سجون «سي آي أيه» حول العالم: أضرار لا يمحوها الزمن

عشرات المعتقلين من خريجي «غوانتانامو» يعانون مشكلات عقلية ونفسية

لطفي بن علي يعيش في كازاخستان ويعاني أمراضا نفسية بسبب أدوات التعذيب الأميركية (نيويورك تايمز)
لطفي بن علي يعيش في كازاخستان ويعاني أمراضا نفسية بسبب أدوات التعذيب الأميركية (نيويورك تايمز)
TT

سجون «سي آي أيه» حول العالم: أضرار لا يمحوها الزمن

لطفي بن علي يعيش في كازاخستان ويعاني أمراضا نفسية بسبب أدوات التعذيب الأميركية (نيويورك تايمز)
لطفي بن علي يعيش في كازاخستان ويعاني أمراضا نفسية بسبب أدوات التعذيب الأميركية (نيويورك تايمز)

قبل أن تسمح الولايات المتحدة باستخدام أساليب مرعبة لاستجواب المعتقلين، كان محامو الحكومة ومسؤولو الاستخبارات على يقين من أن الوسائل التي يتبعونها مع المشتبهين في قضايا الإرهاب ستكون مؤلمة وصادمة وأنها بعيدة تماما عما سمحت به سلطات بلادهم في أي وقت مضى. إلا أنهم انتهوا إلى أن أيًا من تلك الأساليب لن تترك أثرا نفسيا على المدى البعيد. وبعد خمسة عشر عاما ثبت خطأ اعتقادهم.
اليوم في سلوفاكيا، يصف حسين المرفدي ما يعانيه من صداع دائم ونوم متقطع تتخلله أحلام يرى فيها كلابا في زنزانة معتمة. وفي كازاخستان، تسيطر الكوابيس على لطفي بن علي الذي يرى نفسه يصارع الغرق في بئر عميقة. وفي ليبيا، فإن صوت راديو منبعثا من سيارة مسرعة كفيل بإثارة غضب مجيد مختار ساسي، لأنه يذكره بالفترة التي قضاها بسجن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) حيث كان يتعرض لضجيج الموسيقي الصاخبة المتواصل بصفته أحد أساليب التعذيب لحواسه.
هناك أيضا آخرون ممن يقولون إنهم لم يعودوا كما كانوا، حيث يقول المغربي يونس شكوري إنه يخشى الخروج من بيته، لأنه يرى وجوها وسط الزحام يعتقد أنها لنفس حراسه القدامى بمعتقل غوانتانامو، ويعبر عن ذلك بقوله: «أعيش هذا النوع من الرعب. لم أعد إنسانا طبيعيا».
فبعد صنوف العذاب التي ذاقوها في السجون السرية التابعة لـ«سي آي إيه» المنتشرة حول العالم والممارسات التي أجبروا عليها في معتقل غوانتانامو بكوبا، ظهرت على العشرات من المعتقلين السابقين أمراض عقلية مزمنة، بحسب سجلات طبية لم يكشف عنها بعد وسجلات حكومية ومقابلات شخصية أجريت مع معتقلين سابقين وأطباء عسكريين ومدنيين. ظهرت على بعض المعتقلين الأعراض نفسها التي ظهرت على أسرى الحرب الأميركيين الذي تعرضوا للتعذيب قبل ذلك بعقود على يد أكثر أنظمة العالم وحشية.
كان من بين المعتقلين في السجون التابعة للولايات المتحدة بعض ممن اعتقلوا على سبيل الخطأ أو استنادا إلى أدلة ضعيفة تبرأت منها الولايات المتحدة لاحقا. كان هناك أيضا آخرون ممن كانوا جنودا صغار السن لدى طالبان أو «القاعدة» ممن تبين لاحقا أنهم لا يمثلون تهديدا يذكر. في حين كان هناك بعض من عتاة الإرهابيين، ممن يشتبه بتورطهم في التخطيط لهجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، أو تفجير المدمرة الأميركية «كول» عام 2000. وفي حالات كثيرة، وقفت حالتهم العقلية عائقا أمام محاولات تقديمهم للعدالة.. فقد دخل الأميركيون في جدل طويل حول تركة ما بعد أساليب استجواب المتهمين في هجمات الحادي عشر من سبتمبر، حيث تساءل الأميركيون عما إذا كان ذلك يرتقي لدرجة التعذيب أم إن السلطات نجحت بالفعل في استنطاقهم للحصول على المعلومات. وعلى الرغم من استمرار الرئيس أوباما في نقل المعتقلين من معتقل غوانتانامو، فإن المرشح الجمهوري دونالد ترامب يصر على العودة لاستخدام الأساليب القديمة المحظورة نفسها حاليا، مثل تكنيك «محاكاة الغرق»، وهو أسلوب التعذيب الذي ندد به العالم.
