الستينات.. مرحلة النقاء الثوري الرومانسي

«هل قلت إنك تريد ثورة؟».. معرض في فيكتوريا وألبرت لندن

جانب من المعرض
جانب من المعرض
TT

الستينات.. مرحلة النقاء الثوري الرومانسي

جانب من المعرض
جانب من المعرض

تعتبر فترة الستينات من القرن العشرين، وخاصة فترة الخمس سنوات 1966 - 1970 مرحلة تحوّل نوعي في ثقافة المجتمعات الغربيّة، وانعطافة مهمة في السياسة والاجتماع والثقافة الشعبيّة والفنون على مستوى العالم كلّه. كانت فرقة البيتلز البريطانية بالذات رمز تلك المرحلة، ليس في الموسيقى والغناء فحسب، بل وفي كافّة مناحي حياة جيل الشباب - الأوروبي أساسًا - في نمط رومانسي غاضب، ثوري النزعة، متحرر من القيود التي تربى عليها جيل آبائهم، لتكون ذروتها الثورة الطلابيّة في فرنسا 1968 التي أسقطت جمهوريّة ديغول. في تلك السنة، وانطلاقًا من جامعة السوربون بباريس ثم عبر فرنسا كلها، وألمانيا قبل أن تعبر الأطلسي. شهدت جامعات المدن الكبرى حركات احتجاجيّة واسعة غير مسبوقة، التحمت بالحركة المناهضة للحرب على فيتنام في جامعات الولايات المتحدة الأميركيّة، وتحولت في بعض الأحيان إلى أعمال عنف واسعة واشتباكات مع الشرطة والحرس الوطني وما لبثت أن انتقل صداها إلى بقيّة أنحاء العالم.
متحف فيكتوريا وألبرت اللندني - أكبر متحف للفنون الجميلة في العالم - يحتفل بهذه المرحلة التأسيسية من خلال معرض استعادي خاص يستمر حتى 26 فبراير (شباط) العام المقبل تحت عنوان «هل قلت إنّك تريد ثورة؟ تسجيلات وثوار 1966 - 1970».
ضم المعرض مئات القطع المتنوعة شديدة الطّرافة التي تعكس ثقافة وأجواء تلك المرحلة: بزّة رجل فضاء من وكالة الناسا تماثل تلك التي استخدمت من قبل الفريق الذي هبط على القمر، النسخة التجريبية من أول فأرة (ماوس) كومبيوتر، قائمة تسوّق كتبها طلاب ثائرون خلف أحد متاريس باريس 1968، عشرات الإسطوانات الفينيل للبيتلز وللرولينغ ستونز، وصحف اصفرت أوراقها من إصدارات تلك الفترة، ومئات غيرها من المواد التي تكشف كيف كانت تلك الأيام حافلة بالتحولات الصاخبة على مختلف الأصعدة. وقد حاول منظما المعرض باختياراتهما من هذه المواد الشديدة التنوع تصوير روح الشباب المثالي الثائر في فترة خمس سنوات حرجة غيّرت العالم، وما رافقها من عنف وصدامات قاسية أحيانًا. في بريطانيا مثلاً كانت عقوبة الإعدام بداية الستينات لا تزال تنفّذ، ويعمل بها في المحاكم، وكان قانونيًا تمامًا دفع رواتب أقل للنساء من الرّجال لأداء نفس الواجبات. لقد كانت الروح الموحّدة لكل ثورات الشباب هذه إدراك الجميع أن المنظومات الحاكمة في الغرب لا تمتلك بالضرورة كل الإجابات، وأنه لفرض التغيير لا بدّ أن تبدأ بنفسك وتتوحد مع الآخرين لمواجهة هياكل القوى المهيمنة على المجتمعات.
ويبدو المعرض الحالي قد استفاد من الكنوز الفنيّة الهائلة التي يمتلكها متحف فيكتوريا وألبرت لتقديم تمثيل أوسع عن مرحلة الستينات في التصميم والفن والأزياء والمطبوعات والمسرح والأعمال الهندسيّة مقارنة بالمعرض المماثل الذي قدّمه مركز بومبيدو في باريس، والذي سيستمر حتى الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) المقبل وبدا شديد التواضع مقارنة بمعرض لندن، هذا بالطبع مع استعارة بعض الأعمال الهامّة من مؤسسات ثقافية ومتاحف حول العالم.
