نظرة إلى مدارج الأصوليين

كيف يفاضل وينتقل المتشدّدون بين التنظيمات الإسلاموية؟

بعض النساء في تنظيم داعش شاثناء تدربهن على السلاح
بعض النساء في تنظيم داعش شاثناء تدربهن على السلاح
TT

نظرة إلى مدارج الأصوليين

بعض النساء في تنظيم داعش شاثناء تدربهن على السلاح
بعض النساء في تنظيم داعش شاثناء تدربهن على السلاح

مسافة كبيرة بين الدين والتديّن، هي المسافة بين السماوي المتعالي (الدين) وبين التأويل والاختيار الاجتهادي البشري والتاريخي الذي هو «التديّن». وبينما يكون مصدر الدين هو الله وأنبياؤه، يبقى نمط التدين وسلوكه اختيارًا فرديًا أو جماعيًا، يسمُه ويصبغ عليه «المتديِّن» السمة الغالبة عليه سماحة ومحبة وإيمانًا بالاختلاف والتعدد، أو تشددًا وتطرفًا تتأجج كراهية للآخرين، وإيمانا مطلقا محتكرا للحق والحقيقة معا.
لكن المسافة الفاصلة تضيق قليلا بين «المتشدد المتطرف» الفرد هنا، وبين المنتظم المستلب في جماعة أو تنظيم أصولي - أو راديكالي - تتطابق قناعاته معه، أو يقتنع بها، وينحي فيها الفرد ذاته جانبا لقبوله بالبيعة أولا، وثانيا ما يترتب عليها من السمع والطاعة للأمير والتنظيم، الذي يبقى شرط انتظامه وترقيه فيه.. وحسب درجة هذا الالتزام بالسمع والطاعة، فتكون درجة واحتمالات تصعيده الذي يشترط نفي الفردية والاستقلالية تماما.
حسب صرامة التنظيم الأصولي وأطروحاته الرئيسية، تكون درجة تسليم الشخص المتطرف أو المتشدد أو «الأصولي» نفسه وحريته وفرديته بل وحياته له، وهو ما يتعلق بأهداف التنظيم الكبرى، بين الدعوة أو الدولة، وبين تصحيح الإيمان والتوحيد ومناهج تلقي الدين والفقه نفسه، أم استعادة التاريخ والانقلاب عليه وإعادة مجد الأمة السالف في تصور هذه الجماعات.
سنحاول فيما يلي تتبع مدارج الأصوليين، كيف يختار جماعته وكيف ينتقل بين الجماعات، فانتظامه الأصولي قد يتغير من جماعة إلى جماعة أخرى، وبعد التزامه مع إحداها قد ينتقل لغيرها، أكثر منها تشددا أو أكثر اعتدالا حسب توجهاته وحسبما يلاحظه هو أثناء تجربته هو ويميل إليه. بل قد يتحرّر كليًا من الأصولية أو قد يطلق كل أنماط وأنساق التدين متحللا من كل معيار ومرجعية قبلية، انتقاما لا شعوريا أو شعوريا من تجربته السابقة، ولكن هذا هو النادر، ويبقى الانتقال بين الأصوليات وتنظيماتها هو الغالب في مدارج الأصوليين.

