سجون «سي آي أيه» حول العالم: أضرار لا يمحوها الزمن

عشرات المعتقلين من خريجي «غوانتانامو» يعانون مشكلات عقلية ونفسية

لطفي بن علي يعيش في كازاخستان ويعاني أمراضا نفسية بسبب أدوات التعذيب الأميركية (نيويورك تايمز)
لطفي بن علي يعيش في كازاخستان ويعاني أمراضا نفسية بسبب أدوات التعذيب الأميركية (نيويورك تايمز)
TT

سجون «سي آي أيه» حول العالم: أضرار لا يمحوها الزمن

لطفي بن علي يعيش في كازاخستان ويعاني أمراضا نفسية بسبب أدوات التعذيب الأميركية (نيويورك تايمز)
لطفي بن علي يعيش في كازاخستان ويعاني أمراضا نفسية بسبب أدوات التعذيب الأميركية (نيويورك تايمز)

قبل أن تسمح الولايات المتحدة باستخدام أساليب مرعبة لاستجواب المعتقلين، كان محامو الحكومة ومسؤولو الاستخبارات على يقين من أن الوسائل التي يتبعونها مع المشتبهين في قضايا الإرهاب ستكون مؤلمة وصادمة وأنها بعيدة تماما عما سمحت به سلطات بلادهم في أي وقت مضى. إلا أنهم انتهوا إلى أن أيًا من تلك الأساليب لن تترك أثرا نفسيا على المدى البعيد. وبعد خمسة عشر عاما ثبت خطأ اعتقادهم.
اليوم في سلوفاكيا، يصف حسين المرفدي ما يعانيه من صداع دائم ونوم متقطع تتخلله أحلام يرى فيها كلابا في زنزانة معتمة. وفي كازاخستان، تسيطر الكوابيس على لطفي بن علي الذي يرى نفسه يصارع الغرق في بئر عميقة. وفي ليبيا، فإن صوت راديو منبعثا من سيارة مسرعة كفيل بإثارة غضب مجيد مختار ساسي، لأنه يذكره بالفترة التي قضاها بسجن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) حيث كان يتعرض لضجيج الموسيقي الصاخبة المتواصل بصفته أحد أساليب التعذيب لحواسه.
هناك أيضا آخرون ممن يقولون إنهم لم يعودوا كما كانوا، حيث يقول المغربي يونس شكوري إنه يخشى الخروج من بيته، لأنه يرى وجوها وسط الزحام يعتقد أنها لنفس حراسه القدامى بمعتقل غوانتانامو، ويعبر عن ذلك بقوله: «أعيش هذا النوع من الرعب. لم أعد إنسانا طبيعيا».
فبعد صنوف العذاب التي ذاقوها في السجون السرية التابعة لـ«سي آي إيه» المنتشرة حول العالم والممارسات التي أجبروا عليها في معتقل غوانتانامو بكوبا، ظهرت على العشرات من المعتقلين السابقين أمراض عقلية مزمنة، بحسب سجلات طبية لم يكشف عنها بعد وسجلات حكومية ومقابلات شخصية أجريت مع معتقلين سابقين وأطباء عسكريين ومدنيين. ظهرت على بعض المعتقلين الأعراض نفسها التي ظهرت على أسرى الحرب الأميركيين الذي تعرضوا للتعذيب قبل ذلك بعقود على يد أكثر أنظمة العالم وحشية.
كان من بين المعتقلين في السجون التابعة للولايات المتحدة بعض ممن اعتقلوا على سبيل الخطأ أو استنادا إلى أدلة ضعيفة تبرأت منها الولايات المتحدة لاحقا. كان هناك أيضا آخرون ممن كانوا جنودا صغار السن لدى طالبان أو «القاعدة» ممن تبين لاحقا أنهم لا يمثلون تهديدا يذكر. في حين كان هناك بعض من عتاة الإرهابيين، ممن يشتبه بتورطهم في التخطيط لهجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، أو تفجير المدمرة الأميركية «كول» عام 2000. وفي حالات كثيرة، وقفت حالتهم العقلية عائقا أمام محاولات تقديمهم للعدالة.. فقد دخل الأميركيون في جدل طويل حول تركة ما بعد أساليب استجواب المتهمين في هجمات الحادي عشر من سبتمبر، حيث تساءل الأميركيون عما إذا كان ذلك يرتقي لدرجة التعذيب أم إن السلطات نجحت بالفعل في استنطاقهم للحصول على المعلومات. وعلى الرغم من استمرار الرئيس أوباما في نقل المعتقلين من معتقل غوانتانامو، فإن المرشح الجمهوري دونالد ترامب يصر على العودة لاستخدام الأساليب القديمة المحظورة نفسها حاليا، مثل تكنيك «محاكاة الغرق»، وهو أسلوب التعذيب الذي ندد به العالم.
