يوميات الحرب في سرت 2-5 :الخلافات تطيل عمر «داعش»

ما يمكن أن تخسره حكومة الوفاق الليبية في المعركة ضد التنظيم المتطرف

يوميات الحرب في سرت 2-5 :الخلافات تطيل عمر «داعش»
TT

يوميات الحرب في سرت 2-5 :الخلافات تطيل عمر «داعش»

يوميات الحرب في سرت 2-5 :الخلافات تطيل عمر «داعش»

هذا الشاب الذي يحمل رتبة نقيب في قوات «البنيان المرصوص» ضد «داعش» في مدينة سرت الليبية، يلقبه بعض المقاتلين بـ«الكابتن عبد الرحيم»، لأنه أبلى بلاء حسنًا على الأرض، ومن فوق ظهر الدبابة. لكنه تلقى أوامر أخيرًا من قائد عسكري يقيم في طرابلس، ويعد من زعماء جماعة الإخوان المسلمين، تطلب منه شحن مقاتليه في سياراتهم والعودة بهم إلى مدينة مصراتة التي ينتمي إليها الغالبية العظمى من المحاربين على جبهة سرت. كانت مجموعة عبد الرحيم تتصدى مع مجموعات أخرى لفلول الدواعش، وتمنعهم من التقدم في منطقة العمارات الهندية، بعد أن انسحب منها مقاتلون تابعون لقوات «البنيان المرصوص» قبل أيام. وقد بدأ الضابط الشاب في جمع مقاتليه، وهو يصيح في غضب ظاهر، لكن عددًا منهم، ومعظمهم من شباب مصراتة المتطوعين لمقاتلة «داعش»، دخل معه في نقاش ورفض 20 منهم على الأقل، أي أكثر من نصف عدد المجموعة، الانصياع للأوامر أو ترك الجبهة.
من بين هؤلاء المقاتلين المدنيين الشبان إسماعيل، الذي لوح بسلاحه مهددًا، وقال إنه لن يغادر. ورفع إسماعيل (28 عامًا)، صوته في الساحة كأنه يلقي خطبة محذرًا من «الخيانة»، ومن «بيع دماء (الشهداء)» الذين سقطوا في المعارك ضد «داعش» منذ بدء العملية في مايو (أيار) الماضي، مذكرًا في الوقت نفسه بما قال إنه قيام «قيادات منتمية لجماعة الإخوان في المؤتمر الوطني في طرابلس بإفشال هجوم قامت به قوات من مصراتة ضد (داعش) العام الماضي».
وبينما خيّمت الحيرة على رؤوس المجموعة، وجّه إسماعيل أسئلة للنقيب عبد الرحيم، والكلام يندفع من فمه مثل طلقات رصاص: «أريد أن أعرف من أين تأتي هذه الأوامر.. هل جاءت من الأفندي (يقصد مسؤولاً بدرجة عميد في عملية البنيان المرصوص يقيم في مصراتة)؟ أم أنها جاءت من الأفندي الفلاني (يقصد قائدًا بدرجة مقدم في جبهة سرت)، أم من علان (يقصد قائدًا في سرايا دعم بنغازي يقيم في بلدة هون جنوبًا)؟».
وبدا أن الأمور تخرج عن السيطرة، رغم أن المئات كانوا يقاتلون بضراوة؛ فالدبابات تطحن الإسفلت وتدهس كتل الحجارة والإسمنت، وتفتح دربًا لملاحقة «داعش».. انفجارات القذائف تصم الآذان، وسيارات الإسعاف تلتقط الجرحى من زوايا المباني. ومع ذلك تُثار مثل هذه المناقشات المثبطة للهمم.
في المساء، تلقى إسماعيل رسائل من قادة آخرين على الجبهة بالبقاء مع زملائه في الحرب، والانضمام إلى كتيبة من الكتائب الأساسية التي تحارب هنا، أي أن تقوم بتكليفه بمهام وتكون مسؤولة عن مده بالذخيرة والإسعافات الطبية والطعام. وبهذه الطريقة يكون هناك معنى لـ«جبهة الحرب.. الأخوة»، كما يقول إسماعيل.
لكن، ووفقًا لتركيبة الكتائب والميليشيات، فإن تصرف إسماعيل ومن معه في سرت قد يحرمهم من الحصول على المكافآت المقررة لهم كمنتسبين في المجالس العسكرية للمدن، وهي مجالس تكونت أثناء الانتفاضة المسلحة التي دعمها حلف «الناتو» ضد نظام معمر القذافي. فكل مجلس عسكري لديه كشوف بأسماء منتسبيه، لكن من يفكر في الاستفادة المالية وهو يواجه الموت؟
مواقف محيرة كهذه تتكرر بشكل واضح بين قادة ومقاتلين متطوعين على الجبهة. وهذا أمر من شأنه أن يثير تساؤلات بشأن القوات التي يعتمد عليها المجلس الرئاسي في محاولته بسط سلطانه على بلد يعاني من الانفلات منذ أكثر من خمس سنوات. كما أنه يثير المزيد من علامات الاستفهام حول فاعلية المساعدات التي تقدمها عدة دول غربية للمجلس الرئاسي، وما تطلق عليه هذه الدول «قوات حكومة الوفاق» برئاسة فايز السراج.