البدايات بين «التبليغ» و«الإخوان»
أولاً، غالبًا ما تكون البدايات الأصولية، في القرى والمدن، عبر جماعات دعوية، تركز على الدعوة والهداية أو تعليم الناس أمر دينهم حسب نسقها وتصوراتها الدينية. وتأتي في مقدمة هذه الجماعات «الدعوة والتبليغ» التي بدأ نشاطها عربيًا عام 1950 وأسست في الهند سنة 1916 م، والتي لا تعلن استهدافها الدولة ولا تؤمن بالصدام معها، بل تعمل على تديين أو هداية الناس حسب تعبيراتهم، فتملأ أبنيتهم المعنوية والروحية بخطاب متأجج روحيا نحو فكرة الدعوة وهداية الناس وإصلاح المجتمع، وأن ماضيهم وبعدهم عن المساجد هو الأصل لكل البلايا التي يمر بها المسلمون.
وكانت جماعة «التبليغ والدعوة» البداية والمرحلة الأولى لعدد من قيادات الجماعات الأصولية، مثل أسامة بن لادن زعيم «القاعدة» وعبود الزمر وعبد الحكيم عابدين من القيادات الراديكالية التاريخية المصرية، بل وحتى راشد الغنوشي زعيم «حركة النهضة» في تونس، وكذلك كثير من المقاتلين الأجانب والغربيين حيث تنشط هذه الجماعة الدعوية وتتحرك بحرية في كثير من البلاد الغربية مثل بول ووكر و«مفجر الحذاء» بل وآدم غادان المتحدث باسم «القاعدة» الآن.
وتعمل «التبليغ» على غير المجهزين آيديولوجيًا في الغالب، وتجهزهم بعاطفة مؤجّجة من الرغبة في العمل وتغيير العالم، عبر الخروج معها وفق مدد محدّدة، من ثلاثة أيام في الشهر إلى أربعين يوما في العام وأربعة أشهر في العمر. وهي تساوي بين الخروج الدعوي معها وبين «الجهاد» في سبيل الله، ولذا ينتقدون بأنهم «قاديانية الجهاد» أي يلغون «الجهاد» مثل القاديانية.
والسائد أن المنتمي لجماعة «التبليغ»، إن اندمج مع المجتمع وأسئلته السياسية والوطنية والإقليمية، لن يجد في جماعته إجابة. إذ إن من مبادئها تجنب الحديث عما تسميه «أمراض الأمة» مما يجعل المنتمي الفارغ من الإجابة على أسئلة وانتقادات الآخرين أيضًا يغادرها.. ربما إلى «الإسلام السياسي الصندوقي»، أو للجماعات الراديكالية والأكثر صلابة منها وفعلا، أو يغادرها للاتجاه المتشدد الذي يركز قطاع منها على بدعيتها وجهل عناصرها، طالبا للعلم معه.
وهكذا تبقى جماعة «التبليغ والدعوة» المحطة الأولى والتمهيدية لكثير من الأصوليين، ومرحلة يبدأ معها صعود مدارج التطور الأصولي، وهي تأتي بالعنصر لكنها تشحنه عاطفيا وتفرغه فكريا. حيث إنها جماعة بلا أدبيات جدلية قوية، ومتهمة من جوانب متعددة فقهيا وعقديا وتاريخيا، ولها أصول صوفية ديوبندية وجشتية معروفة، يجهلها كثرة من أفرادها العرب ويعرفها خصومهم من التنظيمات الأخرى. ولكن البدايات الأصولية في المدارس والجامعات والمؤسسات والنقابات كانت نحو الإسلام السياسي، الذي سعى لإيجاد بديل للدولة في كل شيء، بدءا من أنشطة الرياضة والترفيه للعمل الخدمي والاجتماعي حتى البرلمان والحكومة. وهو ما يجذب الطفل والمراهق بدرجة ما وتتم قولبته وتجنيده أو نظمه خطوة خطوة عبر المعسكرات والنشاطات والحفلات والجوائز، ومعها بعض الكتيبات الصغيرة التي تستنفر عاطفته ضد الأنظمة والدول، أو تثير وتنحي ولاءه نحو الجماعة عبر كتيبات عن تاريخ مظلوميتها وطموحاتها وانتشارها.
ويتميز الخطاب «الإخواني» بميزات خاصة، مع أنه يركّز على المتدين الجاهز بالأساس، ولا تعنيه هداية غير المتدينين بالأساس. إنه خطاب عقلانوي يستخدم العقل والنقل والشعار وتراثا من المظلومية التاريخية يروجه حسب تصوره، ويستطيع أن يجذب به المتدين، ويبدو ملتحما بالواقع ممتلكا حلولا كلية له فيلتحم بالسياسي الوطني والإقليمي والدولي، ويستثمر جيدا في التاريخ. كما أنه يُشعر المنتمي إليه بالبديل، بل يضعه في شبه «الغيتو» الذي يتصور المنتمي الجديد إليه أنه يستكفي به عن المجتمع ككل، ويشعر به جماعة اجتماعية قوية تحل محل البنى التقليدية والعشائرية الاجتماعية، فيبرز عبرها كرمز اجتماعي ومرشح انتخابي. ومن ثم يدخل في جدل مع الديني في المسجد ومع الحزبي في الشارع، ما يشعر العضو الأصولي الملتزم والمنتظم، ويظل الأمر كذلك وغالبا ما تكون الانشقاقات أو الخروج عن التنظيم الإخواني مغادرة كلية للإسلام السياسي وانقلابا على طرحه. وفي هذا نذكر خروجات شخصيات كثيرة عن التنظيم «الإخواني» نتيجة التطور الفكري شأن أحمد حسن الباقوري ومحمد الغزالي وأبو شقة و«الإخوان الجدد»، أو رفضا للجماعة الإخوانية واختلافا تنظيميا معها كخلافات الصقور والحمائم، أو تطورا فكريا فرديا أو فرعيا يتجاوزها شأن انشقاق الراحل حسن الترابي وجماعته عنها.
ونادرا ما يكون التحول لجماعة راديكالية أخرى كالجماعات الراديكالية العنيفة أو ما شابه، مثل تحوّل عبد الله عزام أو أسامة بن لادن في فترة تالية، أو مؤسس «جيش المجاهدين العراقي» أبو عبد الله المنصور وتلميذه أبو بكر البغدادي، أمير داعش فيما بعد، أو قبلهم شكري مصطفى وجماعة «التكفير والهجرة» التي خرجت من باطن «الإخوان»، أو «التبليغ والدعوة» الأقل عنفا وتسييسا، وهو ما حدث مرة واحدة مع إبراهيم عزت أحد قياداتها في مصر وخطيب مسجد أنس بن مالك المشهور في الثمانينات، الذي كان مؤمنا بأولوية الدعوة على السياسة والأمة على السلطة حينها، ومن مسجده هذا كانت البذور الأصولية الأولى لكثير من قيادات الجهاد والجماعة الإسلامية، الذين استمروا يتخذون التبليغ ستارا حينها رغم تحولهم عن إطاره الفضفاض.
بل إننا نرى أن المتحولين من الفكر «الإخواني» للفكر والتنظيمات العنفية والراديكالية كانوا في الغالب مهمشين داخل التنظيم «الإخواني»، واختلطت عليهم معارف ومدارك تنتقد توجهاته في التركيز على السلطة وعدم الاهتمام بالعلوم الشرعية، والمواءمة والتقية والمداراة وما شابه من سلوكيات الميكافيلية. وكان توجههم رهينا بلحظات وسياقات محددة كالجهاد الأفغاني أواخر السبعينات أو الصراع العربي الفلسطيني والأزمة السورية وما شابه من سياقات.
في المقابل، تنشط الدعوات المتشددة التي تزعم السير على خطى السلف الصالح عبر شخصيات واتجاهات مختلفة، في مناطق محددة، وتركز على التعليم الديني. وغالبا ما يكون تركيزها على تعليم وتدريس القرآن والحديث وبعض كتب التوحيد وعلومه لطلبتها. وهي لا تدعوهم لتنظيم ويستمر بعضهم في الالتزام بالسنة، شكلا واعتقادا، وتبديع ما يتعلم تبديعه، إلا أنها ليست تنظيما، ومن يستمر في الترقي فيها قد يظل بعيدا عن الجماعات الأخرى إلا في لحظات معينة يمكن أن يصيبه داء التسييس ودعاوى الإسلام السياسي كما حدث مع دعاة كثيرين بعد ثورة 2011 في مصر وفي فترة حكم الإخوان بين يونيو (حزيران) 2012 ويونيو 2013 حيث خرج بعضهم عن الاتجاه المتشدد متماهيا تماما مع الطرح الإخواني، مثل الداعية محمد عبد المقصود من القاهرة وسعيد عبد العظيم في الإسكندرية، والتيار الذي عرف بـ«حزب الوطن» ومال بتشدده الديني نحو التشدد السياسي ثم القتالي فيما بعد، قبل تلاشي أخباره. ولكن يظل الاتجاه المتشدد الغالب ضد التكفير وضد الخروج، ومؤمنا بفكرة الدولة ودرء الفتنة - ولو بالتغلب - التاريخية. ولكن لكونه فضفاضًا، وليس منظما بشكل صارم شأن التنظيم «الإخواني»، قد ينزلق بعض المنتمين إليه هنا أو هناك لفكرة التغيير العنيف أو الخروج المسلح منتظما مع الجماعات الراديكالية ولكنه في هذا الحالة ينفصل عن إطار تعليم التوحيد وعلوم الشرع الغالبة عليه.

