نظرة إلى مدارج الأصوليين

كيف يفاضل وينتقل المتشدّدون بين التنظيمات الإسلاموية؟

بعض النساء في تنظيم داعش شاثناء تدربهن على السلاح
بعض النساء في تنظيم داعش شاثناء تدربهن على السلاح
TT

نظرة إلى مدارج الأصوليين

بعض النساء في تنظيم داعش شاثناء تدربهن على السلاح
بعض النساء في تنظيم داعش شاثناء تدربهن على السلاح

مسافة كبيرة بين الدين والتديّن، هي المسافة بين السماوي المتعالي (الدين) وبين التأويل والاختيار الاجتهادي البشري والتاريخي الذي هو «التديّن». وبينما يكون مصدر الدين هو الله وأنبياؤه، يبقى نمط التدين وسلوكه اختيارًا فرديًا أو جماعيًا، يسمُه ويصبغ عليه «المتديِّن» السمة الغالبة عليه سماحة ومحبة وإيمانًا بالاختلاف والتعدد، أو تشددًا وتطرفًا تتأجج كراهية للآخرين، وإيمانا مطلقا محتكرا للحق والحقيقة معا.
لكن المسافة الفاصلة تضيق قليلا بين «المتشدد المتطرف» الفرد هنا، وبين المنتظم المستلب في جماعة أو تنظيم أصولي - أو راديكالي - تتطابق قناعاته معه، أو يقتنع بها، وينحي فيها الفرد ذاته جانبا لقبوله بالبيعة أولا، وثانيا ما يترتب عليها من السمع والطاعة للأمير والتنظيم، الذي يبقى شرط انتظامه وترقيه فيه.. وحسب درجة هذا الالتزام بالسمع والطاعة، فتكون درجة واحتمالات تصعيده الذي يشترط نفي الفردية والاستقلالية تماما.
حسب صرامة التنظيم الأصولي وأطروحاته الرئيسية، تكون درجة تسليم الشخص المتطرف أو المتشدد أو «الأصولي» نفسه وحريته وفرديته بل وحياته له، وهو ما يتعلق بأهداف التنظيم الكبرى، بين الدعوة أو الدولة، وبين تصحيح الإيمان والتوحيد ومناهج تلقي الدين والفقه نفسه، أم استعادة التاريخ والانقلاب عليه وإعادة مجد الأمة السالف في تصور هذه الجماعات.
سنحاول فيما يلي تتبع مدارج الأصوليين، كيف يختار جماعته وكيف ينتقل بين الجماعات، فانتظامه الأصولي قد يتغير من جماعة إلى جماعة أخرى، وبعد التزامه مع إحداها قد ينتقل لغيرها، أكثر منها تشددا أو أكثر اعتدالا حسب توجهاته وحسبما يلاحظه هو أثناء تجربته هو ويميل إليه. بل قد يتحرّر كليًا من الأصولية أو قد يطلق كل أنماط وأنساق التدين متحللا من كل معيار ومرجعية قبلية، انتقاما لا شعوريا أو شعوريا من تجربته السابقة، ولكن هذا هو النادر، ويبقى الانتقال بين الأصوليات وتنظيماتها هو الغالب في مدارج الأصوليين.