وعلى الأقل، فإن نصف العدد البالغ 39 معتقلا الذين مروا ببرنامج «الاستجواب الصارم» على يد «سي آي إيه» - الذي تضمن حرمانهم من النوم، وسكب الماء المثلج عليهم، وضربهم بالحائط، ووضعهم في توابيت بعد تكفينهم أحياء - ظهرت عليهم أعراض أمراض نفسية، وجرى تشخيص حالاتهم على أنها «اضطراب ما بعد الصدمة»، و«جنون العظمة»، و«الاكتئاب» أو «الذهان».
مر كذلك بضع مئات آخرون من السجناء على غوانتانامو، حيث تعرضوا لما يعرف بـ«الحرمان الحسي»، والعزلة، والتهديد باستخدام الكلاب.. وغيرها من الأساليب، ونتيجة لكل ذلك ظهرت عليهم أعراض مرضية خطيرة.
قال بن رودز، نائب مستشار الأمن القومي، إنه «من دون شك، فإن هذه الأساليب تتنافى مع قيمنا نحن الأميركيين، والنتائج المترتبة عليها تمثل تحديا دائما لنا؛ دولةً وأفرادًا قريبين من تلك القضية».
في الحقيقة، لم تدرس حكومة الولايات المتحدة التأثيرات النفسية بعيدة المدى لأساليب الاستجواب غير العادية التي اتبعتها.
ولدى سؤاله عن الضرر النفسي الذي قد يعانيه المعتقلون السابقون على المدى البعيد، أفاد المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية بأن المعتقلين كانوا يتلقون معاملة حسنة ورعاية ممتازة، وهو التصريح الذي رفض المتحدث الرسمي باسم «سي آي إيه» التعليق عليه.
اعتمد هذا الموضوع على عدد كبير من الحالات بصفتهم عينات، وعلى التدقيق في مئات الوثائق، كسجلات المحاكم، وتقارير اللجان العسكرية، والفحوصات الطبية. وأجرت صحيفة الـ«تايمز»، أكثر من مائة مقابلة شخصية، بعضها مع معتقلين سابقين في 10 دول. غير أنه من المستحيل تقديم تقرير واف، لأن كثيرا من المعتقلين السابقين لم يعرضوا نهائيا على أطباء أو محامين خارجيين، ولذلك، فإن أي سجلات عن المعاملة التي تلقوها أثناء الاستجواب وعن حالتهم الصحية، تبقى موضع جدل.
ويحذر الباحثون من أنه من الصعب تحديد السبب والنتيجة في الأمراض العقلية، فقد تعرض بعض معتقلي «سي آي إيه» والجيش الأميركي لمشكلات نفسية ربما جعلتهم عرضة لمشكلات نفسية على المدى البعيد، في حين أظهر آخرون مرونة كبيرة في التعامل. يتسبب الاحتجاز غير محدد المدة من دون محاكمة الذي اخترعته الولايات المتحدة في ضغوط نفسية كبيرة. وأفاد استشاريون طبيون خارجيون ومسؤولون حكوميون سابقون بأن «ثمة علاقة تربط بين الممارسات الفظّة والحالة النفسية (للمعتقلين السابقين)».
بيد أن القائمين على العلاج النفسي للمعتقلين بسجن غوانتانامو لم يكلفوا أنفسهم عناء سؤال المعتقلين عما حدث لهم أثناء الاستجواب، رغم أن بعض الأطباء النفسيين لاحظوا آثار الضرر النفسي بعد الاستجواب مباشرة.
بيد أن ألبرت شيمكوس، نقيب متقاعد في البحرية الأميركية عمل ضابطا بمستشفى غوانتانامو في السنوات الأولى لإنشائه، عبر عن ندمه على عدم سؤاله المعتقلين عما كانوا يتعرضون له، قائلا: «كان هناك تعارض بين مهامنا وواجبنا تجاه مرضانا، وواجبنا بصفتنا جنودا تجاه مسؤولي السجن».
فبعد الإفراج عن السجناء من المعتقل الأميركي، لم يجد البعض أي مساعدة أو إغاثة، فمثلا تعرض التنزاني محمد عبد الله صالح الأسد وغيره، للاختطاف والاستجواب والسجن، قبل أن يعاد إلى بيته ثانية من دون إبداء أسباب وفي حالة ذعر شديدة من عملية الاستجواب، والعزلة، والخجل من الأذى الجنسي، والإجبار على التعري، والتعرض لفحص جسدي مخجل.
مات أسد في مايو (أيار) الماضي بعد أن قضى أكثر من عام كامل متنقلا بين عدد من المعتقلات التابعة لـ«سي آي إيه». فبحسب اعترافات أرملته المدونة في سجلات «اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان»، فقد اعترف لها سرا، «كأي حديث خاص بين الزوجة وزوجته، بأنه تعرض للامتهان، وأن هذا الإحساس لم يفارقه أبدا».