ويخشى أعضاء في مجلس السراج من خسائر في معركة سرت قد تؤدي لانتكاسة أو تؤخر النصر. وفي هذا السياق يقول الدكتور جمال حريشة، الذي ترك حزب «العدالة والبناء» الإخواني، بعد أن شارك في تأسيسه في العاصمة الليبية عقب سقوط نظام القذافي، إن «تجربة الحرب على (داعش) في 2015 تثير ذكريات مريرة لدى المقاتلين على جبهة سرت اليوم». ويضيف لـ«الشرق الأوسط» موضحًا أن من أصدر الأوامر حينها بوقف مهاجمة «داعش» كانوا من بين قيادات في المؤتمر الوطني في طرابلس.
ومن جانبه، استبعد عوض عبد الصادق، نائب رئيس المؤتمر الوطني، الذي يوجد مقره في العاصمة الليبية، أن يكون هناك أي دعم يصل لدواعش سرت من داخل البلاد، بقوله: «لا يستطيع أحد أن يقدم الدعم لهم.. فمن يقدم الدعم لـ(داعش) فسيُحارب حتى لو كان من حلفاء اليوم».
ووفقًا لمصدر مقرب من المجلس الرئاسي، فقد بدأ المجلس في إجراء تحقيقات عما يجري على جبهة سرت، لا تقتصر فقط على «تصرفات متخاذلة» بدت من بعض قادة الميليشيات والكتائب المشاركة في الحرب على «داعش»، ولكنها تتضمن أيضًا التحقيق في العملية برمتها. وفي هذا السياق يقول طارق القزيري، أحد مستشاري الحوار والاتفاق السياسي الليبي الذي أنتج المجلس الرئاسي، إن الانتصار في سرت محسوم لصالح «البنيان المرصوص».
وبعيدًا عن جدل السياسيين والتصرفات الرعناء لبعض القادة من ذوي التوجهات المذهبية والجهوية، يبقى على الجبهة جماعات من الشبان الذين يواجهون «العدو» بشجاعة، ويرفضون العودة إلى ذويهم قبل رفع رايات النصر في شوارع سرت «حتى لو انسحب مَن انسحب، وحتى لو توقفت المساعدات الأميركية»، كما يقول المقاتل خالد، وهو رجل مدني يرتدي صدرية عسكرية مموهة وبنطلون جينز أزرق، يقف على حاجز يؤدي إلى منطقة مصيف السبعة في غرب المدينة. فقد تصدى قبل أيام مع ثلاثين من زملائه لهجوم داعشي يائس. وتقع بالقرب من المصيف مرافئ للزوارق البحرية يبدو أنها كانت ذات أهمية للتنظيم المتطرف.
لم يتلقَّ خالد، وهو من أبناء مصراتة، أي تدريبات عسكرية نظامية تُذكر، لكن خبرته في حمل السلاح والقتال لا يستهان بها. وهو يعد قناصًا ماهرًا ببندقية الـ«إف إن»، ويضرب قذائف «آر بي جيه» دون أن يهتز. كما شارك، بحماسته واندفاعه في دحر قوات القذافي في طرابلس عام 2011، وشارك في حرب مطار العاصمة لطرد ميليشيات منافسة في 2014، وخلال الحرب الجديدة في سرت، اكتسب مهارة إضافية تجعله قادرًا على تحديد الأهداف لرماة المدفعية الثقيلة. ومن بين جيرانه شاب نحيف ضمن طاقم دبابة مكتوب على مقدمتها «كل نفس ذائقة الموت».
ويتقاضى خالد، البالغ من العمر 29 عامًا، الأب لطفلين، راتبًا شهريًا من المجلس العسكري الذي يتبعه كمكافأة ينفق منها على أسرته. ومع ذلك يقول إنه مجرد متطوع لـ«الحفاظ على الثورة»، وإنه سيعود لوظيفته الأصلية بعد أن تستقر الدولة. ويوجد عدة آلاف مثله، يعملون منذ ما يزيد على خمس سنوات ضمن ميليشيات، ويطلقون على أنفسهم «ثوارًا» و«متطوعين» لمنع عودة النظام القديم، والعمل على بناء نظام جديد.