البدايات بين «التبليغ» و«الإخوان»
أولاً، غالبًا ما تكون البدايات الأصولية، في القرى والمدن، عبر جماعات دعوية، تركز على الدعوة والهداية أو تعليم الناس أمر دينهم حسب نسقها وتصوراتها الدينية. وتأتي في مقدمة هذه الجماعات «الدعوة والتبليغ» التي بدأ نشاطها عربيًا عام 1950 وأسست في الهند سنة 1916 م، والتي لا تعلن استهدافها الدولة ولا تؤمن بالصدام معها، بل تعمل على تديين أو هداية الناس حسب تعبيراتهم، فتملأ أبنيتهم المعنوية والروحية بخطاب متأجج روحيا نحو فكرة الدعوة وهداية الناس وإصلاح المجتمع، وأن ماضيهم وبعدهم عن المساجد هو الأصل لكل البلايا التي يمر بها المسلمون.
وكانت جماعة «التبليغ والدعوة» البداية والمرحلة الأولى لعدد من قيادات الجماعات الأصولية، مثل أسامة بن لادن زعيم «القاعدة» وعبود الزمر وعبد الحكيم عابدين من القيادات الراديكالية التاريخية المصرية، بل وحتى راشد الغنوشي زعيم «حركة النهضة» في تونس، وكذلك كثير من المقاتلين الأجانب والغربيين حيث تنشط هذه الجماعة الدعوية وتتحرك بحرية في كثير من البلاد الغربية مثل بول ووكر و«مفجر الحذاء» بل وآدم غادان المتحدث باسم «القاعدة» الآن.
وتعمل «التبليغ» على غير المجهزين آيديولوجيًا في الغالب، وتجهزهم بعاطفة مؤجّجة من الرغبة في العمل وتغيير العالم، عبر الخروج معها وفق مدد محدّدة، من ثلاثة أيام في الشهر إلى أربعين يوما في العام وأربعة أشهر في العمر. وهي تساوي بين الخروج الدعوي معها وبين «الجهاد» في سبيل الله، ولذا ينتقدون بأنهم «قاديانية الجهاد» أي يلغون «الجهاد» مثل القاديانية.
والسائد أن المنتمي لجماعة «التبليغ»، إن اندمج مع المجتمع وأسئلته السياسية والوطنية والإقليمية، لن يجد في جماعته إجابة. إذ إن من مبادئها تجنب الحديث عما تسميه «أمراض الأمة» مما يجعل المنتمي الفارغ من الإجابة على أسئلة وانتقادات الآخرين أيضًا يغادرها.. ربما إلى «الإسلام السياسي الصندوقي»، أو للجماعات الراديكالية والأكثر صلابة منها وفعلا، أو يغادرها للاتجاه المتشدد الذي يركز قطاع منها على بدعيتها وجهل عناصرها، طالبا للعلم معه.
وهكذا تبقى جماعة «التبليغ والدعوة» المحطة الأولى والتمهيدية لكثير من الأصوليين، ومرحلة يبدأ معها صعود مدارج التطور الأصولي، وهي تأتي بالعنصر لكنها تشحنه عاطفيا وتفرغه فكريا. حيث إنها جماعة بلا أدبيات جدلية قوية، ومتهمة من جوانب متعددة فقهيا وعقديا وتاريخيا، ولها أصول صوفية ديوبندية وجشتية معروفة، يجهلها كثرة من أفرادها العرب ويعرفها خصومهم من التنظيمات الأخرى. ولكن البدايات الأصولية في المدارس والجامعات والمؤسسات والنقابات كانت نحو الإسلام السياسي، الذي سعى لإيجاد بديل للدولة في كل شيء، بدءا من أنشطة الرياضة والترفيه للعمل الخدمي والاجتماعي حتى البرلمان والحكومة. وهو ما يجذب الطفل والمراهق بدرجة ما وتتم قولبته وتجنيده أو نظمه خطوة خطوة عبر المعسكرات والنشاطات والحفلات والجوائز، ومعها بعض الكتيبات الصغيرة التي تستنفر عاطفته ضد الأنظمة والدول، أو تثير وتنحي ولاءه نحو الجماعة عبر كتيبات عن تاريخ مظلوميتها وطموحاتها وانتشارها.
ويتميز الخطاب «الإخواني» بميزات خاصة، مع أنه يركّز على المتدين الجاهز بالأساس، ولا تعنيه هداية غير المتدينين بالأساس. إنه خطاب عقلانوي يستخدم العقل والنقل والشعار وتراثا من المظلومية التاريخية يروجه حسب تصوره، ويستطيع أن يجذب به المتدين، ويبدو ملتحما بالواقع ممتلكا حلولا كلية له فيلتحم بالسياسي الوطني والإقليمي والدولي، ويستثمر جيدا في التاريخ. كما أنه يُشعر المنتمي إليه بالبديل، بل يضعه في شبه «الغيتو» الذي يتصور المنتمي الجديد إليه أنه يستكفي به عن المجتمع ككل، ويشعر به جماعة اجتماعية قوية تحل محل البنى التقليدية والعشائرية الاجتماعية، فيبرز عبرها كرمز اجتماعي ومرشح انتخابي. ومن ثم يدخل في جدل مع الديني في المسجد ومع الحزبي في الشارع، ما يشعر العضو الأصولي الملتزم والمنتظم، ويظل الأمر كذلك وغالبا ما تكون الانشقاقات أو الخروج عن التنظيم الإخواني مغادرة كلية للإسلام السياسي وانقلابا على طرحه. وفي هذا نذكر خروجات شخصيات كثيرة عن التنظيم «الإخواني» نتيجة التطور الفكري شأن أحمد حسن الباقوري ومحمد الغزالي وأبو شقة و«الإخوان الجدد»، أو رفضا للجماعة الإخوانية واختلافا تنظيميا معها كخلافات الصقور والحمائم، أو تطورا فكريا فرديا أو فرعيا يتجاوزها شأن انشقاق الراحل حسن الترابي وجماعته عنها.
ونادرا ما يكون التحول لجماعة راديكالية أخرى كالجماعات الراديكالية العنيفة أو ما شابه، مثل تحوّل عبد الله عزام أو أسامة بن لادن في فترة تالية، أو مؤسس «جيش المجاهدين العراقي» أبو عبد الله المنصور وتلميذه أبو بكر البغدادي، أمير داعش فيما بعد، أو قبلهم شكري مصطفى وجماعة «التكفير والهجرة» التي خرجت من باطن «الإخوان»، أو «التبليغ والدعوة» الأقل عنفا وتسييسا، وهو ما حدث مرة واحدة مع إبراهيم عزت أحد قياداتها في مصر وخطيب مسجد أنس بن مالك المشهور في الثمانينات، الذي كان مؤمنا بأولوية الدعوة على السياسة والأمة على السلطة حينها، ومن مسجده هذا كانت البذور الأصولية الأولى لكثير من قيادات الجهاد والجماعة الإسلامية، الذين استمروا يتخذون التبليغ ستارا حينها رغم تحولهم عن إطاره الفضفاض.
بل إننا نرى أن المتحولين من الفكر «الإخواني» للفكر والتنظيمات العنفية والراديكالية كانوا في الغالب مهمشين داخل التنظيم «الإخواني»، واختلطت عليهم معارف ومدارك تنتقد توجهاته في التركيز على السلطة وعدم الاهتمام بالعلوم الشرعية، والمواءمة والتقية والمداراة وما شابه من سلوكيات الميكافيلية. وكان توجههم رهينا بلحظات وسياقات محددة كالجهاد الأفغاني أواخر السبعينات أو الصراع العربي الفلسطيني والأزمة السورية وما شابه من سياقات.
في المقابل، تنشط الدعوات المتشددة التي تزعم السير على خطى السلف الصالح عبر شخصيات واتجاهات مختلفة، في مناطق محددة، وتركز على التعليم الديني. وغالبا ما يكون تركيزها على تعليم وتدريس القرآن والحديث وبعض كتب التوحيد وعلومه لطلبتها. وهي لا تدعوهم لتنظيم ويستمر بعضهم في الالتزام بالسنة، شكلا واعتقادا، وتبديع ما يتعلم تبديعه، إلا أنها ليست تنظيما، ومن يستمر في الترقي فيها قد يظل بعيدا عن الجماعات الأخرى إلا في لحظات معينة يمكن أن يصيبه داء التسييس ودعاوى الإسلام السياسي كما حدث مع دعاة كثيرين بعد ثورة 2011 في مصر وفي فترة حكم الإخوان بين يونيو (حزيران) 2012 ويونيو 2013 حيث خرج بعضهم عن الاتجاه المتشدد متماهيا تماما مع الطرح الإخواني، مثل الداعية محمد عبد المقصود من القاهرة وسعيد عبد العظيم في الإسكندرية، والتيار الذي عرف بـ«حزب الوطن» ومال بتشدده الديني نحو التشدد السياسي ثم القتالي فيما بعد، قبل تلاشي أخباره. ولكن يظل الاتجاه المتشدد الغالب ضد التكفير وضد الخروج، ومؤمنا بفكرة الدولة ودرء الفتنة - ولو بالتغلب - التاريخية. ولكن لكونه فضفاضًا، وليس منظما بشكل صارم شأن التنظيم «الإخواني»، قد ينزلق بعض المنتمين إليه هنا أو هناك لفكرة التغيير العنيف أو الخروج المسلح منتظما مع الجماعات الراديكالية ولكنه في هذا الحالة ينفصل عن إطار تعليم التوحيد وعلوم الشرع الغالبة عليه.

