نظرة إلى مدارج الأصوليين

كيف يفاضل وينتقل المتشدّدون بين التنظيمات الإسلاموية؟

بعض النساء في تنظيم داعش شاثناء تدربهن على السلاح
بعض النساء في تنظيم داعش شاثناء تدربهن على السلاح
TT

نظرة إلى مدارج الأصوليين

بعض النساء في تنظيم داعش شاثناء تدربهن على السلاح
بعض النساء في تنظيم داعش شاثناء تدربهن على السلاح

مسافة كبيرة بين الدين والتديّن، هي المسافة بين السماوي المتعالي (الدين) وبين التأويل والاختيار الاجتهادي البشري والتاريخي الذي هو «التديّن». وبينما يكون مصدر الدين هو الله وأنبياؤه، يبقى نمط التدين وسلوكه اختيارًا فرديًا أو جماعيًا، يسمُه ويصبغ عليه «المتديِّن» السمة الغالبة عليه سماحة ومحبة وإيمانًا بالاختلاف والتعدد، أو تشددًا وتطرفًا تتأجج كراهية للآخرين، وإيمانا مطلقا محتكرا للحق والحقيقة معا.
لكن المسافة الفاصلة تضيق قليلا بين «المتشدد المتطرف» الفرد هنا، وبين المنتظم المستلب في جماعة أو تنظيم أصولي - أو راديكالي - تتطابق قناعاته معه، أو يقتنع بها، وينحي فيها الفرد ذاته جانبا لقبوله بالبيعة أولا، وثانيا ما يترتب عليها من السمع والطاعة للأمير والتنظيم، الذي يبقى شرط انتظامه وترقيه فيه.. وحسب درجة هذا الالتزام بالسمع والطاعة، فتكون درجة واحتمالات تصعيده الذي يشترط نفي الفردية والاستقلالية تماما.
حسب صرامة التنظيم الأصولي وأطروحاته الرئيسية، تكون درجة تسليم الشخص المتطرف أو المتشدد أو «الأصولي» نفسه وحريته وفرديته بل وحياته له، وهو ما يتعلق بأهداف التنظيم الكبرى، بين الدعوة أو الدولة، وبين تصحيح الإيمان والتوحيد ومناهج تلقي الدين والفقه نفسه، أم استعادة التاريخ والانقلاب عليه وإعادة مجد الأمة السالف في تصور هذه الجماعات.
سنحاول فيما يلي تتبع مدارج الأصوليين، كيف يختار جماعته وكيف ينتقل بين الجماعات، فانتظامه الأصولي قد يتغير من جماعة إلى جماعة أخرى، وبعد التزامه مع إحداها قد ينتقل لغيرها، أكثر منها تشددا أو أكثر اعتدالا حسب توجهاته وحسبما يلاحظه هو أثناء تجربته هو ويميل إليه. بل قد يتحرّر كليًا من الأصولية أو قد يطلق كل أنماط وأنساق التدين متحللا من كل معيار ومرجعية قبلية، انتقاما لا شعوريا أو شعوريا من تجربته السابقة، ولكن هذا هو النادر، ويبقى الانتقال بين الأصوليات وتنظيماتها هو الغالب في مدارج الأصوليين.