مدخل معرض «هل قلت أنّك تريد ثورة؟» بدا وكأنّه استعادة لشارع كارنابي: القلب التجاري لحي سوهو اللّندني في أجواء 1966 الشديدة التقلّب، ثم استعراض لثقافة الهبيين الواسعة الانتشار في 1967، ورصد لتأثير انتشار المواد المخدرة والعقاقير المسببة للهلوسة على الموسيقى والأزياء والحياة الاجتماعيّة للشباب البريطاني. يغطي المعرض الأجواء السياسية المصاحبة لهذه التحولات الثقافية والاجتماعيّة مثل ثورة الطلاب الفرنسيين بداية في 1968، وحركة الحقوق المدنيّة في الولايات المتحدة، والحراكات المناهضة للحرب كما حركات حقوق النساء والمثليين، وذلك من خلال صور وبوسترات وأفلام ومواد مختلفة.
وفي المعرض نماذج من أزياء مضيفات طيران (البان آم)الأميركي من تلك المرحلة، سواء في نسختها المدنيّة أو تلك العسكريّة التي ارتدينها في الرحلات المخصصة لنقل منتسبي الجيش الأميركي إلى فيتنام.
هناك أيضًا مجموعات من الصور لكرنفالات موسيقيّة ضمت أعدادًا هائلة من الشباب وقتها، وأخيرًا نماذج تعبر عن مجتمعات بديلة سواء واقعيّة أو خيالية في ظل هوس شديد في تلك المرحلة باستكشاف طرق أكثر تحررًا للعيش من المدن الحديثة المكتظة وغير الإنسانيّة. أيضًا، هناك عدد من فيديوهات ثمينة - بعضها نادر - تسجّل حفلات وأحداث فاصلة تعرض على أحد حوائط المعرض.
ولاستحضار الأجواء الكليّة للمرحلة الهامة، نسمع موسيقى البيتلز أو تسجيلا لخطاب مدوٍ لمارتن لوثر كينغ في لميكروفونات الخاصة التي يحملها الّزوار بينما هم يتجولون في الأرجاء، ودائمًا بحسب المجسات التي تقرأ حركتهم وتقرر المناخ الصوتي المناسب ليصاحب العمل البصري بحيث تكتمل تجربة الحواس صوتيًا أيضًا.
يلاحظ في الأعمال المعروضة عمومًا تمحورها حول لندن ونيويورك وسان فرانسيسكو، مع إشارات محدودة لمدن وأماكن أخرى لا شك هي عاشت بدورها في أجواء التحولات. الستينات في العالم العربي مثلاً كانت أيام السد العالي، والثورة الجزائريّة وانطلاق العمل الفدائي الفلسطيني وغيرها، وكلّها أحداث كان لها صدى عالمي في السياسة والثقافة والاجتماع، ولم يوفها المعرض حقها.
مع ذلك، فقد نجح بشكل كبير في تقديم استعراض متكامل للثقافة الشعبيّة للمرحلة من خلال اختيار ذكي لتشكيلة المواد المعروضة، كذلك من خلال الإضاءة على تأثيرات نتاج تلك المرحلة على أيامنا المعاصرة ليس فقط في السياسة والثقافة وإنما في شؤون البيئة وأنظمة العيش البديلة والتكنولوجيا الرّقميّة. وهو حصل على تقريض من النقاد في الصحف البريطانيّة والأميركيّة رغم أن بعضهم وإن أبدى إعجابه بالمعرض إلا أنه كانت له شكوك بالدّوافع والمحتوى الثقافي لثورات تلك المرحلة.
جدير بالذّكر أنه وعلى هامش المعرض سينظم متحف فيكتوريا وألبرت في الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل مؤتمرًا دوليًا ليوم واحد لاستكشاف كيف كانت تلك الأيام الحافلة بالتغيير في نهاية الستينات أساسيّة في تشكيل حياتنا المعاصرة وسيصار فيه إلى مناقشة الاستجابات الثقافية المضادة للثقافة الرقمّية، الآيديولوجيا في السياسة، استخدام العقاقير المسببة للهلوسة وقضايا البيئة وغيرها من قبل مجموعة مختارة من الأكاديميين والأدباء والصحافيين والخبراء المعنيين بالثقافة الشعبيّة. كما وصدر عن المعرض كتاب مجلّد بطبعة فاخرة في 320 صفحة يحمل ذات اسم المعرض، ويضم نماذج ممثلة لمرحلة الستينات من التصميمات والمفروشات والأزياء واللوحات والمهرجانات والبوسترات وصورًا للشخصيات والأحداث التي طبعت الستينات بطابعها.
اللطيف أنه لوحظ إقبال واسع على المعرض في أيامه الأولى من قبل جيل كبار السن الذين عاصر بعضهم أحداث الستينات الكبرى. المعرض بالنسبة لهؤلاء كان بمثابة رحلة في الزمن إلى أيام الشباب، لكنه أيضًا بدا قادرًا على استقطاب الجيل الجديد، الذي يبدو أنه أيضًا مثل جيل الستينات العجوز يرى تلك المرحلة بوصفها مرحلة النقاء الثوري الرومانسي.



انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية
TT

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

صدر حديثاً عن دار «سطور» ببغداد كتاب «أصوات في الأدب والفكر والاجتماع» للمؤلّف السعودي محمد رضا نصر الله، الذي عُرف منذ السبعينيّات إعلامياً اتخذ من الصحف والمجلات والتلفزيون وسيلة للتعبير عن أفكاره ورؤاه.

انفتح عنوان الكتاب على لفظ أصوات وهي تلاحق الأَثر المسموع الذي يصل الآذان جرّاء تَمَوُجات قادمة من مصدر ما ينتمي إلى الأدب المكتوب بجنسيه المعروفين الشعر، والنثر، وما يتناسل منهما من أنواع أدبيّة معروفه، وأنماط، فضلاً عن أصوات الفكر التي تعامل معها المؤلّف بروح الأدب، وخفايا أخرى اتخذت من المجتمع ظواهر حاول المؤلّف نصر الله أن يقف عندها موقفاً يبعده عن أسلوب العرض، ليقرّبه نحو ممارسة النقد، وحضور المساءلة المنفتحة على البيئات الحاضنة للأدب سواء كانت تاريخيّة أم جغرافيّة أم اجتماعيّة أم لسانيّة؛ تلك التي تحيل على مقولات عامرة بالمعنى.

وتفضي قراءة الكتاب إلى الوقوف عند ظواهر ثقافيّة تنتمي إلى ثقافة الوطن العربي جميعه من مشرقه إلى مغربه، وهذا دليل على سماحة الفكر الذي حمله المؤلّف واتساع معرفته بالثقافة العربيّة القديمة والحديثة، بل تجد في الكتاب أشتاتاً من الإحالات التي تلاحق ما في آداب الشعوب الأخرى، ولا سيّما تلك التي لها أثر في ثقافتنا المعاصرة.

من هنا وجدتُ المؤلّف منفتحاً على الأدب العربي من دون أن يشعر بعقدة الانتماء إلى أدبه الوطني، فهو يتحدّث عن الأدب العراقي والمصري والمغربي والخليجي والفلسطيني، والسوري، والسوداني بوصف كلّ منها جزءاً من أدب أكبر هو الأدب العربي بتيّاراته المحافظة المعروفة، ومحاولات التجديد فيه. وبالنظر لسعة حجم الكتاب (449 صفحة)، فإنّ هذه المقالة ستلاحق مضمون الكتاب من خلال النافذة التي رأت الأدب العراقي، واتخذت منه وسيلة للقراءة، والتحليل المفضي إلى بيان ما ودّ المؤلّف قوله فحسب؛ بسبب حجم المقالة وحرصها على عدم الاتساع.