وعلى الأقل، فإن نصف العدد البالغ 39 معتقلا الذين مروا ببرنامج «الاستجواب الصارم» على يد «سي آي إيه» - الذي تضمن حرمانهم من النوم، وسكب الماء المثلج عليهم، وضربهم بالحائط، ووضعهم في توابيت بعد تكفينهم أحياء - ظهرت عليهم أعراض أمراض نفسية، وجرى تشخيص حالاتهم على أنها «اضطراب ما بعد الصدمة»، و«جنون العظمة»، و«الاكتئاب» أو «الذهان».
مر كذلك بضع مئات آخرون من السجناء على غوانتانامو، حيث تعرضوا لما يعرف بـ«الحرمان الحسي»، والعزلة، والتهديد باستخدام الكلاب.. وغيرها من الأساليب، ونتيجة لكل ذلك ظهرت عليهم أعراض مرضية خطيرة.
قال بن رودز، نائب مستشار الأمن القومي، إنه «من دون شك، فإن هذه الأساليب تتنافى مع قيمنا نحن الأميركيين، والنتائج المترتبة عليها تمثل تحديا دائما لنا؛ دولةً وأفرادًا قريبين من تلك القضية».
في الحقيقة، لم تدرس حكومة الولايات المتحدة التأثيرات النفسية بعيدة المدى لأساليب الاستجواب غير العادية التي اتبعتها.
ولدى سؤاله عن الضرر النفسي الذي قد يعانيه المعتقلون السابقون على المدى البعيد، أفاد المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية بأن المعتقلين كانوا يتلقون معاملة حسنة ورعاية ممتازة، وهو التصريح الذي رفض المتحدث الرسمي باسم «سي آي إيه» التعليق عليه.
اعتمد هذا الموضوع على عدد كبير من الحالات بصفتهم عينات، وعلى التدقيق في مئات الوثائق، كسجلات المحاكم، وتقارير اللجان العسكرية، والفحوصات الطبية. وأجرت صحيفة الـ«تايمز»، أكثر من مائة مقابلة شخصية، بعضها مع معتقلين سابقين في 10 دول. غير أنه من المستحيل تقديم تقرير واف، لأن كثيرا من المعتقلين السابقين لم يعرضوا نهائيا على أطباء أو محامين خارجيين، ولذلك، فإن أي سجلات عن المعاملة التي تلقوها أثناء الاستجواب وعن حالتهم الصحية، تبقى موضع جدل.
ويحذر الباحثون من أنه من الصعب تحديد السبب والنتيجة في الأمراض العقلية، فقد تعرض بعض معتقلي «سي آي إيه» والجيش الأميركي لمشكلات نفسية ربما جعلتهم عرضة لمشكلات نفسية على المدى البعيد، في حين أظهر آخرون مرونة كبيرة في التعامل. يتسبب الاحتجاز غير محدد المدة من دون محاكمة الذي اخترعته الولايات المتحدة في ضغوط نفسية كبيرة. وأفاد استشاريون طبيون خارجيون ومسؤولون حكوميون سابقون بأن «ثمة علاقة تربط بين الممارسات الفظّة والحالة النفسية (للمعتقلين السابقين)».
بيد أن القائمين على العلاج النفسي للمعتقلين بسجن غوانتانامو لم يكلفوا أنفسهم عناء سؤال المعتقلين عما حدث لهم أثناء الاستجواب، رغم أن بعض الأطباء النفسيين لاحظوا آثار الضرر النفسي بعد الاستجواب مباشرة.
بيد أن ألبرت شيمكوس، نقيب متقاعد في البحرية الأميركية عمل ضابطا بمستشفى غوانتانامو في السنوات الأولى لإنشائه، عبر عن ندمه على عدم سؤاله المعتقلين عما كانوا يتعرضون له، قائلا: «كان هناك تعارض بين مهامنا وواجبنا تجاه مرضانا، وواجبنا بصفتنا جنودا تجاه مسؤولي السجن».
فبعد الإفراج عن السجناء من المعتقل الأميركي، لم يجد البعض أي مساعدة أو إغاثة، فمثلا تعرض التنزاني محمد عبد الله صالح الأسد وغيره، للاختطاف والاستجواب والسجن، قبل أن يعاد إلى بيته ثانية من دون إبداء أسباب وفي حالة ذعر شديدة من عملية الاستجواب، والعزلة، والخجل من الأذى الجنسي، والإجبار على التعري، والتعرض لفحص جسدي مخجل.
مات أسد في مايو (أيار) الماضي بعد أن قضى أكثر من عام كامل متنقلا بين عدد من المعتقلات التابعة لـ«سي آي إيه». فبحسب اعترافات أرملته المدونة في سجلات «اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان»، فقد اعترف لها سرا، «كأي حديث خاص بين الزوجة وزوجته، بأنه تعرض للامتهان، وأن هذا الإحساس لم يفارقه أبدا».