البدايات بين «التبليغ» و«الإخوان»
أولاً، غالبًا ما تكون البدايات الأصولية، في القرى والمدن، عبر جماعات دعوية، تركز على الدعوة والهداية أو تعليم الناس أمر دينهم حسب نسقها وتصوراتها الدينية. وتأتي في مقدمة هذه الجماعات «الدعوة والتبليغ» التي بدأ نشاطها عربيًا عام 1950 وأسست في الهند سنة 1916 م، والتي لا تعلن استهدافها الدولة ولا تؤمن بالصدام معها، بل تعمل على تديين أو هداية الناس حسب تعبيراتهم، فتملأ أبنيتهم المعنوية والروحية بخطاب متأجج روحيا نحو فكرة الدعوة وهداية الناس وإصلاح المجتمع، وأن ماضيهم وبعدهم عن المساجد هو الأصل لكل البلايا التي يمر بها المسلمون.
وكانت جماعة «التبليغ والدعوة» البداية والمرحلة الأولى لعدد من قيادات الجماعات الأصولية، مثل أسامة بن لادن زعيم «القاعدة» وعبود الزمر وعبد الحكيم عابدين من القيادات الراديكالية التاريخية المصرية، بل وحتى راشد الغنوشي زعيم «حركة النهضة» في تونس، وكذلك كثير من المقاتلين الأجانب والغربيين حيث تنشط هذه الجماعة الدعوية وتتحرك بحرية في كثير من البلاد الغربية مثل بول ووكر و«مفجر الحذاء» بل وآدم غادان المتحدث باسم «القاعدة» الآن.
وتعمل «التبليغ» على غير المجهزين آيديولوجيًا في الغالب، وتجهزهم بعاطفة مؤجّجة من الرغبة في العمل وتغيير العالم، عبر الخروج معها وفق مدد محدّدة، من ثلاثة أيام في الشهر إلى أربعين يوما في العام وأربعة أشهر في العمر. وهي تساوي بين الخروج الدعوي معها وبين «الجهاد» في سبيل الله، ولذا ينتقدون بأنهم «قاديانية الجهاد» أي يلغون «الجهاد» مثل القاديانية.
والسائد أن المنتمي لجماعة «التبليغ»، إن اندمج مع المجتمع وأسئلته السياسية والوطنية والإقليمية، لن يجد في جماعته إجابة. إذ إن من مبادئها تجنب الحديث عما تسميه «أمراض الأمة» مما يجعل المنتمي الفارغ من الإجابة على أسئلة وانتقادات الآخرين أيضًا يغادرها.. ربما إلى «الإسلام السياسي الصندوقي»، أو للجماعات الراديكالية والأكثر صلابة منها وفعلا، أو يغادرها للاتجاه المتشدد الذي يركز قطاع منها على بدعيتها وجهل عناصرها، طالبا للعلم معه.
وهكذا تبقى جماعة «التبليغ والدعوة» المحطة الأولى والتمهيدية لكثير من الأصوليين، ومرحلة يبدأ معها صعود مدارج التطور الأصولي، وهي تأتي بالعنصر لكنها تشحنه عاطفيا وتفرغه فكريا. حيث إنها جماعة بلا أدبيات جدلية قوية، ومتهمة من جوانب متعددة فقهيا وعقديا وتاريخيا، ولها أصول صوفية ديوبندية وجشتية معروفة، يجهلها كثرة من أفرادها العرب ويعرفها خصومهم من التنظيمات الأخرى. ولكن البدايات الأصولية في المدارس والجامعات والمؤسسات والنقابات كانت نحو الإسلام السياسي، الذي سعى لإيجاد بديل للدولة في كل شيء، بدءا من أنشطة الرياضة والترفيه للعمل الخدمي والاجتماعي حتى البرلمان والحكومة. وهو ما يجذب الطفل والمراهق بدرجة ما وتتم قولبته وتجنيده أو نظمه خطوة خطوة عبر المعسكرات والنشاطات والحفلات والجوائز، ومعها بعض الكتيبات الصغيرة التي تستنفر عاطفته ضد الأنظمة والدول، أو تثير وتنحي ولاءه نحو الجماعة عبر كتيبات عن تاريخ مظلوميتها وطموحاتها وانتشارها.
ويتميز الخطاب «الإخواني» بميزات خاصة، مع أنه يركّز على المتدين الجاهز بالأساس، ولا تعنيه هداية غير المتدينين بالأساس. إنه خطاب عقلانوي يستخدم العقل والنقل والشعار وتراثا من المظلومية التاريخية يروجه حسب تصوره، ويستطيع أن يجذب به المتدين، ويبدو ملتحما بالواقع ممتلكا حلولا كلية له فيلتحم بالسياسي الوطني والإقليمي والدولي، ويستثمر جيدا في التاريخ. كما أنه يُشعر المنتمي إليه بالبديل، بل يضعه في شبه «الغيتو» الذي يتصور المنتمي الجديد إليه أنه يستكفي به عن المجتمع ككل، ويشعر به جماعة اجتماعية قوية تحل محل البنى التقليدية والعشائرية الاجتماعية، فيبرز عبرها كرمز اجتماعي ومرشح انتخابي. ومن ثم يدخل في جدل مع الديني في المسجد ومع الحزبي في الشارع، ما يشعر العضو الأصولي الملتزم والمنتظم، ويظل الأمر كذلك وغالبا ما تكون الانشقاقات أو الخروج عن التنظيم الإخواني مغادرة كلية للإسلام السياسي وانقلابا على طرحه. وفي هذا نذكر خروجات شخصيات كثيرة عن التنظيم «الإخواني» نتيجة التطور الفكري شأن أحمد حسن الباقوري ومحمد الغزالي وأبو شقة و«الإخوان الجدد»، أو رفضا للجماعة الإخوانية واختلافا تنظيميا معها كخلافات الصقور والحمائم، أو تطورا فكريا فرديا أو فرعيا يتجاوزها شأن انشقاق الراحل حسن الترابي وجماعته عنها.
ونادرا ما يكون التحول لجماعة راديكالية أخرى كالجماعات الراديكالية العنيفة أو ما شابه، مثل تحوّل عبد الله عزام أو أسامة بن لادن في فترة تالية، أو مؤسس «جيش المجاهدين العراقي» أبو عبد الله المنصور وتلميذه أبو بكر البغدادي، أمير داعش فيما بعد، أو قبلهم شكري مصطفى وجماعة «التكفير والهجرة» التي خرجت من باطن «الإخوان»، أو «التبليغ والدعوة» الأقل عنفا وتسييسا، وهو ما حدث مرة واحدة مع إبراهيم عزت أحد قياداتها في مصر وخطيب مسجد أنس بن مالك المشهور في الثمانينات، الذي كان مؤمنا بأولوية الدعوة على السياسة والأمة على السلطة حينها، ومن مسجده هذا كانت البذور الأصولية الأولى لكثير من قيادات الجهاد والجماعة الإسلامية، الذين استمروا يتخذون التبليغ ستارا حينها رغم تحولهم عن إطاره الفضفاض.
بل إننا نرى أن المتحولين من الفكر «الإخواني» للفكر والتنظيمات العنفية والراديكالية كانوا في الغالب مهمشين داخل التنظيم «الإخواني»، واختلطت عليهم معارف ومدارك تنتقد توجهاته في التركيز على السلطة وعدم الاهتمام بالعلوم الشرعية، والمواءمة والتقية والمداراة وما شابه من سلوكيات الميكافيلية. وكان توجههم رهينا بلحظات وسياقات محددة كالجهاد الأفغاني أواخر السبعينات أو الصراع العربي الفلسطيني والأزمة السورية وما شابه من سياقات.
في المقابل، تنشط الدعوات المتشددة التي تزعم السير على خطى السلف الصالح عبر شخصيات واتجاهات مختلفة، في مناطق محددة، وتركز على التعليم الديني. وغالبا ما يكون تركيزها على تعليم وتدريس القرآن والحديث وبعض كتب التوحيد وعلومه لطلبتها. وهي لا تدعوهم لتنظيم ويستمر بعضهم في الالتزام بالسنة، شكلا واعتقادا، وتبديع ما يتعلم تبديعه، إلا أنها ليست تنظيما، ومن يستمر في الترقي فيها قد يظل بعيدا عن الجماعات الأخرى إلا في لحظات معينة يمكن أن يصيبه داء التسييس ودعاوى الإسلام السياسي كما حدث مع دعاة كثيرين بعد ثورة 2011 في مصر وفي فترة حكم الإخوان بين يونيو (حزيران) 2012 ويونيو 2013 حيث خرج بعضهم عن الاتجاه المتشدد متماهيا تماما مع الطرح الإخواني، مثل الداعية محمد عبد المقصود من القاهرة وسعيد عبد العظيم في الإسكندرية، والتيار الذي عرف بـ«حزب الوطن» ومال بتشدده الديني نحو التشدد السياسي ثم القتالي فيما بعد، قبل تلاشي أخباره. ولكن يظل الاتجاه المتشدد الغالب ضد التكفير وضد الخروج، ومؤمنا بفكرة الدولة ودرء الفتنة - ولو بالتغلب - التاريخية. ولكن لكونه فضفاضًا، وليس منظما بشكل صارم شأن التنظيم «الإخواني»، قد ينزلق بعض المنتمين إليه هنا أو هناك لفكرة التغيير العنيف أو الخروج المسلح منتظما مع الجماعات الراديكالية ولكنه في هذا الحالة ينفصل عن إطار تعليم التوحيد وعلوم الشرع الغالبة عليه.