ويبدو أن البعثة الأممية إلى ليبيا لم تجد غضاضة في ترسيخ هذا الواقع، كما يقول لـ«الشرق الأوسط» الدكتور صلاح الدين عبد الكريم، القيادي في جبهة النضال الوطني الليبي. وقد رحب زعماء عدة ميليشيات وغالبيتهم من ذوي الأصول المصراتية بقدوم السراج إلى العاصمة في أواخر مارس (آذار)، وشارك مقاتلوها في تأمين مقر تابع لوزارة الداخلية في طرابلس لصالح السراج. ويقول خالد إن الميليشيات تكبدت مقابل هذا الموقف خسائر كثيرة في صورة انشقاقات واتهامات بالخيانة من جانب بعض الداعمين لحكومة الإنقاذ والمؤتمر الوطني. وفي الوقت الحالي فقد مجلس السراج مقر وزارة الداخلية بسبب انشغال مقاتليه في ملاحقة «داعش». ربما كان هذا يسهم في تفسير السبب وراء تخبط قرارات بعض قادة الميليشيات بشأن جبهة سرت، وخشيتهم من فقد جبهات كانت تحت أيديهم، خصوصًا في الغرب والجنوب.
ويتضح من حالة الحرب ضد «داعش» وجود ما يشبه السيولة السياسية والعسكرية والأمنية. إنها حالة صعبة لا تجعل هناك يقينًا أو ثقة، حيث تتداخل المواقف وتتغير الولاءات يومًا بعد يوم، وكل شيء يتغير مثلما تتغير معالم سرت الجميلة إلى مدينة ذات أسقف مهدمة، وجدران مثقوبة بالقذائف يغطيها الدخان. وفي هذا الصدد يقول إبراهيم عميش، رئيس لجنة العدل والمصالحة في البرلمان الذي يعقد جلساته في طبرق، إن أجواء الشد والجذب بين قادة الميليشيات لا تساعد على «حوار سياسي مثمر»، ويشير إلى أن بعثة الأمم المتحدة لا يبدو أنها جادة في الوصول إلى حلول بقوله: «نحن نرى أنها منحازة لمجلس السراج، وتتحامل على البرلمان الشرعي والجيش الوطني. ومن يدفع الثمن هم الليبيون.. يدفعونه من دماء أبنائهم».
وفي خضم الحرب الدائرة يذهب ضحية الاضطرابات آلاف الشبان ما بين قتلى وجرحى، وآلاف العائلات ما بين نازحين ومهجرين. وبعد أن توجّه المقاتلون إلى سرت تاركين مواقعهم في طرابلس ومصراتة ومناطق أخرى قريبة من بنغازي، بدأت عدة أطراف تتنفس الصعداء، وتعد العدة لشغل الفراغ. فالجيش بقيادة المشير خليفة حفتر لم يكن صاحب الحركة الوحيدة لاقتناص مكاسب في الموانئ النفطية. ولكن تحركت أيضًا حكومة الإنقاذ في طرابلس بعد شهور من اختفاء رجالها عن مسرح الأحداث.
وحكومة الإنقاذ هذه التي يرأسها خليفة الغويل، منبثقة عن «المؤتمر الوطني العام»، أي البرلمان السابق، ويرفض بعض أعضاء المؤتمر الاعتراف بالسراج، وبدأوا خلال الأيام الأخيرة في استئناف عقد جلسات في العاصمة، وهم لا يعترفون كذلك بالبرلمان الحالي الذي يعقد جلساته في طبرق، ولا بقائد الجيش حفتر، ولا بالحكومة المؤقتة التي يرأسها عبد الله الثني، والتي تعمل انطلاقًا من مدينة البيضاء في الشرق. لكن النائب عبد الصادق يقول إن «المؤتمر الوطني» مستعد لبحث كل نقاط الخلاف مع «البرلمان».
ويرى نائب رئيس المؤتمر أن قضية إنهاء «داعش» في سرت «كان بالإمكان حلها بطرق أسهل»، مضيفًا أن أغلب المقاتلين من مدينة مصراتة و«الآن فقدوا أكثر من 500 (شهيد) في هذه المعارك التي كان في الإمكان تفاديها».
إلا أن عبد الصادق، من جانب آخر، لا يخفي شدة الخصومة مع مجلس السراج، قائلا إنه حين دخل المجلس الرئاسي إلى طرابلس، استولى على مقار تابعة لحكومة الإنقاذ وللمؤتمر الوطني. وكشف عن أن حكومة الغويل «ما زالت تجتمع، وما زالت بعض المقار تحت سيطرتها.. والآن بدأت خطوات لاسترجاع بعض المقار الأخرى. ولعل آخرها كان استرجاع مقر وزارة الداخلية.. وفي الأيام المقبلة سيرى الليبيون والمجتمع الدولي بأن حكومة الإنقاذ تقوم بخطوات حثيثة لتقف على أرضية صلبة داخل العاصمة، ومن ثم تفرض سيطرتها ربما حتى خارج العاصمة».
على أي حال يمكن القول إن حرب سرت أحيت جبهات أخرى كثيرة كلها تعمل ضد مجلس السراج. ويبدو مثل هذا التنازع مؤلمًا حين تستمع إلى مقاتلين مدنيين مثل إسماعيل وخالد. فقد جاء هؤلاء إلى سرت مع عدة آلاف من الشبان المندفعين لطرد «داعش»، والآن وصلوا إلى المربع الأخير. لكن هنا أصبحت الأمور تتبدل بشكل غريب.