بدءاً لا بد من التأكيد على أن المؤلّف امتلك معلومات مهمّة عن الأدب العراقي مصدرها القراءة، والملاحقة الميدانيّة، والانفتاح الثقافي على أحوال العراق، والمشاركة في قسم من فعّالياته التي كانت علامة في تاريخ الثقافة العراقيّة مثل: مهرجان المربد، فضلاً عن علاقاته المتميّزة مع أدباء العراق ممن رحل إلى دار البقاء، أو ممن يعيش الآن منتجاً للثقافة والفكر، وعندي أنّ المؤلّف في انفتاحه الثقافي على الحياة العراقيّة كان جزءاً من حال الثقافة السعودية في جميع عصورها وهي ترنو صوب بغداد، والكوفة والبصرة، والموصل ليكون لها تواصل تامّ، ورغبة حميمة في جمع الشمل لمن يقرأ ويكتب بحروف لها تاريخها المضيء بعمر آلاف السنين، فهو - المؤلّف - متحسّس لتراب العراق، وروحه منغمرة في مياه دجلة والفرات - بحسب قوله - في إشارة كنائيّة إلى قربه من العراق أرضاً وشعباً، وقد زاره في أوائل الستينيّات كما ذكر، ولي أن أشير هنا إلى أنّ الموضوعات العراقيّة في الكتاب ظهرت مستقلة في مقالات سأتخذها مجالاً للقراءة، فضلاً عن ظهورها مختلطة مع مقالات أخرى لا شأن لها بالعراق لكنّ طبيعة الحديث في المقالة أفضى إلى الإحالة على ما في العراق، مثالها مقالة «صور معهم» التي تحدّث فيها نصر الله عن البحرين، وعن والده، والشاعر المصري أمل دنقل، ثمّ كانت الإحالة على ديوان بدر شاكر السياب «إقبال وشناشيل ابنة الجلبي» المُهدى إلى المؤلّف من غيلان ولد السياب البكر، وقد طوّف الحديث بالمؤلّف إلى استرجاع زيارته إلى جيكور في عام 1979.

اخترت الوقوف الأول عند مقالة «خطى المتنبي الهاربة بين ميمين»، وهي مقالة تابعت إشارة د. عبد الرحمن السديري التي مؤداها أن «بسيطة» التي وردت في قصيدة للمتنبي هي على مرمى من عيون ضيوفه، في إشارة إلى مكانها السعودي المعاصر، وهذه الإشارة أوحت إلى د. عبد العزيز المانع أن يتتبّع خطى المتنبي، فعمل أولاً على تحقيق «المآخذ على شراح ديوان أبي الطيب المتنبي» للأزدي، ليتمكّن فيما بعد من تحقيق «قشر الفسر» للزوزنيّ، ولم يكتف بذلك فتناول «الفسر الصغير في تفسير أبيات المعاني في شعر المتنبي» لابن جني فحقّقه، ثمّ عكف على السير على خطى المتنبي من مصر إلى حدود العراق مستعيناً بخرائط المساحة العسكريّة في عشر رحلات بين مصر والأردن وسوريّا، ولم يتمكّن من دخول العراق بسبب سوء الأمن يومها.

رأى مؤلّف الكتاب أن يوسف الشيراوي أصدر قبل المانع كتابه «أطلس المتنبي أسفاره من شعره وحياته»، وهو من الكتب الجليلة التي تابعت رحلات المتنبي الشهيرة، ويعود المؤلّف إلى قرن من الزمن مضى ليقف عند ألويز موزيل الرحّال والمستشرق النمساوي التشيكي الذي عاش أربعة عشر شهراً في قبيلة «الرولة»، مكتشفاً امتداد الصحراء وأهلها، فضلاً عن أنه رافق قوافل «عبدة» و«سنجار» إلى النجف، وقد وقف على موقع الخورنق الوارد في قصيدة المنخّل اليشكري، تاركاً كتباً أخرى في وصف مناطق من العراق تتبّع في بعضها طريق المتنبي الهارب من الفسطاط إلى دمشق، وتبوك والجوف والسماوة والرهيمة ثمّ الكوفة في شرح دقيق متعلّق بالأمكنة.

قام د. عبد العزيز المانع بعشر رحلات منطلقاً من أرض مصر ليصل الأردن وسوريا وشمال المملكة العربيّة السعودية وصولاً إلى حدود العراق، وقد ناقش في تلك الرحلات ذوي الخبرة، وهدفه إثبات رحلة المتنبي الحقيقية على الأرض في كتاب أنيق عنوانه «على خطى المتنبي»، وإذ أنتهي من قراءة المقالة أتساءل ما دلالة لفظ الميمين في عنوانها؟ لعلّه أراد بها مصر والمانع وقد شكَّلا فضاء تلك الرحلة عن قرب.