من السياسة إلى العنف
ثانيًا، غالبًا ينطلق التدرج والانتقال إلى الأصوليات العنيفة من أصل الإيمان بقضية الإسلام السياسي في الحاكمية أو استعادة دولة الخلافة وإقامتها والسبيل نحو ذلك، ورفض تجاهل بعض التيارات لها مثل التبليغ، أو ما يرونه من مواءمة ومراوغة «إخوانية» عبر تحقيقها عبر الطرق الشرعية. ويكون التحول نحو الراديكالية القتالية إن لم يكن مباشرا عبر الدعوة والتجنيد الفردي للعنصر الأصولي في تنظيم آخر عبر ثلاث مقولات رئيسة:
1 - توظيف مقولات الولاء والبراء والقول بتوحيد الحاكمية.
2 - التركيز على سؤال ما العمل وتكفير الأنظمة والمجتمعات والدعوة للخروج عليها.
3 - إعادة أيقنة القتال والعنف كسبيل وحيد لتغيير الأنظمة وخصوصا تجاه الأنظمة التي توصف في أدبياته بالمرتدة.
ويمتلك الراديكاليون في سبيل البقاء على ذلك، رغم اختلافهم، تراثا ضخما من تشويه كل آخريهم سواء من الجماعات الأصولية الأخرى أو المؤسسات والشخصيات الدينية الأخرى، وتستلب الجماعة كلية من إمكانية استرداد فرديته وبالتالي سماحيته تجاه أي آخر.



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».