تنافس وصراعات للهيمنة على قرار شيعة العراق

أتباع إيران يؤجلون إطاحة العبادي لما بعد معركة الموصل

عناصر تابعة لقوات الحشد الشعبي يتخذون مواقع لهم أثناء معارك في جبهة الثرثار على حدود محافظة الأنبار ({غيتي})
عناصر تابعة لقوات الحشد الشعبي يتخذون مواقع لهم أثناء معارك في جبهة الثرثار على حدود محافظة الأنبار ({غيتي})
TT

تنافس وصراعات للهيمنة على قرار شيعة العراق

عناصر تابعة لقوات الحشد الشعبي يتخذون مواقع لهم أثناء معارك في جبهة الثرثار على حدود محافظة الأنبار ({غيتي})
عناصر تابعة لقوات الحشد الشعبي يتخذون مواقع لهم أثناء معارك في جبهة الثرثار على حدود محافظة الأنبار ({غيتي})

سلسلة من الأزمات تعاقبت في الآونة الأخيرة على العراق، وزادت من حدة المشكلات التي تعانيها البلاد من فراغ في المناصب الحكومية الرئيسية. ومن جهة ثانية، بينما يتأهب العراق لعملية «تحرير» مدينة الموصل، ثاني كبرى المدن العراقية، وتخليصها من احتلال تنظيم داعش الإرهابي المتطرف في غضون الأسابيع أو الشهور القليلة المقبلة، تسلط هذه المشكلات الضوء على مدى سلبية النفوذ الإيراني في العراق، وعلى سياسة التقسيم والتفرقة التي يعاني منها على المستوى الوطني، وعلى صعيد مكوناته الدينية والطائفية والعرقية.
هزّت العراق خلال الأشهر الأخيرة عدة أزمات ومشكلات، وصلت إلى حد إقالة بعض الوزراء الذين يشغلون حقائب وزارية سيادية حساسة، إذ صوّت البرلمان العراقي أخيرًا على إقالة وزير المالية هوشيار زيباري، أبرز الوزراء الأكراد في حكومة حيدر العبادي، وكان زيباري الوزير الثاني الذي يفقد منصبه في غضون شهر واحد، بعد وزير الدفاع خالد العبيدي، الذي كان البرلمان قد أقاله في اقتراع سري في أعقاب توجيه تهم إليه بالفساد.
ردًا على إقالته، اتهم زيباري رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، حليف إيران القديم والدائم، بتدبير طرده من الحكومة، ووفق خبير عراقي تحدث إلى «الشرق الأوسط» - بشرط عدم الكشف عن هويته نظرًا لحساسية الموضوع - «استغل المالكي الانقسامات الكردية والسنية والشيعية لفرض أجندته الخاصة». وبالتزامن مع ذلك، انتشرت معلومات مفادها أن وراء هذه «الحركة الثورية» وإقالة الوزراء مجموعة جديدة في البرلمان العراقي تطلق على نفسها اسم «جبهة الإصلاح»، تزعم أنها تسعى للإصلاح السياسي ومواجهة السياسيين الفاسدين، إلا أن هذه الأهداف لا تقنع كثيرًا من الجهات العراقية، بل ترى أن المالكي قد تكون له يد في هذه الحركة ويتلاعب بها لتحقيق أهدافه. وهذا، مع التذكير بأن رئيس الوزراء السابق (المالكي) ليس في الوقت الراهن في موقع قوة رسمي على الإطلاق، وهو على الرغم من فوز كتلته بما يكفي من الأصوات في الانتخابات الاتحادية الأخيرة، لم يشكل خيارًا شعبيًا قويًا لمنصب رئيس الوزراء.. أيضًا بعد اتهامه بالفساد وسوء إدارة شؤون الدولة.

«الحشد الشعبي»
مع هذا، يؤكد كثيرون أن لإيران حساباتها الخاصة، ويبدو أنها تعمل على تعزيز نفوذ المالكي ضمن ميليشيا «الحشد الشعبي» الشيعية. وفي ضوء هذا الواقع، ثمة من يقول إن المالكي يترقب الانتخابات المقبلة المقررة في العام المقبل (2017)، التي ستجرى على مستوى المحافظات، ثم لاحقًا عام 2018 على مستوى البرلمان، ليحاول استغلال الشعبية الطائفية لـ«الحشد الشعبي» لصالحه. ويرى رماد منصور، الباحث في «تشاتام هاوس» (المعهد الملكي للشؤون الدولية) في العاصمة البريطانية لندن، في حديث إلى «الشرق الأوسط» أنه «من المعقول أن يسعى المالكي إلى تشكيل لجنة برلمانية من الحشد».
الجدير بالذكر، أنه حين بدأت الحكومة العراقية في بغداد «مكافحة» تنظيم داعش عام 2014، وجّه كثير من العراقيين الشيعة النظر إلى إيران طلبًا للمساعدة. وانضوت عشرات من الجماعات المسلحة الشيعية تحت خيمة فرع ميليشياوي سرِّي يتبع الحكومة العراقية أطلق عليه في حينه اسم «الحشد الشعبي»، وتولى نوري المالكي تشكيله حين بدأ تنظيم داعش السيطرة على منطقة الأنبار، في غرب العراق.
ومن ثم، أخذت هذه الميليشيات تنمو، ولا سيما إثر الدعوات التي أطلقها المرجع الشيعي العراقي آية الله علي السيستاني لحمل السلاح بعد سقوط الموصل بين أيدي مسلحي «داعش»، فازداد بشكل كبير عدد الملتحقين بـ«الحشد الشعبي»، الذي على الرغم من حصوله على التمويل من وزارة الداخلية العراقية، كان يخضع للقيادة الإيرانية. واليوم، في الوقت الذي يعتبر فيه كثيرون أن ميليشيا «الحشد الشعبي» منظمة متماسكة قوية تتجمّع تحت لوائها جميع الميليشيات الشيعية الموالية لإيران، فإنها في الحقيقة تعاني من انقسامات كبيرة، ذلك أن بعض فصائلها يتبع إيران والمالكي، وبعضها الآخر يبدو أكثر ميلاً للعراق كوطن وكمصير.