ممسحة بشرية
في غرفة باردة بمعتقل غوانتانامو كانت مخصصة للاستجواب، تقابل ستيفن زانكيس، طبيب نفسي عسكري سابق، مع جندي سابق في سن الطفولة كان يعمل مع تنظيم القاعدة يدعى عمر خضر. كان هذا في ديسمبر (كانون الأول). وكان خضر (كندي الجنسية)، 15 عاما، أصيب وألقي القبض عليه بعد تبادل لإطلاق النار في مجمع سكني إرهابي مشتبه به في أفغانستان حيث أرسله والده، عضو «القاعدة»، للترجمة للمقاتلين الأجانب، وفق عمر. بعد ذلك بسنوات، جرى إدانة عمر بارتكاب جرائم حرب، منها إلقاء قنبلة يدوية قتلت طبيبا بالجيش الأميركي. وكشف عمر أنه بال على نفسه أثناء أحد التحقيقات، فما كان من المحققين سوى جره على الأرض واستخدموه ممسحةً. كان عمر حينها أصغر معتقل في غوانتانامو.
وبحسب إفادة عمر للمحامين، فقد تعرض عمر للحرمان من النوم، وتعرض للبصق على وجهه، والتهديد بالاغتصاب، وأنه بعد خروجه من المعتقل «بات يرى في أحلامه أنه ملقى في قاع بئر وأنه يختنق».