ممسحة بشرية
في غرفة باردة بمعتقل غوانتانامو كانت مخصصة للاستجواب، تقابل ستيفن زانكيس، طبيب نفسي عسكري سابق، مع جندي سابق في سن الطفولة كان يعمل مع تنظيم القاعدة يدعى عمر خضر. كان هذا في ديسمبر (كانون الأول). وكان خضر (كندي الجنسية)، 15 عاما، أصيب وألقي القبض عليه بعد تبادل لإطلاق النار في مجمع سكني إرهابي مشتبه به في أفغانستان حيث أرسله والده، عضو «القاعدة»، للترجمة للمقاتلين الأجانب، وفق عمر. بعد ذلك بسنوات، جرى إدانة عمر بارتكاب جرائم حرب، منها إلقاء قنبلة يدوية قتلت طبيبا بالجيش الأميركي. وكشف عمر أنه بال على نفسه أثناء أحد التحقيقات، فما كان من المحققين سوى جره على الأرض واستخدموه ممسحةً. كان عمر حينها أصغر معتقل في غوانتانامو.
وبحسب إفادة عمر للمحامين، فقد تعرض عمر للحرمان من النوم، وتعرض للبصق على وجهه، والتهديد بالاغتصاب، وأنه بعد خروجه من المعتقل «بات يرى في أحلامه أنه ملقى في قاع بئر وأنه يختنق».