الولاء لإيران
وهنا يشرح الخبير «أن الحشد الشعبي يتبع رئيس الوزراء حيدر العبادي، غير أن هذا الأخير ليست لديه سلطة إلا على الجزء الموالي للعراق من الحشد»، بينما تضم الميليشيات الموالية لإيران، داخل «الحشد» عدة فصائل تحكمها أطراف فاعلة على غرار هادي العامري الذي يرأس «منظمة بدر»، وأبو مهدي المهندس المتهم بأنه العقل المدبر وراء تفجير سفارتي الولايات المتحدة وفرنسا في الكويت عام 1980، وهو قائد ميليشيا «كتائب حزب الله»، وقيس الخزعلي قائد جماعة «عصائب أهل الحق» التي ترعاها إيران.
كذلك فإنه ضمن هذه المجموعات نفسها نجد انقسامات أخرى بين الموالين لإيران والموالين للمالكي، بحيث يرى كثير من الخبراء أن المالكي أقرب إلى جماعة «عصائب أهل الحق»، وإن كانت له علاقات جيدة مع العامري و«كتائب حزب الله». ثم إن هادي العامري معروف بولائه الشديد لإيران، وهو سبق له أن قاتل في الحرب العراقية - الإيرانية خلال عقد الثمانينات من القرن الماضي في صفوف القوات الإيرانية.
ووفق الخبير العراقي نفسه، «من الواضح أن المالكي يعرف جيدًا كيف يستغل هذه الاختلافات. فاليوم تجد القيادات الشيعية نفسها منقسمة وميّالة أكثر باتجاه القرار الذي اتخذه علي السيستاني - أبرز رجال الدين في العراق - بالابتعاد والتزام الصمت، بعدما شعر أن هيبة المرجع الشيعي الأهم تعرضت للإساءة من قبل صبيان أغرار، وأضف إلى ذلك خيبة الأمل التي شعر بها حين اتخذ قرار النزول إلى الشارع، وفشل في حشد الدعم المناسب من القيادات الأخرى». وهنا يقول رناد منصور إن هناك صراعًا يدور «بين المالكي وشخصيات الحشد الموالية له من جهة، والتيار الصدري (بزعامة مقتدى الصدر) من جهة ثانية، وقد يغدو رئيس الوزراء حيدر العبادي ضحية لهذا الصراع».
في السياق نفسه، كان موقع الأخبار العراقي «نقاش» قد أورد أخيرًا أن الضحية التالية للمالكي قد تكون رئيس الوزراء العبادي، وعودة إلى الخبير الذي طلب التكتم على اسمه، فإن «الأمر الوحيد الذي يُبقي العبادي في موقعه حاليًا هو المعركة ضد (داعش) في الموصل». أما موقع «نقاش» فيشير إلى أن المتحدث باسم «لجنة النزاهة النيابية العراقية» عادل نوري كان قد صرّح بأن أعضاء البرلمان الموالين للمالكي كانوا يعدون لاستجواب رئيس الوزراء أيضًا. وأردف الموقع أنه «من المعروف أن المالكي بدأ التفاوض مع ميليشيات الحشد التي لها طموحات سياسية. وهذه الفصائل تمكنت من جمع شعبية كبيرة وقوة عسكرية خلال السنة الماضية، كما أن طموحاتها السياسية لا تخفى على أحد». وفي هذا الصدد يقول الخبير إن المالكي «يتمتع بثروة كبيرة بينما تعاني الفصائل الأخرى من مشكلات اقتصادية مما يعطيه موقعًا متفوقًا عليها».

خطر على العراق
إن مخططات نوري المالكي وغياب السيطرة الحكومية على ميليشيات «الحشد الشعبي» تشكل بالفعل خطرًا على العراق في مرحلة ما بعد «داعش». وخلال السنوات الثماني التي كان فيها المالكي في الحكم، بدا مستأثرًا بالسلطة ويتجاهل البرلمان ويهمِّش أعضاءه، متفردًا في اتخاذ كل القرارات المهمة. كذلك استشرى الفساد المالي والإداري في عهده، وباتت المؤسسات المفترض أن تتحلى بالاستقلالية أو تلك التي تضطلع بمهام إشرافية ورقابية تحت إمرته. وهذا، فضلاً عن إقدامه على تعيين الموالين له في المناصب العليا، مما ألحق ضررًا فادحًا بالجيش العراقي، واعتبُرت هذه التعيينات من قبل كثير من المراقبين سببًا أساسيًا في ظهور «داعش» وتقدمه.
وراهنًا، تشكل الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، وبصفة خاصة «منظمة بدر» و«عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» خطرًا بالغًا على سيادة العراق كدولة، وذلك لأنها لا تستجيب في أكثرها لا للحكومة العراقية ولا للمرجع الشيعي في النجف الأشرف آية الله علي السيستاني. ثم إن «إيران لا تريد الاستقرار في العراق، بما أن ذلك سيحد من سيطرتها على اللاعبين العراقيين»، وفق الخبير. وبالتالي، «إذا نجحت الحكومة في طرد تنظيم داعش من العراق، قد يكون ذلك اليوم الذي سنشهد فيه ولادة مشكلات جديدة عديدة، نظرًا لعدد الميليشيات غير المنضبطة والخلافات والتجاذبات المحتملة داخل الطائفة الشيعية».



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