إحساس دائم بالغرق
لا يستطيع الليبي محمد بن سعود أن يتذكر تحديدا متى بدأ الأميركان في سكب الماء المثلج فوقه لتعذيبه، فقد كان معتقل «سي آي إيه» في أفغانستان، المعروف باسم «حفرة الملح»، معتم دائما، ولذلك لم يكن يشعر بالأيام وهي تمر. أطلق الأميركان اسم «الإغراق بالماء»، لكن المصطلح لا يوحي بما تتضمنه العملية من تفاصيل مؤلمة؛ فقد أفاد الليبي محمد بن سعود في وثائق المحكمة وفي المقابلات الشخصية بكيف أجبروه على خلع ملابسه، ووضع يديه المقيدتين فوق رأسه والوقوف في إناء بلاستيكي طويل بغطاء أحيانا. كان أحد مسؤولي «سي آي إيه» يسكب الماء المثلج فوق رأسه، في حين يقوم اثنان آخران برش الماء البارد فوق جسده العاري الذي أخذ يرتجف، وتعرض لهذا التعذيب عدة مرات. كان الليبي محمد ضمن أول من أرسلوا إلى سلسلة معتقلات «سي آي إيه» المنتشرة في أفغانستان، وتايلاند، وبولندا، ورومانيا، ولتوانيا. وأفاد بأنه قال للمحققين الأميركان مرارا وتكرارا إنه ليس عدوهم، وإنه ليبي سافر إلى باكستان عام 1991 وانضم إلى حركة مسلحة تهدف إلى الإطاحة بالديكتاتور معمر القذافي. غير أن السلطات الباكستانية والمسؤولين الأميركان اقتحموا منزله عام 2003، إلا أنه أنكر صلته بأسامة بن لادن أو أي من أعضاء «القاعدة».
وفي عام 2004، أعادته «سي آي إيه» إلى ليبيا التي اعتقلته إلى أن ساعدت الولايات المتحدة ليبيا في الإطاحة بحكومة القذافي بعد ذلك بسبع سنوات. وفي مقابلات شخصية، أفاد وغيره من الليبيين، بأن المعاملة التي تلقوها من سجاني نظام القذافي كانت أفضل من تلك التي تلقوها من سجاني «سي آي إيه».
واليوم أصبح الليبي محمد بن سعود، 47 عاما، حرا طليقا، لكنه قال إنه في حالة خوف دائم من الغد، وإنه متشكك دائما من نفسه، وإنه يعاني كثيرا في اتخاذ حتى أبسط القرارات، وإن مزاجه يتقلب بسرعة وبشكل دراماتيكي.
ويحكي الليبي كثيرا في مكالمة هاتفية من منزله في مصراتة أن أطفاله كثيرا ما يسألونه: «أبي لماذا غضبت فجأة؟ لماذا أنت عبوس الآن؟ هل فعلنا ما يضايقك؟»، ويفسر السبب في ذلك بقوله إن الأميركان كثيرا ما كبلوه في أوضاع مثنية، وأحيانا كانوا يضعونه في صندوق بحجم أقل من التابوت ثم يحكمون غلق التابوت، وكثيرا ما كانوا يدفعونه إلى الحائط ويعلقونه في السقف في سجن تهزه موسيقي الروك الصاخبة. وأضاف: «كيف أشرح مثل تلك الأشياء للأطفال؟».
أقام الليبي محمد، ورفيقه السابق في معتقل «سي آي إيه»، وزميل ثالث، دعوى قضائية ضد الدكتور ميتشل والدكتور جيسين في المحاكم الفيدرالية، بتهمة انتهاك حقوقه وتعذيبه، وهي التهم التي أنكرها الطبيبان اللذان أفادا بأنهما لم يلعبا أي دور في عمليات الاستجواب.
يعد الليبي محمد أحد من شملهم تقرير لجنة الاستخبارات بالكونغرس الأميركي عام 2014 بصفته أحد ضحايا انتهاكات وأساليب تحقيق «سي آي إيه».