من السياسة إلى العنف
ثانيًا، غالبًا ينطلق التدرج والانتقال إلى الأصوليات العنيفة من أصل الإيمان بقضية الإسلام السياسي في الحاكمية أو استعادة دولة الخلافة وإقامتها والسبيل نحو ذلك، ورفض تجاهل بعض التيارات لها مثل التبليغ، أو ما يرونه من مواءمة ومراوغة «إخوانية» عبر تحقيقها عبر الطرق الشرعية. ويكون التحول نحو الراديكالية القتالية إن لم يكن مباشرا عبر الدعوة والتجنيد الفردي للعنصر الأصولي في تنظيم آخر عبر ثلاث مقولات رئيسة:
1 - توظيف مقولات الولاء والبراء والقول بتوحيد الحاكمية.
2 - التركيز على سؤال ما العمل وتكفير الأنظمة والمجتمعات والدعوة للخروج عليها.
3 - إعادة أيقنة القتال والعنف كسبيل وحيد لتغيير الأنظمة وخصوصا تجاه الأنظمة التي توصف في أدبياته بالمرتدة.
ويمتلك الراديكاليون في سبيل البقاء على ذلك، رغم اختلافهم، تراثا ضخما من تشويه كل آخريهم سواء من الجماعات الأصولية الأخرى أو المؤسسات والشخصيات الدينية الأخرى، وتستلب الجماعة كلية من إمكانية استرداد فرديته وبالتالي سماحيته تجاه أي آخر.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.