تنافس وصراعات للهيمنة على قرار شيعة العراق

أتباع إيران يؤجلون إطاحة العبادي لما بعد معركة الموصل

عناصر تابعة لقوات الحشد الشعبي يتخذون مواقع لهم أثناء معارك في جبهة الثرثار على حدود محافظة الأنبار ({غيتي})
عناصر تابعة لقوات الحشد الشعبي يتخذون مواقع لهم أثناء معارك في جبهة الثرثار على حدود محافظة الأنبار ({غيتي})
TT

تنافس وصراعات للهيمنة على قرار شيعة العراق

عناصر تابعة لقوات الحشد الشعبي يتخذون مواقع لهم أثناء معارك في جبهة الثرثار على حدود محافظة الأنبار ({غيتي})
عناصر تابعة لقوات الحشد الشعبي يتخذون مواقع لهم أثناء معارك في جبهة الثرثار على حدود محافظة الأنبار ({غيتي})

سلسلة من الأزمات تعاقبت في الآونة الأخيرة على العراق، وزادت من حدة المشكلات التي تعانيها البلاد من فراغ في المناصب الحكومية الرئيسية. ومن جهة ثانية، بينما يتأهب العراق لعملية «تحرير» مدينة الموصل، ثاني كبرى المدن العراقية، وتخليصها من احتلال تنظيم داعش الإرهابي المتطرف في غضون الأسابيع أو الشهور القليلة المقبلة، تسلط هذه المشكلات الضوء على مدى سلبية النفوذ الإيراني في العراق، وعلى سياسة التقسيم والتفرقة التي يعاني منها على المستوى الوطني، وعلى صعيد مكوناته الدينية والطائفية والعرقية.
هزّت العراق خلال الأشهر الأخيرة عدة أزمات ومشكلات، وصلت إلى حد إقالة بعض الوزراء الذين يشغلون حقائب وزارية سيادية حساسة، إذ صوّت البرلمان العراقي أخيرًا على إقالة وزير المالية هوشيار زيباري، أبرز الوزراء الأكراد في حكومة حيدر العبادي، وكان زيباري الوزير الثاني الذي يفقد منصبه في غضون شهر واحد، بعد وزير الدفاع خالد العبيدي، الذي كان البرلمان قد أقاله في اقتراع سري في أعقاب توجيه تهم إليه بالفساد.
ردًا على إقالته، اتهم زيباري رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، حليف إيران القديم والدائم، بتدبير طرده من الحكومة، ووفق خبير عراقي تحدث إلى «الشرق الأوسط» - بشرط عدم الكشف عن هويته نظرًا لحساسية الموضوع - «استغل المالكي الانقسامات الكردية والسنية والشيعية لفرض أجندته الخاصة». وبالتزامن مع ذلك، انتشرت معلومات مفادها أن وراء هذه «الحركة الثورية» وإقالة الوزراء مجموعة جديدة في البرلمان العراقي تطلق على نفسها اسم «جبهة الإصلاح»، تزعم أنها تسعى للإصلاح السياسي ومواجهة السياسيين الفاسدين، إلا أن هذه الأهداف لا تقنع كثيرًا من الجهات العراقية، بل ترى أن المالكي قد تكون له يد في هذه الحركة ويتلاعب بها لتحقيق أهدافه. وهذا، مع التذكير بأن رئيس الوزراء السابق (المالكي) ليس في الوقت الراهن في موقع قوة رسمي على الإطلاق، وهو على الرغم من فوز كتلته بما يكفي من الأصوات في الانتخابات الاتحادية الأخيرة، لم يشكل خيارًا شعبيًا قويًا لمنصب رئيس الوزراء.. أيضًا بعد اتهامه بالفساد وسوء إدارة شؤون الدولة.

«الحشد الشعبي»
مع هذا، يؤكد كثيرون أن لإيران حساباتها الخاصة، ويبدو أنها تعمل على تعزيز نفوذ المالكي ضمن ميليشيا «الحشد الشعبي» الشيعية. وفي ضوء هذا الواقع، ثمة من يقول إن المالكي يترقب الانتخابات المقبلة المقررة في العام المقبل (2017)، التي ستجرى على مستوى المحافظات، ثم لاحقًا عام 2018 على مستوى البرلمان، ليحاول استغلال الشعبية الطائفية لـ«الحشد الشعبي» لصالحه. ويرى رماد منصور، الباحث في «تشاتام هاوس» (المعهد الملكي للشؤون الدولية) في العاصمة البريطانية لندن، في حديث إلى «الشرق الأوسط» أنه «من المعقول أن يسعى المالكي إلى تشكيل لجنة برلمانية من الحشد».
الجدير بالذكر، أنه حين بدأت الحكومة العراقية في بغداد «مكافحة» تنظيم داعش عام 2014، وجّه كثير من العراقيين الشيعة النظر إلى إيران طلبًا للمساعدة. وانضوت عشرات من الجماعات المسلحة الشيعية تحت خيمة فرع ميليشياوي سرِّي يتبع الحكومة العراقية أطلق عليه في حينه اسم «الحشد الشعبي»، وتولى نوري المالكي تشكيله حين بدأ تنظيم داعش السيطرة على منطقة الأنبار، في غرب العراق.
ومن ثم، أخذت هذه الميليشيات تنمو، ولا سيما إثر الدعوات التي أطلقها المرجع الشيعي العراقي آية الله علي السيستاني لحمل السلاح بعد سقوط الموصل بين أيدي مسلحي «داعش»، فازداد بشكل كبير عدد الملتحقين بـ«الحشد الشعبي»، الذي على الرغم من حصوله على التمويل من وزارة الداخلية العراقية، كان يخضع للقيادة الإيرانية. واليوم، في الوقت الذي يعتبر فيه كثيرون أن ميليشيا «الحشد الشعبي» منظمة متماسكة قوية تتجمّع تحت لوائها جميع الميليشيات الشيعية الموالية لإيران، فإنها في الحقيقة تعاني من انقسامات كبيرة، ذلك أن بعض فصائلها يتبع إيران والمالكي، وبعضها الآخر يبدو أكثر ميلاً للعراق كوطن وكمصير.

