتين إلى الانتقادات غير المسبوقة للسياسات الاقتصادية التي أبقت على سعر الفائدة الرئيس عند 21 في المائة، في وقت يستمر فيه التضخم السنوي في الارتفاع ليصل إلى أكثر من 9 في المائة. وهذا يشير إلى احتمالية حدوث «ركود تضخمي» طويل الأمد أو حتى ركود اقتصادي في العام المقبل. وبالفعل، يتوقع البنك المركزي أن ينخفض النمو الاقتصادي بشكل حاد إلى ما بين 0.5 في المائة و1.5 في المائة في العام المقبل.

كما تسبّبت العقوبات الأميركية الجديدة التي شملت فرض عقوبات على 50 بنكاً روسياً، بما في ذلك «غازبروم بنك»، وهو قناة رئيسة لمدفوعات الطاقة، في زيادة تكاليف المعاملات بين المستوردين والمصدرين الروس. وقد أسهم ذلك في انخفاض قيمة الروبل إلى أدنى مستوى له مقابل الدولار منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2022. وقد أدى هذا الانخفاض في قيمة الروبل إلى زيادة التضخم، حيث ارتفعت الأسعار بنسبة 0.5 في المائة بين 26 نوفمبر (تشرين الثاني) و2 ديسمبر (كانون الأول)، وفقاً للبيانات الرسمية.

وفي هذا السياق، حذّر رئيس هيئة الرقابة المالية الروسية، نجل أحد أقرب حلفاء بوتين، بوريس كوفالتشوك، من أن رفع أسعار الفائدة «يحد من إمكانات الاستثمار في الأعمال، ويؤدي إلى زيادة الإنفاق في الموازنة الفيدرالية». كما انتقد الرئيس التنفيذي لشركة «روسنفت» الروسية، إيغور سيتشين، البنك المركزي بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، مؤكداً أن ذلك أسهم في زيادة تكاليف التمويل للشركات وتأثر أرباحها سلباً.

وفي تصريح أكثر حدّة، حذّر رئيس شركة «روس أوبورون إكسبورت» المتخصصة في صناعة الأسلحة، سيرغي تشيميزوف، من أن استمرار أسعار الفائدة المرتفعة قد يؤدي إلى إفلاس معظم الشركات الروسية، بما في ذلك قطاع الأسلحة، مما قد يضطر روسيا إلى الحد من صادراتها العسكرية.

كما شدّد قطب صناعة الصلب الذي يملك شركة «سيفيرستال»، أليكسي مورداشوف، على أن «من الأفضل للشركات أن تتوقف عن التوسع، بل تقلّص أنشطتها وتضع الأموال في الودائع بدلاً من المخاطرة بالإدارة التجارية في ظل هذه الظروف الصعبة».

وحذّر الاتحاد الروسي لمراكز التسوق من أن أكثر من 200 مركز تسوق في البلاد مهدد بالإفلاس بسبب ارتفاع تكاليف التمويل.

وعلى الرغم من أن بعض المديرين التنفيذيين والخبراء الاقتصاديين يشيرون إلى أن بعض الشركات قد تبالغ في تقدير تأثير أسعار الفائدة المرتفعة، في محاولة للحصول على قروض مدعومة من الدولة، فإن القلق بشأن الوضع الاقتصادي يبدو مشروعاً، خصوصاً أن مستويات الديون على الشركات الروسية أصبحت مرتفعة للغاية.

ومن بين أكثر القطاعات تأثراً كانت صناعة الدفاع الروسية، حيث أفادت المستشارة السابقة للبنك المركزي الروسي، ألكسندرا بروكوبينكو، بأن الكثير من الشركات الدفاعية لم تتمكّن من سداد ديونها، وتواجه صعوبة في تأمين التمويل بسبب ارتفاع تكاليفه. وقالت إن بعض الشركات «تفضّل إيداع الأموال في البنوك بدلاً من الاستثمار في أنشطة تجارية ذات مخاطر عالية».

كما تحدّث الكثير من المقاولين علناً عن الأزمة الاقتصادية المتزايدة في روسيا. ففي أوائل نوفمبر، أشار رئيس مصنع «تشيليابينسك» للحديد والصلب، أندريه جارتونغ، خلال منتدى اقتصادي إلى أن فروعاً رئيسة من الهندسة الميكانيكية قد «تنهار» قريباً.

وفي الثالث من ديسمبر (كانون الأول)، أفادت وكالة «إنترفاكس» الروسية بأن حالات عدم السداد انتشرت في مختلف أنحاء الاقتصاد، حيث تأخرت الشركات الكبرى والمتوسطة بنسبة 19 في المائة من المدفوعات بين يوليو (تموز) وسبتمبر (أيلول)، في حين تأخرت الشركات الصغيرة بنسبة 25 في المائة من المدفوعات في الفترة نفسها.

