تضييق الخناق على التنظيمات الإرهابية مثل «داعش» واعتقال عدد كبير من حركييها، حتم تغييرًا نوعيًا في استراتيجية هذا التنظيم الإرهابي المتطرف، وإعطاء النساء مهام قيادية ولوجيستية تتضمن حمل السلاح وتصنيع المتفجرات من جهة، وتجنيد مناصرين عبر مواقع التواصل الإلكتروني من جهة أخرى. وتظهر استراتيجيات داعشية متقنة لاستقطاب المناصرين، إذ يتم توظيف خطابات ذات اختلاف نوعي حسب الشريحة المستهدفة، إما بالخطاب الديني للداعشيات العربيات، أو الاجتماعي للداعشيات الغربيات.
وفي تقرير لمركز الملك فيصل للأبحاث والدراسات الإسلامية في المملكة العربية السعودية، ميزت الباحثة سمية فطاني ما بين استخدام الخطاب الديني لـ«داعش» لاستقطاب النساء العربيات، وما بين الخطاب الاجتماعي الموجّه للنساء الغربيات من جهة أخرى، وذلك عبر حملات إعلامية توظف مفاهيم وعناوين مختلفة في التواصل حسب المستهدفين. وهذا ما يعكس التلون الخطابي واستخدام استراتيجية مؤدلجة في اللغة والمضمون تتكيف من أجل الوصول إلى وسيلة تواصل اجتماعية وشرعية تعبر القارات وتتغلغل إلى داخل البيوت سواء عبر شعارات دينية أو الإشارة إلى روح الجماعة لتعزيز الشعور بالأمان والقوة.
شعارات لاستهداف النساء
يظهر تكثيف الحضور الإلكتروني لـ«داعش» واستخدامه رسائل تحريضية تحمل محاولة لإثارة روح الشجاعة بشعارات لرفض الوضع الراهن في سوريا والرغبة في النضال من أجل الحرية، إضافة إلى تصوير القتال وكأنه أشبه بمغامرة حماسية جميلة. ولقد انتشرت قصص لشابات أوروبيات قرّرن نبذ حياة دعة طبيعية للالتحاق بـ«داعش» في بقاع تعد الأشد خطورة في العالم.
إحدى النماذج التي تسعى لترسيخ أسطورة المغامرة، قصة التوأمين البريطانيتين من المتحدرتين من أصول صومالية سلمى وزهرة، اللتين ظهرتا على الساحة الإلكترونية كرمز مؤثر على الفتيات، لا سيما المراهقات، سواء من خلال التدرب على استخدام القنابل اليدوية والكلاشنيكوف، أو رسائل تحفيزية كالتعبير عن الشعور بالحماسة لرواج لقب «التوأمين الإرهابيين» وبثه للرعب، أو التأييد المطلق لجرائم تنظيم داعش ضد الجيش السوري لأنها تعد دفاعًا عن النفس.
يكثف «داعش» محاولات سد الفجوة النفسية والاجتماعية التي تنتشر لدى الشابات في المجتمع الغربي بحاجة إلى إنقاذ من عالم الوحدة والقلق النفسي. لا سيما ما بين المسلمات سواء من أصول غير غربية، ممن يعانين من شعور مزمن بالاضطهاد والعجز عن التواصل مع المجتمع الغربي بسبب الاختلاف العقائدي، أو أوروبيات اعتنقن الإسلام مؤخرًا ممن هن بحاجة إلى دعم معنوي وتوجيه. وهذا ما يسهّل على محترفي التجنيد من أعضاء «داعش» عملية الإقناع بضرورة الهجرة إلى «بلد الإسلام الصحيح»، ونبذ ذلك القلق والنفور الاجتماعي وراءهن، وإيجاد الزواج بمن ينتشلهن من ذلك الضياع.
وتسلط قصة الصحافية الفرنسية آنا إيريل الضوء على سلوكيات «داعش» ومحاولة استقطاب الشابات. إذ اختارت إيريل اسمًا مستعارًا في محاولة لإخفاء هويتها بعد أن تخفت خلف اسم «ميلودي» العشرينية التي أسلمت للتو، لتتلقى ترحيبًا ومحاولة لتجنيدها إلكترونيًا من «أبو بلال»، أحد قادة «داعش» في سوريا، الذي حاول إقناعها بضرورة الهجرة إلى سوريا والتمتع بسحر الحياة فيها إلى جانبه. ومما قاله: «ستصبحين مهمة، وإذا وافقت الزواج مني سأعاملك كملكة». ومن ثم أعطاها خطوات تفصيلية للوصول إلى سوريا في خط سير يمر بأمستردام وإسطنبول.