إحساس دائم بالغرق
لا يستطيع الليبي محمد بن سعود أن يتذكر تحديدا متى بدأ الأميركان في سكب الماء المثلج فوقه لتعذيبه، فقد كان معتقل «سي آي إيه» في أفغانستان، المعروف باسم «حفرة الملح»، معتم دائما، ولذلك لم يكن يشعر بالأيام وهي تمر. أطلق الأميركان اسم «الإغراق بالماء»، لكن المصطلح لا يوحي بما تتضمنه العملية من تفاصيل مؤلمة؛ فقد أفاد الليبي محمد بن سعود في وثائق المحكمة وفي المقابلات الشخصية بكيف أجبروه على خلع ملابسه، ووضع يديه المقيدتين فوق رأسه والوقوف في إناء بلاستيكي طويل بغطاء أحيانا. كان أحد مسؤولي «سي آي إيه» يسكب الماء المثلج فوق رأسه، في حين يقوم اثنان آخران برش الماء البارد فوق جسده العاري الذي أخذ يرتجف، وتعرض لهذا التعذيب عدة مرات. كان الليبي محمد ضمن أول من أرسلوا إلى سلسلة معتقلات «سي آي إيه» المنتشرة في أفغانستان، وتايلاند، وبولندا، ورومانيا، ولتوانيا. وأفاد بأنه قال للمحققين الأميركان مرارا وتكرارا إنه ليس عدوهم، وإنه ليبي سافر إلى باكستان عام 1991 وانضم إلى حركة مسلحة تهدف إلى الإطاحة بالديكتاتور معمر القذافي. غير أن السلطات الباكستانية والمسؤولين الأميركان اقتحموا منزله عام 2003، إلا أنه أنكر صلته بأسامة بن لادن أو أي من أعضاء «القاعدة».
وفي عام 2004، أعادته «سي آي إيه» إلى ليبيا التي اعتقلته إلى أن ساعدت الولايات المتحدة ليبيا في الإطاحة بحكومة القذافي بعد ذلك بسبع سنوات. وفي مقابلات شخصية، أفاد وغيره من الليبيين، بأن المعاملة التي تلقوها من سجاني نظام القذافي كانت أفضل من تلك التي تلقوها من سجاني «سي آي إيه».
واليوم أصبح الليبي محمد بن سعود، 47 عاما، حرا طليقا، لكنه قال إنه في حالة خوف دائم من الغد، وإنه متشكك دائما من نفسه، وإنه يعاني كثيرا في اتخاذ حتى أبسط القرارات، وإن مزاجه يتقلب بسرعة وبشكل دراماتيكي.
ويحكي الليبي كثيرا في مكالمة هاتفية من منزله في مصراتة أن أطفاله كثيرا ما يسألونه: «أبي لماذا غضبت فجأة؟ لماذا أنت عبوس الآن؟ هل فعلنا ما يضايقك؟»، ويفسر السبب في ذلك بقوله إن الأميركان كثيرا ما كبلوه في أوضاع مثنية، وأحيانا كانوا يضعونه في صندوق بحجم أقل من التابوت ثم يحكمون غلق التابوت، وكثيرا ما كانوا يدفعونه إلى الحائط ويعلقونه في السقف في سجن تهزه موسيقي الروك الصاخبة. وأضاف: «كيف أشرح مثل تلك الأشياء للأطفال؟».
أقام الليبي محمد، ورفيقه السابق في معتقل «سي آي إيه»، وزميل ثالث، دعوى قضائية ضد الدكتور ميتشل والدكتور جيسين في المحاكم الفيدرالية، بتهمة انتهاك حقوقه وتعذيبه، وهي التهم التي أنكرها الطبيبان اللذان أفادا بأنهما لم يلعبا أي دور في عمليات الاستجواب.
يعد الليبي محمد أحد من شملهم تقرير لجنة الاستخبارات بالكونغرس الأميركي عام 2014 بصفته أحد ضحايا انتهاكات وأساليب تحقيق «سي آي إيه».