وحسب وزارة التنمية الاقتصادية الروسية، فقد انخفض الاستثمار في البلاد، وتسببت العقوبات في ارتفاع تدريجي لتكاليف الواردات والمعاملات المالية، مما أدى إلى زيادة التضخم. كما قال مسؤول مالي روسي كبير سابق، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته بسبب حساسية الموضوع: «ما يحدث هو صدمة إمداد نموذجية في البلاد».

صناعة الدفاع مهددة

تأتي هذه التحديات في وقت حساس بالنسبة إلى صناعة الدفاع الروسية. فعلى الرغم من ضخ بوتين مبالغ ضخمة من التمويل الحكومي في هذا القطاع، مع تخصيص 126 مليار دولار في موازنة العام المقبل، فإن معظم الزيادة في الإنتاج كانت ناتجة عن تعزيز القوة العاملة لتشغيل المصانع العسكرية على مدار الساعة وتجديد مخزونات الحقبة السوفياتية. ومع ذلك، ومع استمرار الحرب ودخولها عامها الثالث، وارتفاع خسائر المعدات العسكرية، فإن القوة العاملة في القطاع قد وصلت إلى أقصى طاقتها، وإمدادات الأسلحة السوفياتية تتضاءل بسرعة.

وتقول جانيس كلوغ، من المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، إن التكاليف المتزايدة والعقوبات المشددة على واردات المعدات تجعل من الصعب على قطاع الدفاع الروسي بناء الأسلحة من الصفر. ووفقاً لتقرير صادر هذا العام عن الباحثَين في المعهد الملكي للخدمات المتحدة بلندن، جاك واتلينغ ونيك رينولدز، فإن 80 في المائة من الدبابات والمركبات القتالية المدرعة التي تستخدمها روسيا في الحرب ليست جديدة، بل جُدّدت من المخزونات القديمة. ويضيف التقرير أن روسيا «ستبدأ في اكتشاف أن المركبات بحاجة إلى تجديد أعمق بحلول عام 2025. وبحلول عام 2026 ستكون قد استنفدت معظم المخزونات المتاحة».

ثقة الكرملين

على الرغم من هذه التحديات يبدو أن الوضع لا يثير قلقاً في الكرملين. وقال أكاديمي روسي له علاقات وثيقة مع كبار الدبلوماسيين في البلاد: «لا يوجد مزاج ذعر». وأضاف أن المسؤولين في الكرملين يعدّون أن «كل شيء يتطور بشكل جيد إلى حد ما». ووفقاً لهذا الرأي، فإن روسيا تواصل تحقيق تقدم عسكري، وفي ظل هذه الظروف، لا يرى الكرملين حاجة إلى تقديم أي تنازلات جادة.

وتزيد الاضطرابات السياسية في العواصم الغربية -بما في ذلك التصويت بحجب الثقة في فرنسا، مع التصويت المرتقب في ألمانيا، بالإضافة إلى اعتقاد الكرملين أن ترمب قد يقلّل من دعمه لأوكرانيا- من الثقة داخل روسيا.

وقد تصدّى بوتين لانتقادات متزايدة بشأن زيادات أسعار الفائدة ورئيسة البنك المركزي، إلفيرا نابيولينا، قائلاً في مؤتمر الاستثمار إن كبح جماح التضخم يظل أولوية بالنسبة إليه. ومع الارتفاع الكبير في أسعار المواد الغذائية الأساسية مثل البطاطس التي ارتفعت بنسبة 80 في المائة هذا العام، يواصل بوتين دعم نابيولينا وزيادات أسعار الفائدة، رغم شكاوى الشركات الكبرى. وقالت كلوغ: «من وجهة نظر بوتين، لا يمكن السماح للتضخم بالخروج عن السيطرة، لأنه يمثّل تهديداً لاستقرار النظام السياسي، ولهذا السبب منح نابيولينا تفويضاً قوياً».

لكن المستشارة السابقة للبنك المركزي، ألكسندرا بروكوبينكو، ترى أن الضغط من الشركات الكبرى لن يهدأ. وقالت: «عندما يكون التضخم عند 9 في المائة، وسعر الفائدة عند 21 في المائة، فهذا يعني أن السعر الرئيس لا يعمل بشكل صحيح، ويجب البحث عن أدوات أخرى. أولوية بوتين هي الحرب وتمويل آلتها، ولا يمتلك الكثير من الحلفاء، والموارد المتاحة له تتقلص». وأضافت أنه من المحتمل أن تتعرّض نابيولينا لمزيد من الضغوط مع استمرار الوضع الاقتصادي الصعب.

ومع تزايد الضغوط على بوتين، أصبحت الصورة في الغرب أكثر تفاؤلاً بشأن فرص التغيير في روسيا، وفقاً لمؤسسة شركة الاستشارات السياسية «ر. بوليتيك» في فرنسا، تاتيانا ستانوفايا.

وأضافت: «بوتين مستعد للقتال ما دام ذلك ضرورياً... لكن بوتين في عجلة من أمره. لا يستطيع الحفاظ على هذه الشدة من العمل العسكري والخسائر في الأرواح والمعدات كما كان في الأشهر الأخيرة».