يونس شاكوري
أطلق سراحه بعد اعتقال لأكثر من 13 عاما من دون محاكمة. أفاد شاكوري بأنه شاهد الأطباء النفسيين في غوانتانامو، لكنه لا يثق بهم، فهو وغيره يرون أن الأطباء كانوا يبلغون المحققين بجميع المعلومات التي تخص حالتهم، وأنه في إحدى المرات أعطى الطبيب دواء مضادا للذهان لأحد المعتقلين، وطلب من المحقق أن يستغل الأعراض الجانبية، وهي الجوع، وفق طبيب آخر اطلع على السجلات، رغم أن المعلومات الطبية يجب أن تظل في طي الكتمان. لكن في حقيقة الأمر الوضع في المعتقل كان ينطوي على كثير من التناقض الذي يجمع بين واجب تقديم الرعاية الصحية، وفي الوقت نفسه انتزاع المعلومات من المعتقلين.
ومن الصعب قياس حدة المشكلات النفسية التي تسبب فيها غوانتانامو لمعتقليه، أو حتى تحديد عدد المرضى. لكن كثيرا من القصص ظهرت على السطح مع مرور السنين.
فقد أفاد باندي ديفيدسون، ضابط متقاعد في البحرية الأميركية عمل طبيبا نفسيا وتولى علاج المعتقلين في غوانتانامو منذ يوليو (تموز) حتى أكتوبر (تشرين الأول) 2003، في مقابلة شخصية، بأن غالبية المعتقلين كانوا في صحة جيدة، مضيفا: «لكن هناك بالتأكيد كثيرا من الحالات العقلية. كان هناك كثير ممن ظهرت عليهم أعراض (اضطراب ما بعد الصدمة). وكان هناك من عانوا قلة النوم والكوابيس، ومن عانوا عدم التركيز، والاكتئاب والاضطراب».
كتب طبيبان نفسيان عملا بالمعتقل أن نحو 11 في المائة من المعتقلين تلقوا علاجا نفسيا، وهي نسبة أقل من تلك الموجودة في السجون المدنية أو بين أسرى الحرب الأميركيين السابقين. غير أن الطبيبين أفادا بأن أطباء غوانتانامو واجهوا تحديات في تشخيص الأمراض العقلية؛ أهمها صعوبة بناء الثقة، حيث رفض كثير من المعتقلين الخضوع للكشف الطبي وتلقي العلاج، وهو ما تسبب في ارتفاع أعداد الحالات.
بعد ذلك بخمس سنوات، نشر الطبيبان الجنرال زانكيس، وفينيسنت أكبينو المدير الطبي لمنظمة «أطباء من أجل حقوق الإنسان» بحثًا شمل 9 معتقلين ظهرت عليهم أعراض مرض نفسي بعد تعرضهم لأساليب استجواب عنيفة، مثل وضع خرطوم ماء في الفم بالقوة، ووضع الرأس في فتحة المرحاض، والتهديد بالقتل من قبل سجانيهم الأميركان.
واعتمد الطبيبان في بحثهما على تقارير الأطباء، وكذلك الاستجوابات التي ضمتها ملفات السجناء الذين كانوا ضمن أول الوافدين للمعتقل بعد إنشائه.

* خدمة «نيويورك تايمز»



واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
TT

واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)

بعد عام على هجمات 7 أكتوبر (تشرين الأول)، تتخبط منطقة الشرق الأوسط في موجة تصعيد مستمر، من دون أي بوادر حلحلة في الأفق. فمن الواضح أن إسرائيل مصرة على الخيارات العسكرية التصعيدية، ضاربة بعرض الحائط كل المبادرات الدولية للتهدئة، ومن الواضح أيضاً أن الولايات المتحدة وإدارة الرئيس جو بايدن، إما عاجزتان عن التأثير على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وإما غير مستعدتين لممارسة ضغوطات كافية عليه للتجاوب مع دعواتها لوقف التصعيد. هذا في وقت تعيش فيه الولايات المتحدة موسماً انتخاباً ساخناً تتمحور فيه القرارات حول كيفية تأثيرها على السباق الرئاسي.

السؤال الأبرز المطروح حالياً هو عما إذا كان هناك استراتيجية أميركية ما حيال ملف الشرق الأوسط، انطلاقاً من الحرب الدائرة منذ عام. فقد واجهت الإدارة الحالية انتقادات حادة بسبب غياب منطقة الشرق الأوسط عن لائحة أولوياتها منذ تسلم بايدن السلطة. ولكن الأمور منذ 7 أكتوبر 2023 تغيرت جذرياً.