يونس شاكوري
أطلق سراحه بعد اعتقال لأكثر من 13 عاما من دون محاكمة. أفاد شاكوري بأنه شاهد الأطباء النفسيين في غوانتانامو، لكنه لا يثق بهم، فهو وغيره يرون أن الأطباء كانوا يبلغون المحققين بجميع المعلومات التي تخص حالتهم، وأنه في إحدى المرات أعطى الطبيب دواء مضادا للذهان لأحد المعتقلين، وطلب من المحقق أن يستغل الأعراض الجانبية، وهي الجوع، وفق طبيب آخر اطلع على السجلات، رغم أن المعلومات الطبية يجب أن تظل في طي الكتمان. لكن في حقيقة الأمر الوضع في المعتقل كان ينطوي على كثير من التناقض الذي يجمع بين واجب تقديم الرعاية الصحية، وفي الوقت نفسه انتزاع المعلومات من المعتقلين.
ومن الصعب قياس حدة المشكلات النفسية التي تسبب فيها غوانتانامو لمعتقليه، أو حتى تحديد عدد المرضى. لكن كثيرا من القصص ظهرت على السطح مع مرور السنين.
فقد أفاد باندي ديفيدسون، ضابط متقاعد في البحرية الأميركية عمل طبيبا نفسيا وتولى علاج المعتقلين في غوانتانامو منذ يوليو (تموز) حتى أكتوبر (تشرين الأول) 2003، في مقابلة شخصية، بأن غالبية المعتقلين كانوا في صحة جيدة، مضيفا: «لكن هناك بالتأكيد كثيرا من الحالات العقلية. كان هناك كثير ممن ظهرت عليهم أعراض (اضطراب ما بعد الصدمة). وكان هناك من عانوا قلة النوم والكوابيس، ومن عانوا عدم التركيز، والاكتئاب والاضطراب».
كتب طبيبان نفسيان عملا بالمعتقل أن نحو 11 في المائة من المعتقلين تلقوا علاجا نفسيا، وهي نسبة أقل من تلك الموجودة في السجون المدنية أو بين أسرى الحرب الأميركيين السابقين. غير أن الطبيبين أفادا بأن أطباء غوانتانامو واجهوا تحديات في تشخيص الأمراض العقلية؛ أهمها صعوبة بناء الثقة، حيث رفض كثير من المعتقلين الخضوع للكشف الطبي وتلقي العلاج، وهو ما تسبب في ارتفاع أعداد الحالات.
بعد ذلك بخمس سنوات، نشر الطبيبان الجنرال زانكيس، وفينيسنت أكبينو المدير الطبي لمنظمة «أطباء من أجل حقوق الإنسان» بحثًا شمل 9 معتقلين ظهرت عليهم أعراض مرض نفسي بعد تعرضهم لأساليب استجواب عنيفة، مثل وضع خرطوم ماء في الفم بالقوة، ووضع الرأس في فتحة المرحاض، والتهديد بالقتل من قبل سجانيهم الأميركان.
واعتمد الطبيبان في بحثهما على تقارير الأطباء، وكذلك الاستجوابات التي ضمتها ملفات السجناء الذين كانوا ضمن أول الوافدين للمعتقل بعد إنشائه.

* خدمة «نيويورك تايمز»



غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

TT

غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)
مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)

في المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط، على مساحة لا تزيد على 360 كيلومتراً مربعاً، بطول 41 كم، وعرض يتراوح بين 5 و15 كم، يعيش في قطاع غزة نحو مليوني نسمة، ما يجعل القطاع البقعة الأكثر كثافة سكانية في العالم.

تبلغ نسبة الكثافة وفقاً لأرقام حديثة أكثر من 27 ألف ساكن في الكيلومتر المربع الواحد، أما في المخيمات فترتفع الكثافة السكانية إلى حدود 56 ألف ساكن تقريباً بالكيلومتر المربع.

تأتي تسمية القطاع «قطاع غزة» نسبة لأكبر مدنه، غزة، التي تعود مشكلة إسرائيل معها إلى ما قبل احتلالها في عام 1967، عندما كانت تحت الحكم المصري.

فقد تردد ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، في احتلال القطاع بعد حرب 1948، قبل أن يعود بعد 7 سنوات، في أثناء حملة سيناء، لاحتلاله لكن بشكل لم يدُم طويلاً، ثم عاد واحتله وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان عام 1967.

خيام النازحين الفلسطينيين على شاطئ دير البلح وسط قطاع غزة الأربعاء (إ.ب.أ)

في عام 1987، أطلق قطاع غزة شرارة الانتفاضة الشعبية الأولى، وغدا مصدر إزعاج كبيراً لإسرائيل لدرجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، تمنى لو يصحو يوماً ويجد غزة وقد غرقت في البحر.

لكن غزة لم تغرق كما يشتهي رابين، ورمتها إسرائيل في حضن السلطة الفلسطينية عام 1994 على أمل أن تتحول هذه السلطة إلى شرطي حدود. لكن هذا كان أيضاً بمثابة وهم جديد؛ إذ اضطرت إسرائيل إلى شن أولى عملياتها العسكرية ضد غزة بعد تسليمها السلطة بنحو 8 سنوات، وتحديداً في نهاية أبريل (نيسان) 2001.

وفي مايو (أيار) 2004، شنت إسرائيل عملية «قوس قزح»، وفي سبتمبر (أيلول) 2004، عادت ونفذت عملية «أيام الندم». ثم في 2005، انسحبت إسرائيل من قطاع غزة ضمن خطة عرفت آنذاك بـ«خطة فك الارتباط الأحادي الجانب».