الخطاب حسب الشريحة
تختلف طريقة استقطاب النساء العربيات عن الغربيات، إذ يجري استخدام الخطاب الديني، وتصوير المدن الداعشية على أنها الوحيدة التي تطبق شرائع الدين الصحيحة. وهناك منشورات كثيرة تصب في بوتقة التوجيه الديني، وأشهرها ينتمي لـ«كتيبة الخنساء» التي تعد بمثابة دليل على النقلة النوعية للوظائف النسائية الداعشية التي أصبحت ميدانية. فالكتيبة الموجودة في مدينة الرقّة بمثابة «شرطة أخلاق» تستوقف النساء المخالفات، وتقدم الدعم اللوجيستي لـ«داعش» دون تورّع عن حمل السلاح ومحاكمتهن للأخريات من النساء غير الملتزمات بالزي الشرعي. ويعد كتاب «المرأة في الدولة الإسلامية» أحد المنشورات التي تستهدف النساء، وهو عبارة عن دليل إجرائي لـ«كتيبة الخنساء» يقع في خمسين صفحة تصف طرق اجتذاب النساء الشابات للتنظيم. وهذا الدليل موجه إلى النساء العربيات بالتركيز على النواحي الشرعية، والسعي إلى تصوير الحياة في المناطق المسيطرة من قبل «داعش» وكأنها طبيعية لم تحرم النساء فيها من أي شيء، وبأن بإمكانهن الحصول على حقوقهن التي كفلها الإسلام، دون الخوف من القمع إذا ما واظبن على أداء الواجبات. أكثر من هذا، يصوّر مدينة الرقّة - «عاصمة التنظيم» في شمال وسط سوريا - وكأنها جنة للمهاجرين أو بمثابة «المدينة الفاضلة» والملاذ الآمن. وإن كان ذلك مقتصرًا فحسب على استهداف العربيات. وتشير الباحثة السعودية فطاني في بحثها عن الخطاب الداعشي (ولقد حصلت «الشرق الأوسط» على نسخة منه)، إلى أن منشورات «الخنساء» لم تترجم إلى اللغة الإنجليزية على الرغم من وجود إمكانيات لإنجاز ذلك. وهو ما يدل على التناقض في الخطاب الموجه حسب اللغة والشريحة المستهدفة. إذ إن ترجمة تلك المنشورات قد تؤثر سلبًا على الحملة الدعائية لـ«داعش» وتفسد الاستراتيجية المستخدمة لاستقطاب الأوروبيات لاختلاف المضمون عن الخطاب الذي يستهدفهن، وهو قد يعكس نوعًا من قمع المرأة أو يشرح جزءًا من واجباتها الشرعية، مما قد ينفر المرأة الغربية الباحثة عن روح المغامرة والجماعة وإلغاء قيود المجتمع.
تلاشي الصورة النمطية
لقد تطرّقت المختصة في شؤون حقوق الإنسان ومكافحة التطرف، جين هاكيربي في مقالة نشرت في صحيفة «نيويورك تايمز» بعنوان «حين تصبح النساء إرهابيات»، إلى الصورة النمطية المغلوطة للمرأة في التنظيمات المتطرفة بأنها سلبية تتعرض للتمييز حسب الجنس وتحت تأثير الرجل فقالت: «أكبر جزء من المشكلة هي الاعتقاد بأن الإرهاب يشكل عنفًا حيال المرأة».
ذلك الاعتقاد يناقض التوجه الذي أصبح أكثر كثافة لتنظيم داعش نحو تمكين المرأة وإدراجها في قلب المخططات الإرهابية، للتعويض عن الخسائر في صفوف مجندي «داعش» بحكم اعتقال أعداد كبيرة من مناصري «داعش» دوليًا، وفي محاولة لإرباك الجهات الأمنية والتمويه. وهذا ما يتنافى مع الصورة النمطية للمرأة المضطهدة في التنظيم، كما توضح هاكيربي بقولها: «نحن نفضل أن ننظر إلى الإرهاب من جانب تمييزي حسب الجنس، مما يضع الرجل المسلم المتطرف يعادي المرأة، فيما يعتبر الغرب وحده المدافع عنها».