الولاء لإيران
وهنا يشرح الخبير «أن الحشد الشعبي يتبع رئيس الوزراء حيدر العبادي، غير أن هذا الأخير ليست لديه سلطة إلا على الجزء الموالي للعراق من الحشد»، بينما تضم الميليشيات الموالية لإيران، داخل «الحشد» عدة فصائل تحكمها أطراف فاعلة على غرار هادي العامري الذي يرأس «منظمة بدر»، وأبو مهدي المهندس المتهم بأنه العقل المدبر وراء تفجير سفارتي الولايات المتحدة وفرنسا في الكويت عام 1980، وهو قائد ميليشيا «كتائب حزب الله»، وقيس الخزعلي قائد جماعة «عصائب أهل الحق» التي ترعاها إيران.
كذلك فإنه ضمن هذه المجموعات نفسها نجد انقسامات أخرى بين الموالين لإيران والموالين للمالكي، بحيث يرى كثير من الخبراء أن المالكي أقرب إلى جماعة «عصائب أهل الحق»، وإن كانت له علاقات جيدة مع العامري و«كتائب حزب الله». ثم إن هادي العامري معروف بولائه الشديد لإيران، وهو سبق له أن قاتل في الحرب العراقية - الإيرانية خلال عقد الثمانينات من القرن الماضي في صفوف القوات الإيرانية.
ووفق الخبير العراقي نفسه، «من الواضح أن المالكي يعرف جيدًا كيف يستغل هذه الاختلافات. فاليوم تجد القيادات الشيعية نفسها منقسمة وميّالة أكثر باتجاه القرار الذي اتخذه علي السيستاني - أبرز رجال الدين في العراق - بالابتعاد والتزام الصمت، بعدما شعر أن هيبة المرجع الشيعي الأهم تعرضت للإساءة من قبل صبيان أغرار، وأضف إلى ذلك خيبة الأمل التي شعر بها حين اتخذ قرار النزول إلى الشارع، وفشل في حشد الدعم المناسب من القيادات الأخرى». وهنا يقول رناد منصور إن هناك صراعًا يدور «بين المالكي وشخصيات الحشد الموالية له من جهة، والتيار الصدري (بزعامة مقتدى الصدر) من جهة ثانية، وقد يغدو رئيس الوزراء حيدر العبادي ضحية لهذا الصراع».
في السياق نفسه، كان موقع الأخبار العراقي «نقاش» قد أورد أخيرًا أن الضحية التالية للمالكي قد تكون رئيس الوزراء العبادي، وعودة إلى الخبير الذي طلب التكتم على اسمه، فإن «الأمر الوحيد الذي يُبقي العبادي في موقعه حاليًا هو المعركة ضد (داعش) في الموصل». أما موقع «نقاش» فيشير إلى أن المتحدث باسم «لجنة النزاهة النيابية العراقية» عادل نوري كان قد صرّح بأن أعضاء البرلمان الموالين للمالكي كانوا يعدون لاستجواب رئيس الوزراء أيضًا. وأردف الموقع أنه «من المعروف أن المالكي بدأ التفاوض مع ميليشيات الحشد التي لها طموحات سياسية. وهذه الفصائل تمكنت من جمع شعبية كبيرة وقوة عسكرية خلال السنة الماضية، كما أن طموحاتها السياسية لا تخفى على أحد». وفي هذا الصدد يقول الخبير إن المالكي «يتمتع بثروة كبيرة بينما تعاني الفصائل الأخرى من مشكلات اقتصادية مما يعطيه موقعًا متفوقًا عليها».

خطر على العراق
إن مخططات نوري المالكي وغياب السيطرة الحكومية على ميليشيات «الحشد الشعبي» تشكل بالفعل خطرًا على العراق في مرحلة ما بعد «داعش». وخلال السنوات الثماني التي كان فيها المالكي في الحكم، بدا مستأثرًا بالسلطة ويتجاهل البرلمان ويهمِّش أعضاءه، متفردًا في اتخاذ كل القرارات المهمة. كذلك استشرى الفساد المالي والإداري في عهده، وباتت المؤسسات المفترض أن تتحلى بالاستقلالية أو تلك التي تضطلع بمهام إشرافية ورقابية تحت إمرته. وهذا، فضلاً عن إقدامه على تعيين الموالين له في المناصب العليا، مما ألحق ضررًا فادحًا بالجيش العراقي، واعتبُرت هذه التعيينات من قبل كثير من المراقبين سببًا أساسيًا في ظهور «داعش» وتقدمه.
وراهنًا، تشكل الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، وبصفة خاصة «منظمة بدر» و«عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» خطرًا بالغًا على سيادة العراق كدولة، وذلك لأنها لا تستجيب في أكثرها لا للحكومة العراقية ولا للمرجع الشيعي في النجف الأشرف آية الله علي السيستاني. ثم إن «إيران لا تريد الاستقرار في العراق، بما أن ذلك سيحد من سيطرتها على اللاعبين العراقيين»، وفق الخبير. وبالتالي، «إذا نجحت الحكومة في طرد تنظيم داعش من العراق، قد يكون ذلك اليوم الذي سنشهد فيه ولادة مشكلات جديدة عديدة، نظرًا لعدد الميليشيات غير المنضبطة والخلافات والتجاذبات المحتملة داخل الطائفة الشيعية».



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.