من السياسة إلى العنف
ثانيًا، غالبًا ينطلق التدرج والانتقال إلى الأصوليات العنيفة من أصل الإيمان بقضية الإسلام السياسي في الحاكمية أو استعادة دولة الخلافة وإقامتها والسبيل نحو ذلك، ورفض تجاهل بعض التيارات لها مثل التبليغ، أو ما يرونه من مواءمة ومراوغة «إخوانية» عبر تحقيقها عبر الطرق الشرعية. ويكون التحول نحو الراديكالية القتالية إن لم يكن مباشرا عبر الدعوة والتجنيد الفردي للعنصر الأصولي في تنظيم آخر عبر ثلاث مقولات رئيسة:
1 - توظيف مقولات الولاء والبراء والقول بتوحيد الحاكمية.
2 - التركيز على سؤال ما العمل وتكفير الأنظمة والمجتمعات والدعوة للخروج عليها.
3 - إعادة أيقنة القتال والعنف كسبيل وحيد لتغيير الأنظمة وخصوصا تجاه الأنظمة التي توصف في أدبياته بالمرتدة.
ويمتلك الراديكاليون في سبيل البقاء على ذلك، رغم اختلافهم، تراثا ضخما من تشويه كل آخريهم سواء من الجماعات الأصولية الأخرى أو المؤسسات والشخصيات الدينية الأخرى، وتستلب الجماعة كلية من إمكانية استرداد فرديته وبالتالي سماحيته تجاه أي آخر.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.