ويظهر التوجه الجديد نحو تجييش العنصر النسائي، من خلال المخططات الإرهابية الأخيرة في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي في فرنسا، وأحدها استهدف كاتدرائية نوتردام التاريخية الشهيرة بالعاصمة باريس، والكشف عن سيارة ملغمة بعبوة غاز خارج المبنى، مما أظهر تورط عدد كبير من النساء المتطرفات.
يتنافى هذا الحدث مع الصورة النمطية التي تعطي المرأة في «داعش» وكأنها عبارة عن عنصر مساند، أو مجرد انخراط في «جهاد النكاح» أو كزوجة لأحد المقاتلين. بات هناك نوع من التقارب سواء ما بين الأعمال التي يقوم بها كل من الرجل والمرأة، أو حتى في أسباب الالتحاق بالتنظيم. ويتجلى هنا بحث عن روح المغامرة بدموية مترفة بعيدًا عن التصور السائد للمرأة الباحثة عن السلام بعيدًا عن القتل والتدمير. على صعيد آخر، حسب موقع «قنطرة» للتحليل السياسي، فإن خطاب الكراهية المرتبط بـ«داعش» لا يستهدف «الغرب الكافر» أو «الشيعة الخونة» فحسب، وإنما هو يستهدف المملكة العربية السعودية كدولة، والنساء السعوديات بخطاباته، في محاولة لانتقاد أوضاعهن الاجتماعية والاقتصادية وشيطنة المجتمع ككل ليصبح المجتمع الداعشي وحده الملاذ الآمن والأمثل لتطبيق شعائر الدين، والحل لكل المشكلات التي يعانيها الفرد سواء كان يحمل احتياجًا اقتصاديًا أو نفسيًا، في محاولة لأحد عمليات وأساليب استقطاب النساء عبر التغرير بهن.
استقطاب الغربيات
وفي رصد لعدد من النساء الداعشيات الغربيات التي تعكس استراتيجيات التنظيم في استقطاب النساء، هي قصة «دالين»، وهي شابة أردنية في السادسة والعشرين من العمر، عانت من البطالة منذ عام 2011، وتواصلت مع عدد من المتشددين عبر موقع «فيسبوك» الاجتماعي. وصادقت فيما بعد امرأة تقطن مدينة الرقّة، وجرى لاحقًا تكثيف التواصل معها من قبل مؤيدين لـ«داعش» لما يزيد عن 500 رسالة تطلب منها الانضمام إلى التنظيم وقتل والدها وأخيها وعملاء لقوات الأمن، إضافة إلى ما يزيد عن 200 بث مرئي بصفة يومية لمشاهد دموية.
بعدها توجهت «دالين» فيما بعد إلى معسكر سري للتنظيم في تركيا، مع ما يزيد عن خمسين امرأة عربية، يتعرضن لغسل يومي لأدمغتهن عبر الجلوس أمام شاشة كبيرة تعرض بثًا مرئيًا دمويًا عنيفًا يدعو لقتل كل مَن يخالف معتقدات «داعش»، لمدة 14 شهرًا.
من ناحية ثانية، تبرز من خلال قصص النساء العربيات المنتميات لـ«داعش»، أهمية الدور العائلي كسبب أولي للانخراط في التنظيم. سواء لانتماء أحد أعضاء الأسرة للتنظيم أو لجماعات متطرفة أخرى، أو التأثر بأحداث إرهابية سابقة تورط بها أحد الأقارب في السابق. ويتجلى هذا في إعلان السلطات المغربية عن إحباط مشروع لإدماج العنصر النسائي في المغرب داخل تنظيم داعش، واعتقال عشر مغربيات بايعن أمير «داعش»، لديهن علاقات قرابة مع مقاتلين مغاربة في صفوف «داعش»، إضافة إلى مناصرين لجماعات متطرفة كان يجري التنسيق معهم لتنفيذ عمل إرهابي.