بعد الانسحاب شنت إسرائيل حربين سريعين، الأولى في 25 سبتمبر (أيلول) 2005 باسم «أول الغيث»، وهي أول عملية بعد خطة فك الارتباط بأسبوعين، وبعد عام واحد، في يونيو (حزيران) 2006، شنت إسرائيل عملية باسم «سيف جلعاد» في محاولة فاشلة لاستعادة الجندي الإسرائيلي الذي خطفته «حماس» آنذاك جلعاد شاليط، بينما ما زالت السلطة تحكم قطاع غزة.

عام واحد بعد ذلك سيطرت حماس على القطاع ثم توالت حروب أكبر وأوسع وأضخم تطورت معها قدرة الحركة وقدرات الفصائل الأخرى، مثل «الجهاد الإسلامي» التي اضطرت في السنوات الأخيرة لخوض حروب منفردة.

ظلت إسرائيل تقول إن «طنجرة الضغط» في غزة تمثل تهديداً يجب التعامل معه حتى تعاملت معها «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) بانفجار لم تتوقعه أو تستوعبه إسرائيل وجر حرباً دموية على غزة، وأخرى على لبنان، وسلسلة مواجهات باردة في جبهات أخرى في حرب تبدو نصف إقليمية، وما أسهل أن تتحول إلى نصف عالمية.

أبرز الحروب

«الرصاص المصبوب» حسب التسمية الإسرائيلية أو «الفرقان» فلسطينياً:

بدأت في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2008، وشنت خلالها إسرائيل إحدى أكبر عملياتها العسكرية على غزة وأكثرها دموية منذ الانسحاب من القطاع في 2005. واستهلتها بضربة جوية تسببت في مقتل 89 شرطياً تابعين لحركة «حماس»، إضافة إلى نحو 80 آخرين من المدنيين، ثم اقتحمت إسرائيل شمال وجنوب القطاع.

خلفت العمليات الدامية التي استمرت 21 يوماً، نحو 1400 قتيل فلسطيني و5500 جريح، ودمر أكثر من 4000 منزل في غزة، فيما تكبدت إسرائيل أكثر من 14 قتيلاً وإصابة 168 بين جنودها، يضاف إليهم ثلاثة مستوطنين ونحو ألف جريح.

وفي هذه الحرب اتهمت منظمة «هيومان رايتس ووتش» إسرائيل باستخدام الفسفور الأبيض بشكل ممنهج في قصف مناطق مأهولة بالسكان خلال الحرب.

«عمود السحاب» إسرائيلياً أو «حجارة السجيل» فلسطينياً:

أطلقت إسرائيل العملية في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 باغتيال رئيس أركان «حماس»، أحمد الجعبري. واكتفت إسرائيل بالهجمات الجوية ونفذت مئات الطلعات على غزة، وأدت العمليات إلى مقتل 174 فلسطينياً وجرح 1400.

شنت «حماس» أعنف هجوم على إسرائيل آنذاك، واستخدمت للمرة الأولى صواريخ طويلة المدى وصلت إلى تل أبيب والقدس وكانت صادمة للإسرائيليين. وأطلق خلال العملية تجاه إسرائيل أكثر من 1500 صاروخ، سقط من بينها على المدن 58 صاروخاً وجرى اعتراض 431. والبقية سقطت في مساحات مفتوحة. وقتل خلال العملية 5 إسرائيليين (أربعة مدنيين وجندي واحد) بالصواريخ الفلسطينية، بينما أصيب نحو 500 آخرين.

مقاتلون من «كتائب القسام» التابعة لـ«حماس» في قطاع غزة (أرشيفية - «كتائب القسام» عبر «تلغرام»)

«الجرف الصامد» إسرائيلياً أو «العصف المأكول» فلسطينياً:

بدأتها إسرائيل يوم الثلاثاء في 8 يوليو (تموز) 2014، ظلت 51 يوماً، وخلفت أكثر من 1500 قتيل فلسطيني ودماراً كبيراً.

اندلعت الحرب بعد أن اغتالت إسرائيل مسؤولين من حركة «حماس» اتهمتهم أنهم وراء اختطاف وقتل 3 مستوطنين في الضفة الغربية المحتلة.