تحدثت «الشرق الأوسط» إلى غيث العمري، المستشار السابق لفريق المفاوضات الفلسطيني خلال محادثات الوضع الدائم وكبير الباحثين في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الذي رأى أن الإدارة الأميركية سعت فعلياً إلى عدم إعطاء الأولوية لمنطقة الشرق الأوسط، وحوّلت تركيزها ومواردها إلى أولويات أخرى. ويقول العمري: «جاءت هجمات 7 أكتوبر لتفاجئ الولايات المتحدة التي لم تكن مستعدة لها، والتي افتقرت لما يلزم لمواجهة أزمة بهذا الحجم». ويرى العمري أن الولايات المتحدة اعتمدت منذ السابع من أكتوبر وحتى تاريخنا هذا على سياسة «مجزأة مبنية على رد الفعل»، مضيفاً: «إنها لم تتمكن من رسم المشهد الاستراتيجي أو ممارسة النفوذ على حلفائها الإقليميين».

امرأة تعرض صورة لجنود إسرائيليين بعد استعادتهم لموقع كفرعزّة إثر هجمات 7 أكتوبر 2023 (د.ب.أ)

تحدثت «الشرق الأوسط» أيضاً إلى جون الترمان، المسؤول السابق في وزارة الخارجية ومدير برنامج الشرق الأوسط في معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية، فقال: «فشلت إدارة بايدن بالتأكيد في تحقيق العديد من أهدافها في العام الماضي، ولكن في الوقت نفسه لم تندلع حرب إقليمية كبيرة بعد». ويعرب الترمان عن «دهشته» من أنه ورغم «الإخفاقات»، فإن الولايات المتحدة «لا تزال هي النقطة المحورية للدبلوماسية الإقليمية».

وفيما تدافع إدارة بايدن عن أدائها بالقول إنها أظهرت الردع من خلال إرسال تعزيزات أميركية إلى المنطقة، إلا أن العمري يختلف مع هذه المقاربة، لافتاً إلى أن نشر هذه الأصول العسكرية ربما ساهم في المراحل المبكرة من الحرب «في ردع إيران و(حزب الله) من الانخراط في تصعيد كبير، إلا أنه فشل في ردعهما إلى جانب وكلائهما كالحوثيين من الانخراط في أنشطة خبيثة على مستوى منخفض». وأضاف: «لقد تسبب ذلك في زيادة الضغط، وأدى في النهاية إلى انتقال الحرب إلى لبنان وربما مناطق أخرى».

الدبلوماسية «هي الحل»

في خضم التصعيد، تبقى إدارة بايدن مصرة على تكرار التصريحات نفسها من أن الحل الدبلوماسي هو الحل الوحيد، محذرة من توسع رقعة الصراع في المنطقة. وعن ذلك يقول الترمان إن بايدن يريد حلولاً دبلوماسية؛ «لأن الحلول العسكرية تتطلب هزيمة شاملة لأحد الأطراف. ونظراً للرّهانات العالية لكلا الجانبين، فإن الحل العسكري بعيد المنال، وسينجم عنه المزيد من الموت والدمار أكثر بكثير مما شهدناه حتى الآن».

أما العمري فيرى أن التركيز على الدبلوماسية هو أمر مناسب؛ لأنه «في نهاية المطاف، تنتهي الحروب وستكون هناك حاجة إلى حل دبلوماسي»، مضيفاً: «عندما يأتي (اليوم التالي)، يجب أن تكون الأسس لترتيبات دبلوماسية جاهزة».

إلا أن العمري يحذر في الوقت نفسه من أن الدبلوماسية وحدها غير كافية إذا لم تكن مدعومة بقوة واضحة، بما في ذلك القوة العسكرية، ويفسر ذلك قائلاً: «إذا لم تتمكن الولايات المتحدة من إقناع خصومها بأنها مستعدة لاستخدام قوتها لإيذائهم، وحلفائها بأنها مستعدة لفعل ما يلزم لمساعدتهم، فإن نفوذها تجاه الطرفين سيكون محدوداً».