صلة القرابة هذه بالمتطرفين تعطي الداعشيات شعورًا بأن ما يقمن به هو أمر طبيعي وليس بعيدًا عن المألوف. وتفيد التحريات الأولية بأن المغربيات انخرطن في الأجندة الدموية لـ«داعش» من خلال سعيهن للحصول على مواد تدخل في صناعة العبوات الناسفة بغية تنفيذ عمليات انتحارية ضد منشآت حيوية مغربية، ما يظهر انخراطًا نسويًا في الأعمال الإرهابية التنفيذية، إلى جانب تكليف النساء المغربيات المعتقلات بمهمة تجنيد النساء.
.. واستقطاب العربيات
في هذه الأثناء، تظهر قصص الداعشيات السعوديات التحاقهن بالتنظيم تأثرًا بأحد الأقارب المتطرفين. وتعكس نماذج المتطرفات نقلة نوعية وابتعادًا عن الاكتفاء بالتستر على المتطرفين إلى انتقال شرس إلى التجنيد الإلكتروني، وعدم التورع عن تصنيع أو استخدام أسلحة ومتفجرات، بل والتسلل إلى أماكن القتال الداعشية.
أحد أبرز الأمثلة على ذلك «أم أويس»، التي تعد أول داعشية سعودية، ولقد أصدرت المحكمة الجزائية المتخصصة بالسعودية حكمًا عليها بالسجن لمدة ست سنوات، لإدانتها بمبايعة «أبو بكر البغدادي» زعيم التنظيم الإرهابي، والتواصل عبر مواقع التواصل الاجتماعي مع حسابات مرتبطة بالتنظيم، إضافة إلى إثارتها الفتنة وطباعتها منشورات متطرفة.
ويظهر تأثر هذه المرأة بخالها، الموقوف في سجن الطرفية منذ عشر سنوات، الذي ثبت انضمامه لـ«القاعدة». من جهة أخرى أدينت السعودية مي الطلق بالتواصل مع زوجها، وهو أحد المنضمين لصفوف «داعش» في سوريا والتستر عليه، والاتفاق معه باللحاق به في سوريا عبر التسلل إلى اليمن مع أبنائها وأخيها الذي يبلغ من العمر 15 سنة لينضم إلى خلية إرهابية تحوي 21 شخصًا، وهو يعد اليوم أصغر إرهابي يسعى إلى تجنيد أتباع صغار السن.
أيضًا تعد ندى القحطاني أول مقاتلة سعودية انضمت مع أخيها أحد المقاتلين في «داعش»، وقد أطلقت على نفسها مسمى «أخت جليبيب»، ولم تكترث لترك زوجها وأبنائها، بل ذكرت أن سبب انضمامها لـ«داعش» خيبتها بسبب تخاذل أغلب الرجال.
وهناك عبير محمد عبد الله الحربي، التي تشكل أحد الأمثلة اللافتة في الاختفاء خلف ستار الأنوثة، إذ أخفت حزامًا ناسفًا عند موضع قدميها بالسيارة، لتحاشي الاشتباه بها كونها امرأة، أثناء سفرها من العاصمة الرياض إلى منطقة عسير بمعية زوجها فهد فلاح الحربي، وهو الحزام الناسف ذاته المستخدم في عملية تفجير مسجد قوات الطوارئ الخاصة في عسير.
وفي موقف يظهر تجردًا من مشاعر الأمومة والغوص في التوحش، ساهمت خلود الركيبي في تجنيد شقيقها ناصر الركيبي وابنيها حمد ونصار الموسى، ممن أعلنت عنهم وزارة الداخلية أخيرًا. إذ قامت بتجهيز أحد أبنائها لتفجير نفسه في محافظة الأحساء، بالتنسيق مع وسيط من إحدى مناطق الصراع، ومباركة العمليات الإرهابية والتشجيع على الإتقان وفقًا للمستوى المطلوب والتوبيخ إذا ما وجد نوع من القصور. كما قامت بتقديم الدعم المادي واللوجيستي لـ«داعش». هذه النماذج تعكس خطورة تنظيم داعش لجهة قدرته على إقناع وتجنيد العنصر الأنثوي بأساليب وطرق تختلف حسب الوضع الاجتماعي أو النفسي لمن يحمل هشاشة وقابلية للتأثر والانضمام. وهذا واقع يلفت الانتباه إلى ضرورة إدراج النساء ضمن خطط مكافحة التطرف، من أجل خلق مجتمع متكامل يرفض العنف ويسعى للسلام.