يقول إسماعيل موضحًا: «كيف يمكن أن تبتعد من أمام عينيك لحظة النصر النهائي، بعد أن كنت قد قاربت على الإمساك بها». وبالإضافة إلى مئات القتلى، تكبدت قوات «البنيان المرصوص» نحو 3000 جريح، ونفذت الميليشيات التي أيدت السراج واحدة من أكبر عمليات إعادة الانتشار ما بين طرابلس ومصراتة والبلدات المجاورة لهما، وذلك حين أعلن رئيس المجلس في أبريل (نيسان) الماضي عن تشكيل غرفة عمليات عسكرية مشتركة لتحرير سرت، في تحد لحفتر والبرلمان الذي يسانده. وبعد نحو خمسة أشهر من انطلاقها وتعضيد الولايات المتحدة لها، لا يبدو أن حرب السراج هنا ستنتهي سريعًا كما كان يتوقع البعض.
ومع أن القزيري يقر بأن العمليات في سرت تباطأت، فإنه يقول إن هناك سببين لهذا التباطؤ «الأول» عدم الرغبة في إيقاع المزيد من «الشهداء» طالما كانت مسألة تحرير سرت محسومة. والثاني «المقاومة الشديدة جدا»، التي يبديها الدواعش. بيد أن الدكتور حريشة يفسر الأمر بطريقة مختلفة، ملقيًا باللوم على من يقدمون مساعدات لـ«داعش». ويضيف موضحا: «ما زال هناك أناس يساعدون (داعش) للوقوف ضد تقدم قوات (البنيان المرصوص).. وهذا يفسر تأخير الحسم في هذه الحرب، وسقوط كثير من أبنائنا ما بين (شهيد) ومصاب». وبعد لحظات من الصمت والتفكير، يضيف قائلا إن «سبب الانتكاسة التي تلوح في الأفق هو أنه ما زالت هناك جماعة تؤيد (داعش).. وتعد من القيادات في طرابلس».
ويستعيد قادة من أولئك المتمسكين باستمرار الحرب على «داعش» في سرت التفكير في أحداث مثيرة للريبة وقعت في عام 2015، تتعلق بخطة عسكرية وضعتها حكومة الغويل لطرد «داعش» من المدينة، حين كان التنظيم فيها ما زال ضعيفًا، ويقول قائد عسكري في قوات «البنيان المرصوص» ممن شارك وقتها في العملية ضمن «الكتيبة 166»: «في ذلك الحين تقدمنا بقوة. لكن الخطة جرى إفشالها لأسباب غير مفهومة. لقد تكبدنا حينذاك خسائر فادحة ثم قيل لنا، ونحن في منتصف الطريق: (ارجعوا إلى مصراتة)».
ويضيف أنه ترتب على ذلك تمدد «داعش» في سرت، وسيطرة التنظيم على قاعدة عسكرية وعلى باقي مرافق المدينة، بما فيها قاعة واغادوغو للمؤتمرات. ومن جانبه يوضح الدكتور حريشة أن قوات «الكتيبة 166» في ذلك الوقت (في ربيع العام الماضي) تحركت من مصراتة لطرد «داعش» من سرت، لكن صدرت لها أوامر بالعودة.. لماذا؟ يجيب قائلا إن السبب كان يتعلق بوجود أشخاص على قمة الهرم في طرابلس، وفي المؤتمر الوطني، ساعدوا هؤلاء الدواعش. وبالتالي مُنعوا من أن يحاربوا التنظيم المتطرف في سرت. ويزيد موضحًا أن محاولة حماية «داعش» والإبقاء على عناصر التنظيم تتكرر اليوم مرة أخرى من القيادات نفسها التي قامت بمنع الحرب على التنظيم العام الماضي، مشيرًا إلى أن الدعم الذي تتلقاه عملية «البنيان المرصوص» من باقي المدن الليبية «بسيط جدا»، وأن «الذين فُقدوا من المدن الأخرى في الحرب في سرت لا يزيد على 4 إلى 5 في المائة من (الشهداء) الذين فقدتهم مصراتة وحدها». وهو يتحدث عن وجود منافذ يبدو أنها تعطي لدواعش سرت القدرة على التنفس حتى الآن. فحين جرت محاصرتهم، وجد بعضهم طريقًا إلى الصحراء «حيث يمكن من هناك مساعدة المتحصنين في المدينة بطريقة أو بأخرى»، أو كما يقول: «هذا يجعل بؤرة الاقتتال في سرت مشتعلة لفترة أطول».
بيد أن عبد الصادق يرى، مثلما يرى القزيري، أن دواعش سرت أصبحوا «محاصرين في منطقة ضيقة جدا.. وإذا نحن في المؤتمر الوطني، أو في حكومة الإنقاذ، أو في أي جهة تمثل خطوط الثوار المعتدلة، رأينا أي أحد يمول أو يدعم هذه الفئات الإرهابية المارقة، فإننا سنقف له بالمرصاد، وسنصده، ولن يكون له مكان بيننا».



غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

TT

غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)
مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)

في المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط، على مساحة لا تزيد على 360 كيلومتراً مربعاً، بطول 41 كم، وعرض يتراوح بين 5 و15 كم، يعيش في قطاع غزة نحو مليوني نسمة، ما يجعل القطاع البقعة الأكثر كثافة سكانية في العالم.

تبلغ نسبة الكثافة وفقاً لأرقام حديثة أكثر من 27 ألف ساكن في الكيلومتر المربع الواحد، أما في المخيمات فترتفع الكثافة السكانية إلى حدود 56 ألف ساكن تقريباً بالكيلومتر المربع.

تأتي تسمية القطاع «قطاع غزة» نسبة لأكبر مدنه، غزة، التي تعود مشكلة إسرائيل معها إلى ما قبل احتلالها في عام 1967، عندما كانت تحت الحكم المصري.

فقد تردد ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، في احتلال القطاع بعد حرب 1948، قبل أن يعود بعد 7 سنوات، في أثناء حملة سيناء، لاحتلاله لكن بشكل لم يدُم طويلاً، ثم عاد واحتله وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان عام 1967.

خيام النازحين الفلسطينيين على شاطئ دير البلح وسط قطاع غزة الأربعاء (إ.ب.أ)

في عام 1987، أطلق قطاع غزة شرارة الانتفاضة الشعبية الأولى، وغدا مصدر إزعاج كبيراً لإسرائيل لدرجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، تمنى لو يصحو يوماً ويجد غزة وقد غرقت في البحر.

لكن غزة لم تغرق كما يشتهي رابين، ورمتها إسرائيل في حضن السلطة الفلسطينية عام 1994 على أمل أن تتحول هذه السلطة إلى شرطي حدود. لكن هذا كان أيضاً بمثابة وهم جديد؛ إذ اضطرت إسرائيل إلى شن أولى عملياتها العسكرية ضد غزة بعد تسليمها السلطة بنحو 8 سنوات، وتحديداً في نهاية أبريل (نيسان) 2001.