ووقفت ثانية عند مقالة «أسماء متنازع عليها بين المملكة والعراق»، التي أتى فيها على طبيعة العلاقات الثقافيّة التي ربطت السعودية بالعراق من خلال وقائع ماديّة، وثقافيّة مشتركة بين البلدين من خلال أسماء عاشت في العراق وهي تردّ إلى أصول نجديّة معروفة من أمثال: عبد اللطيف المنديل، وسليمان الدخيل، وسلمان الصفواني، ومحمد القطيفي، وعبد الحسين القطيفي، وعبد الرحمن منيف، ومحمود البريكان، وآخرين، وعندي أن أسماء أخرى ربّما غابت عن المؤلّف بسبب دورها المحدود في الحياة الثقافيّة والسياسيّة، ولا عجب من كثرة تلك الأسماء إذا ما علمنا أن أصل القبائل العربيّة في العراق يردّ إلى شبه الجزيرة العربيّة، وأنّ العلاقة بين الأرضين قديمة قدم الإنسان نفسه.

يممتِ الوقفة الثالثة شطرها نحو مقالة «ما لم تنقله الكاميرا... في حديث الجواهري»، وفيها أماط اللثام عمّا قاله الجواهري خارج حدود اللقاء الإعلامي الذي أجراه معه، وقد كشف المؤلّف عن كرم الشاعر، ومعرفته ببعض العوائل السعودية وأحوالها، وفي لقاء اليوم الثاني بعد المقابلة حاول الجواهري التقرب من السعودية مذكّراً مؤلّف الكتاب بقصيدته التي مدح فيها الأمير فيصل بن عبد العزيز حين زار العراق ممثّلاً لأبيه التي منها:

«فتى عبد العزيز وفيك ما في... أبيك الشهم من غرر المعاني»

تلك القصيدة التي مدح فيها الملك عبد العزيز، والأمير فيصل معاً، وقد نشرت في جريدة أم القرى في الثلاثينيات من القرن المنصرم، ثمّ قدّر للجواهري زيارة المملكة مشاركاً في مهرجان الجنادريّة في 21- 7- 1994.

ووقفت في وقفة رابعة عند «جنتلمانية الاستعمار بين الطيب صالح والجواهري»، وفيها أماط المؤلّف اللثام عن رؤية النقد الآيديولوجي الذي عدّ الطيب صالح أنموذجاً للمثقف العربي المنبهر بحضارة الغرب، والمتمثّل لقيمها الإمبرياليّة من خلال روايته «موسم الهجرة إلى الشمال»، فضلاً عن عدّه منيف الرزاز في رواية «الأشجار واغتيال مرزوق» أنموذجاً للمثقف الثوري المدافع عن قضايا الفلاحين، وكأنّ المؤلف أراد أن يكشف عن مضمر ذلك النقد الذي أثبتت الأيام خطله وهو يعتمد الصراع الذي يختزل العالم بين معسكرين لا ثالث لهما: الماركسي والرأسمالي رافضاً أن يكون الفن من أجل الفن نفسه، وقد استعان برأي الشاعر الجواهري الذي تباكى على عصر الملكيّة العراقيّة في مذكراته رغم معارضته الشديدة لذلك النظام بعد أن تخلّص من أهواء الآيديولوجيا.

وفي الوقفة الخامسة قرأت مقالة «مذكرات الجواهري» التي كان متنها مفاجأة للمؤلف، وقد وعى فيها الشاعر طبيعة الحياة السياسيّة التي عاشها في العراق وخارجه، وقد كتبها نثراً ذهبيّاً صافياً مسبوك العبارة بديباجة تكشف عن أسلوب رفيع، وهو الشاعر المطبوع فكأنه - والكلام للمؤلّف - جمع بين الصناعتين: الشعر والنثر، فقد وجد المؤلّف تلك الذكريات سرديّة صادقة انفتحت على تجربة الشاعر الاجتماعيّة والسياسيّة والوطنيّة التي لاحق فيها حياة قرن كامل وهو يسبر أغوار الأمكنة بين بغداد والمنافي التي اختارها.