شنت إسرائيل خلال الحرب أكثر من 60 ألف غارة على القطاع ودمرت 33 نفقاً تابعاً لـ«حماس» التي أطلقت في هذه المواجهة أكثر من 8000 صاروخ وصل بعضها للمرة الأولى في تاريخ المواجهات إلى تل أبيب والقدس وحيفا وتسببت بشل الحركة هناك، بما فيها إغلاق مطار بن غوريون.

قتل في الحرب 68 جندياً إسرائيلياً، و4 مدنيين، وأصيب 2500 بجروح.

قبل نهاية الحرب أعلنت «كتائب القسام» أسرها الجندي الإسرائيلي شاؤول آرون، خلال تصديها لتوغل بري لجيش الاحتلال في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وما زال في الأسر.

«صيحة الفجر»:

عملية بدأتها إسرائيل صباح يوم 12 نوفمبر عام 2019، باغتيال قائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، بهاء أبو العطا، في شقته السكنية في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وردت «حركة الجهاد الإسلامي» بهجوم صاروخي استمر بضعة أيام، أطلقت خلالها مئات الصواريخ على مواقع وبلدات إسرائيلية.

كانت أول حرب لا تشارك فيها «حماس» وتنجح إسرائيل في إبقائها بعيدة.

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

«حارس الأسوار» أو «سيف القدس»:

بدأت شرارتها من القدس بعد مواجهات في حي الشيخ جراح، واقتحام القوات الإسرائيلية للمسجد الأقصى ثم تنظيم مسيرة «الأعلام» نحو البلدة القديمة، وهي المسيرة التي حذرت «حماس» من أنها إذا تقدمت فإنها ستقصف القدس، وهو ما تم فعلاً في يوم العاشر من مايو (أيار) عام 2021.

شنت إسرائيل هجمات مكثفة على غزة وقتلت في 11 يوماً نحو 250 فلسطينياً، وأطلقت الفصائل أكثر من 4 آلاف صاروخ على بلدات ومدن في إسرائيل، ووصلت الصواريخ إلى تخوم مطار رامون، وقتل في الهجمات 12 إسرائيلياً.

 

«الفجر الصادق» أو «وحدة الساحات»:

كررت إسرائيل هجوماً منفرداً على «الجهاد» في الخامس من أغسطس (آب) 2022 واغتالت قائد المنطقة الشمالية لـ«سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، تيسير الجعبري، بعد استنفار أعلنته «الجهاد» رداً على اعتقال مسؤول كبير في الحركة في جنين في الضفة الغربية، وهو بسام السعدي.

ردت «حركة الجهاد الإسلامي» بمئات الصواريخ على بلدات ومدن إسرائيلية، وقالت في بيان إنها عملية مشتركة مع كتائب المقاومة الوطنية وكتائب المجاهدين وكتائب شهداء الأقصى (الجناح العسكري لحركة فتح)، في انتقاد مبطن لعدم مشاركة «حماس» في القتال. توقفت العملية بعد أيام قليلة إثر تدخل وسطاء. وقتل في الهجمات الإسرائيلية 24 فلسطينياً بينهم 6 أطفال.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام خريطة لغزة خلال مؤتمره الصحافي في القدس ليلة الاثنين (إ.ب.أ)

«السهم الواقي» أو «ثأر الأحرار»:

حرب مفاجئة بدأتها إسرائيل في التاسع من مايو 2023، باغتيال 3 من أبرز قادة «سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة)، أمين سر المجلس العسكري لسرايا القدس، جهاد غنام (62 عاماً)، وقائد المنطقة الشمالية في السرايا خليل البهتيني (44 عاماً)، وعضو المكتب السياسي أحد مسؤولي العمل العسكري في الضفة الغربية، المبعد إلى غزة، طارق عز الدين (48 عاماً).

وحرب عام 2023 هي ثالث هجوم تشنه إسرائيل على «الجهاد الإسلامي» منفرداً، الذي رد هذه المرة بتنسيق كامل مع «حماس» عبر الغرفة المشتركة وقصف تل أبيب ومناطق أخرى كثيرة بوابل من الصواريخ تجاوز الـ500 صاروخ على الأقل.

... ثم الحرب الحالية في السابع من أكتوبر 2023.