وفي مايو (أيار) 2004، شنت إسرائيل عملية «قوس قزح»، وفي سبتمبر (أيلول) 2004، عادت ونفذت عملية «أيام الندم». ثم في 2005، انسحبت إسرائيل من قطاع غزة ضمن خطة عرفت آنذاك بـ«خطة فك الارتباط الأحادي الجانب».

بعد الانسحاب شنت إسرائيل حربين سريعين، الأولى في 25 سبتمبر (أيلول) 2005 باسم «أول الغيث»، وهي أول عملية بعد خطة فك الارتباط بأسبوعين، وبعد عام واحد، في يونيو (حزيران) 2006، شنت إسرائيل عملية باسم «سيف جلعاد» في محاولة فاشلة لاستعادة الجندي الإسرائيلي الذي خطفته «حماس» آنذاك جلعاد شاليط، بينما ما زالت السلطة تحكم قطاع غزة.

عام واحد بعد ذلك سيطرت حماس على القطاع ثم توالت حروب أكبر وأوسع وأضخم تطورت معها قدرة الحركة وقدرات الفصائل الأخرى، مثل «الجهاد الإسلامي» التي اضطرت في السنوات الأخيرة لخوض حروب منفردة.

ظلت إسرائيل تقول إن «طنجرة الضغط» في غزة تمثل تهديداً يجب التعامل معه حتى تعاملت معها «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) بانفجار لم تتوقعه أو تستوعبه إسرائيل وجر حرباً دموية على غزة، وأخرى على لبنان، وسلسلة مواجهات باردة في جبهات أخرى في حرب تبدو نصف إقليمية، وما أسهل أن تتحول إلى نصف عالمية.

أبرز الحروب

«الرصاص المصبوب» حسب التسمية الإسرائيلية أو «الفرقان» فلسطينياً:

بدأت في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2008، وشنت خلالها إسرائيل إحدى أكبر عملياتها العسكرية على غزة وأكثرها دموية منذ الانسحاب من القطاع في 2005. واستهلتها بضربة جوية تسببت في مقتل 89 شرطياً تابعين لحركة «حماس»، إضافة إلى نحو 80 آخرين من المدنيين، ثم اقتحمت إسرائيل شمال وجنوب القطاع.

خلفت العمليات الدامية التي استمرت 21 يوماً، نحو 1400 قتيل فلسطيني و5500 جريح، ودمر أكثر من 4000 منزل في غزة، فيما تكبدت إسرائيل أكثر من 14 قتيلاً وإصابة 168 بين جنودها، يضاف إليهم ثلاثة مستوطنين ونحو ألف جريح.

وفي هذه الحرب اتهمت منظمة «هيومان رايتس ووتش» إسرائيل باستخدام الفسفور الأبيض بشكل ممنهج في قصف مناطق مأهولة بالسكان خلال الحرب.

«عمود السحاب» إسرائيلياً أو «حجارة السجيل» فلسطينياً:

أطلقت إسرائيل العملية في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 باغتيال رئيس أركان «حماس»، أحمد الجعبري. واكتفت إسرائيل بالهجمات الجوية ونفذت مئات الطلعات على غزة، وأدت العمليات إلى مقتل 174 فلسطينياً وجرح 1400.

شنت «حماس» أعنف هجوم على إسرائيل آنذاك، واستخدمت للمرة الأولى صواريخ طويلة المدى وصلت إلى تل أبيب والقدس وكانت صادمة للإسرائيليين. وأطلق خلال العملية تجاه إسرائيل أكثر من 1500 صاروخ، سقط من بينها على المدن 58 صاروخاً وجرى اعتراض 431. والبقية سقطت في مساحات مفتوحة. وقتل خلال العملية 5 إسرائيليين (أربعة مدنيين وجندي واحد) بالصواريخ الفلسطينية، بينما أصيب نحو 500 آخرين.

مقاتلون من «كتائب القسام» التابعة لـ«حماس» في قطاع غزة (أرشيفية - «كتائب القسام» عبر «تلغرام»)

«الجرف الصامد» إسرائيلياً أو «العصف المأكول» فلسطينياً:

بدأتها إسرائيل يوم الثلاثاء في 8 يوليو (تموز) 2014، ظلت 51 يوماً، وخلفت أكثر من 1500 قتيل فلسطيني ودماراً كبيراً.