وأخذني الكتاب نحو ريادة د. علي جواد الطاهر في تدريس الأدب السعودي وصناعة معجم مطبوعاته، ففي تلك المقالة سرد المؤلّف حكاية الطاهر الذي نزل الرياض أستاذاً في جامعتها في الستينيّات، فكان عليه أن يلمّ مبكّرا بشؤون الأدب السعودي بدءاً من كتاب «وحي الصحراء» لمحمد سعيد عبد المقصود، وعبد الله عمر بلخير، مروراً بكتابي «شعراء نجد المعاصرون» لعبد الله بن إدريس و«أدب الحجاز» لمحمد سرور الصبان، وانتهاء بما وجد من جرائد ومجلّات تسدّ حاجة قلمه، حتى قدّر له الاجتماع بأهمّ أدباء السعودية من أمثال: حمد الجاسر، وعبد الله بن خميس، وعبد الله بن إدريس، وقد طرح عليهم فكرة مشروعه الموثّق لتاريخ النشر في البلاد في معجم يعنى بالمطبوعات السعودية، فكان له أن بدأ بنشر أجزاء من ذلك المعجم في مجلّة العرب التي أحبها أولاً، ثمّ طوّر فيما بعد تلك المقالات كتاباً مستقلاً، فكانت للطاهر يد بيضاء في تاريخ الثقافة السعودية، وليس هذا بالغريب على شخصيّة الطاهر التي كانت دائمة الحضور ثقافيّاً بعيداً عن الإقليميّة والنظر الذي يضيقُ بالمكان.

ووجدتُ المؤلّف في «أيها العراقي هلَّا خرجت من مزرعة البصل؟» ينادي بصوت عالٍ العراقي المعاصر الذي يريده أن يخرج من دائرة الزعامة القاتلة التي يرى فيها نفسه كبيراً في ظل تعدد رؤوس الكبار؛ تلك التي ترى في نفسها ما يراه هو، وقد أحال على قصيدة الشاعر العراقي علي الشرقي «مزرعة البصل»، التي فضح فيها الرؤوس الأولى في أول عهد الحكم العراقي الوطني، وهي تتشابه وحجم رأس البصل!، يبدو أن التاريخ يعيد بعض أنساقه المضمرة كي تكون ظاهرة للعيان، فكانت وقفتي السابعة مع تلك المقالة.

وكانت الوقفة الأخيرة عند مقالة «الجاحظ يحذّر العرب»، التي فضح فيها مبكّرا الخصومات بين العرب والشعوب الأخرى، وبين العرب أنفسهم، وكأنّ المؤلف أراد التأكيد على أن الحياة العراقيّة المعاصرة ترفض رفضاً كليّاً الصراعات القوميّة، والإقليميّة، والقبليّة في ظلّ مجتمع حديث متسامح تتنوع في مقاماته الثقافة، وتتوزّع لتكون في النتيجة وجهاً من وجوه تسامح الإنسان مع نفسه والآخر.

إنّ كتاب «أصوات في الأدب والفكر والاجتماع» كتاب ثقافة حاول أن يقرأ عدداً من الموضوعات التي تشمّ من متونها رائحة الأدب بمفهومه الذي يتماس وطبيعة المجتمع العربي، وهو يتساوق والدعوات التي تحيل على أهميّة الممارسات التي تكشف عن وظائف ثقافيّة تتماس وحاجة المجتمع، فضلاً عن إحالته على عدد ليس بالقليل من المتون الأدبيّة ذات النَفَس الثقافي المبهر لتظلّ الحاجة ملحّة لإعادة طبعة في متن جديد بعد أن يقف من الملاحظات الآتية موقف المصحح الوفي لكتابه:

أولاً: جاء في الصفحة 239 أنّ (الأديب العراقي هلال ناجي الذي يعمل لدى د. علاء حسين الرهيمي عميد كلية آداب جامعة الكوفة) والكلام ملتبس بلا شك؛ لأنّ الأستاذ المحقّق الثبت هلال ناجي - رحمه الله - لم يعمل موظفاً في جامعة الكوفة، بل كان ملحقاً ثقافيّاً في القاهرة في الستينيّات، تمّ تفرّغ للتحقيق والمحاماة، فأرجو أن يفكّ ذلك الالتباس لصالح الحقيقة، والمقالة.

ثانياً: جاء في الصفحة 310 من الكتاب عن محمد حسين آل نمر أنه أيّد (ثورة 23 تموز 1958. بقيادة عبد الكريم قاسم)، والصحيح (14 تموز)، وأنها لم تكن ثورة بل انقلاب عسكري ليس غير، وهذا ما أدركه المؤلّف فيما بعد في ص325.

ثالثاً: تحدّث المؤلّف في الصفحة 315 من الكتاب عن اغتيال الشاعر محمود البريكان محدّداً إياه (في منزله بالزبير)، والصحيح الذي لا خلاف عليه أنّ الاغتيال كان في بيت البريكان في البصرة حي الجزائر يوم 28 فبراير (شباط) 2002.

- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -

* أكاديمي وناقد من العراق.