تجميد الأسلحة لإسرائيل

سقوط أعداد هائلة من المدنيين في حربي غزة ولبنان منذ بدء العمليات الإسرائيلية للرد على هجمات 7 أكتوبر 2023، دفع الكثيرين إلى دعوة بايدن لوضع قيود على الأسلحة الأميركية لإسرائيل، بهدف ممارسة نوع من الضغوط على نتنياهو لوقف التصعيد، لكن الترمان يرفض النظرة القائلة بأن تجميد الأسلحة سيمهد للحل، ويفسر قائلاً: «إذا اعتمدت إدارة بايدن هذه المقاربة، أتوقع أن يعترض الكونغرس بشدة، وقد تكون النتيجة عرضاً للضعف والهشاشة في سياسة البيت الأبيض، بدلاً من صورة تقديم حلول». ويحذّر الترمان من أن خطوة من هذا النوع من شأنها كذلك أن تدفع إسرائيل إلى «الشعور بمزيد من العزلة التي قد تولّد بالتالي شعوراً أكبر بعدم الالتزام بأي قيود».

الرئيس الأميركي جو بايدن خارجاً من البيت الأبيض ليستقل الطائرة إلى نيويورك (أ.ب)

ويوافق العمري مع هذه المقاربة، مشيراً إلى أنه «من غير الواضح أن أي وسيلة ضغط ستنجح»، فيقول: «إسرائيل تشعر بأنها مهددة وجودياً، مما يجعلها أقل استعداداً لتقبل أي تأثير خارجي». ويوفر العمري نظرة شاملة عن مقاربة الإدارة الأميركية في غزة ولبنان التي تحد من الضغوط التي ترغب في ممارستها على إسرائيل، فيفسر قائلاً: «رغم أن الولايات المتحدة غير راضية عن بعض جوانب سير الحرب، خصوصاً فيما يتعلق بالخسائر البشرية بين المدنيين، فإنها تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بعد السابع من أكتوبر». لهذا السبب يشير العمري إلى أن الولايات المتحدة تحتاج إلى تحقيق توازن في الضغط بطرق يمكن أن تغير سلوك إسرائيل «دون تقييد قدرتها على تحقيق الهدف المشروع المتمثل في هزيمة (حماس)»، مضيفاً: «هذا التوازن ليس سهلاً».

بالإضافة إلى ذلك، يذكّر العمري بطبيعة العلاقة التاريخية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي «تتجاوز القضية الإسرائيلية - الفلسطينية»، فيقول: «الولايات المتحدة تستفيد استراتيجياً من هذه العلاقة، بما في ذلك الفوائد المتعلقة بالتهديدات الإقليمية الأخرى مثل الأنشطة الإيرانية. وبذلك، فإن الولايات المتحدة لديها مصالحها الاستراتيجية الخاصة التي يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار».

أي حل في نهاية النفق

رغم التصعيد المستمر، تعمل الولايات المتحدة على بناء استراتيجية تضمن عدم خروج الأمور عن السيطرة، ودخول إيران على خط المواجهة، ويشدد العمري على أن «الأولوية الآن هي ضمان بقاء إيران خارج هذه الحرب»، مشيراً إلى أن هذا الأمر ضروري للحد من انتشار الصراع، و«لإضعاف مصداقية إيران الإقليمية ونفوذها مع وكلائها»، لكنه يرى في الوقت نفسه أنه «لا يمكن تحقيق مثل هذه النتيجة إلا إذا كانت إيران مقتنعة بأن الولايات المتحدة مستعدة لاستخدام العمل العسكري».

عنصران من الدفاع المدني الفلسطيني في دير البلح في غزة (أ.ف.ب)

أما الترمان الذي يؤكد ضرورة استمرار الولايات المتحدة «في تقديم مسار للمضي قدماً لجميع الأطراف»، فيحذّر من أن هذا لا يعني أنها يجب أن «تحمي الأطراف من العواقب الناجمة عن أفعالهم»، ويختم قائلاً: «هناك مفهوم يسمى (الخطر الأخلاقي)، يعني أن الناس يميلون إلى اتخاذ سلوكيات أكثر خطورة إذا اعتقدوا أن الآخرين سيحمونهم من الخسارة».