اندلعت الحرب بعد أن اغتالت إسرائيل مسؤولين من حركة «حماس» اتهمتهم أنهم وراء اختطاف وقتل 3 مستوطنين في الضفة الغربية المحتلة.

شنت إسرائيل خلال الحرب أكثر من 60 ألف غارة على القطاع ودمرت 33 نفقاً تابعاً لـ«حماس» التي أطلقت في هذه المواجهة أكثر من 8000 صاروخ وصل بعضها للمرة الأولى في تاريخ المواجهات إلى تل أبيب والقدس وحيفا وتسببت بشل الحركة هناك، بما فيها إغلاق مطار بن غوريون.

قتل في الحرب 68 جندياً إسرائيلياً، و4 مدنيين، وأصيب 2500 بجروح.

قبل نهاية الحرب أعلنت «كتائب القسام» أسرها الجندي الإسرائيلي شاؤول آرون، خلال تصديها لتوغل بري لجيش الاحتلال في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وما زال في الأسر.

«صيحة الفجر»:

عملية بدأتها إسرائيل صباح يوم 12 نوفمبر عام 2019، باغتيال قائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، بهاء أبو العطا، في شقته السكنية في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وردت «حركة الجهاد الإسلامي» بهجوم صاروخي استمر بضعة أيام، أطلقت خلالها مئات الصواريخ على مواقع وبلدات إسرائيلية.

كانت أول حرب لا تشارك فيها «حماس» وتنجح إسرائيل في إبقائها بعيدة.

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

«حارس الأسوار» أو «سيف القدس»:

بدأت شرارتها من القدس بعد مواجهات في حي الشيخ جراح، واقتحام القوات الإسرائيلية للمسجد الأقصى ثم تنظيم مسيرة «الأعلام» نحو البلدة القديمة، وهي المسيرة التي حذرت «حماس» من أنها إذا تقدمت فإنها ستقصف القدس، وهو ما تم فعلاً في يوم العاشر من مايو (أيار) عام 2021.

شنت إسرائيل هجمات مكثفة على غزة وقتلت في 11 يوماً نحو 250 فلسطينياً، وأطلقت الفصائل أكثر من 4 آلاف صاروخ على بلدات ومدن في إسرائيل، ووصلت الصواريخ إلى تخوم مطار رامون، وقتل في الهجمات 12 إسرائيلياً.

 

«الفجر الصادق» أو «وحدة الساحات»:

كررت إسرائيل هجوماً منفرداً على «الجهاد» في الخامس من أغسطس (آب) 2022 واغتالت قائد المنطقة الشمالية لـ«سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، تيسير الجعبري، بعد استنفار أعلنته «الجهاد» رداً على اعتقال مسؤول كبير في الحركة في جنين في الضفة الغربية، وهو بسام السعدي.

ردت «حركة الجهاد الإسلامي» بمئات الصواريخ على بلدات ومدن إسرائيلية، وقالت في بيان إنها عملية مشتركة مع كتائب المقاومة الوطنية وكتائب المجاهدين وكتائب شهداء الأقصى (الجناح العسكري لحركة فتح)، في انتقاد مبطن لعدم مشاركة «حماس» في القتال. توقفت العملية بعد أيام قليلة إثر تدخل وسطاء. وقتل في الهجمات الإسرائيلية 24 فلسطينياً بينهم 6 أطفال.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام خريطة لغزة خلال مؤتمره الصحافي في القدس ليلة الاثنين (إ.ب.أ)

«السهم الواقي» أو «ثأر الأحرار»:

حرب مفاجئة بدأتها إسرائيل في التاسع من مايو 2023، باغتيال 3 من أبرز قادة «سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة)، أمين سر المجلس العسكري لسرايا القدس، جهاد غنام (62 عاماً)، وقائد المنطقة الشمالية في السرايا خليل البهتيني (44 عاماً)، وعضو المكتب السياسي أحد مسؤولي العمل العسكري في الضفة الغربية، المبعد إلى غزة، طارق عز الدين (48 عاماً).

وحرب عام 2023 هي ثالث هجوم تشنه إسرائيل على «الجهاد الإسلامي» منفرداً، الذي رد هذه المرة بتنسيق كامل مع «حماس» عبر الغرفة المشتركة وقصف تل أبيب ومناطق أخرى كثيرة بوابل من الصواريخ تجاوز الـ500 صاروخ على الأقل.

... ثم الحرب الحالية في السابع من أكتوبر 2023.