رحيل صالح المنصور.. المتصالح مع نفسه وفكره

الخطي: حصر صورته في ربطة عنقه الحمراء اختزال مهين لقيمة الإنسان

صالح المنصور
صالح المنصور
TT

رحيل صالح المنصور.. المتصالح مع نفسه وفكره

صالح المنصور
صالح المنصور

ودع الوسط الثقافي في العاصمة السعودية الرياض صالح المنصور أحد ألمع الوجوه الاجتماعية في بلاده، والشخصية اللافتة في المشهد الثقافي الاجتماعي، طوال نصف قرن، مختتمًا بعد رحلة كفاح بدأها في مسقط رأسه الغاط (250 كيلومترا شمال غربي العاصمة السعودية)، وانتهت بالرياض، التي شهدت وفاته ويوارى الثرى اليوم في إحدى مقابرها بحي أم الحمام، وهو من الأحياء الشعبية التي طالما عشقها الراحل واتخذها سكنًا له ولأسرته، وتغنى بها، وقاده الحنين إليها بعد أن هجرها في سنوات الطفرة، معتبرًا أنها حافظت على النسيج الاجتماعي السائد، والعلاقات الحميمية بين سكانها، مقاومة رياح التغيير والنقلات الاجتماعية السريعة والصادمة، متنقلاً في أزقتها وزواريبها، ومستذكرًا محافظته الغاط وقريته (الوسيّعة)، التابعة للمحافظة، التي شهدت ولادته وطفولته وشبابه، وعاش بين حقولها وبساتين نخيلاتها، وشرب من ماء آبارها، وصعد جبالها.
في العاصمة الرياض التي استقر بها بعد محطات قصيرة في مناطق أخرى من بلاده، بدأ صالح المنصور رحلته في مضمار الحياة، ومثل كل أبناء جيله تأثر الراحل بالأجواء السائدة آنذاك، حيث طغت القضية الفلسطينية على المشهد، في حين كانت بعض البلدان العربية تقاوم المستعمر، والبعض منها تخلع رداءه وتلبس رداء الاستقلال، وشكلت كل هذه المعطيات شخصية المنصور ودفعته إلى حمل أفكاره وقناعاته وأطروحاته التي آمن بها.
ارتبط اسم صالح المنصور بالثقافة والأدب، فقد كان أحد ألمع الوجوه في معارض الكتاب التي أقيمت في الرياض طوال العقود الأربعة الماضية، كما كان اسما حاضرًا في النادي الأدبي في العاصمة السعودية، ووجهًا مألوفًا في أنشطته وفعالياته المتعددة، كما كان حاضرًا في الصالونات والمنتديات الفردية، وكان في كل ذلك له مداخلاته اللافتة على كل ما يطرح فيها، ولم يخل الأمر على أن بعضها كان صادمًا لكنه كان مقبولاً بحكم نقاء سريرته وتصالحه معه ذاته وتفكيره بصوت مرتفع.
يقول الكاتب والمثقف كامل الخطي الذي عرف الراحل عن كثب: «كان صالح المنصور متصالحًا مع نفسه، ملتزما بقلقه الوجودي المشروع» معتبرًا أن تصالح صالح مع ذاته وقدرته على التفكير بصوتٍ مسموع شكلا مادة دهشة وتعجب عند كثير ممن عرفوه معرفة عابرة فلم يحملوه على محمل الجد، لا لأن صالح كان فقير المحتوى، ولكن صلابته كانت نابعة من سريرته النقية، وكانت تتناقض تمام التناقض مع السلوك الجمعي المتسم بالازدواجية وبالعيش بوجوه متعددة تتبدل حسب المناسبة.
وذكر الخطي في حديثه أن صالح المنصور لم يكن عضوًا في أي تنظيم سياسي من أي طيف آيديولوجي في أي فترة من فترات حياته، ولم تكن الاشتراكية بالنسبة له سوى وجه من أوجه العدل الاجتماعي، فهو لم يتلق هذه الأفكار عن طريق السماع أو عن طريق التلقين الحزبي، وإنما تبنى تلك الأفكار مدفوعًا بهواجسه الإنسانية الخيّرة التي كانت تتركز في تحقق العدالة على كل المستويات، مشددًا على أن حصر صورة صالح المنصور في إطار ملابسه وربطة العنق الحمراء، فيه اختزال معيب لقيمة الإنسان العظيمة في داخل نفس صالح المنصور.
وزاد بالقول: «لصالح المنصور أصدقاء عرفوه عن كثب، وبعضهم لديه القدرة على إنصافه وتقديم صورته التي تحرره من التنميط الساذج الذي أصبح ضحيته نتيجة عنوان رواية تسبب في كثير من الأذى والضرر لصالح ولأفراد أسرته، لا لذنب ارتكبه صالح، ولكن أعود إلى ما بدأت به من قول في أن تصالح صالح مع ذاته وقدرته على التفكير بصوت مسموع وتحرره من الازدواجية بين القول والعمل، كل ذلك، أثار التعجب والدهشة من شخصيته الفريدة، فظهرت حول شخصيته أعمال يفصل بينها وبين النضج مسافة عظيمة من الوعي النوعي».
واشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي بمئات التغريدات من مثقفين سعوديين نعوا فيها الرجل الذي عاش دهرًا من الزمان على هامش الحضارة، رغم حضوره الدائم في أندية المثقفين وملتقياتهم، وإصراره على التعبير دومًا عن رأيه مهما بدا مخالفًا للسائد، أو صادمًا للحضور.
تحت عنوان «ورحل الشيوعي الأخير!»، كتب الروائي السعودي أحمد الدويحي على صفحته على «فيسبوك»: «أتشرب الآن بحزن فاجعة وصدمة رحيل (الشيوعي الأخير) كما يطلق عليه، والذاكرة تتغذى على ذكريات مع الرجل (النباتي) الذي لا يأكل اللحوم، والنجدي الذي لبس البدلة الإفرنجي المهترئة الوحيدة والكرافتة (ربطة العنق) الحمراء، و(الذي) ينتعل شبشبًا ربما ابتاعه من حراج بن قاسم حيث يداوم في شراء المقتنيات التالفة منه، دون أن يبالي بأحد إلا بقناعاته مع بساطة وحب لكل الناس».
وأضاف الدويحي: «سيفتقد الوسط الثقافي في الرياض حضوره كافة المناسبات الثقافية، ليشكل علامة بارزة ومضيئة رغم حرمانه من الكلام والتعليق الذي استمر طويلاً، لما عرف عنه من جرأة وخصوصًا تبنيه قضايا المرأة وحقوق الإنسان».
الكاتب والناقد السعودي الدكتور سعد البازعي غرّد قائلاً: «رحم الله صالح المنصور، كان يغرد خارج السرب وكم نحن بحاجة إلى المزيد ممن يغردون خارج السرب لكثرة المغردين داخله حتى إن رأى بعضنا نشازا لا تغريدا».
أما الكاتب والروائي خالد اليوسف فقال: «تتذكر حضوره معنا في خيمة الثقافة بجمعية الثقافة والفنون قبل ما يزيد عن عشرين عاما، ومداخلاته و(مناضلاته) الشرسة عن قضاياه الإنسانية التي يؤمن بها، كان يأتي إلينا كل أسبوع ومعه مصوراته الكثيرة.. غفر الله له».
وغرّد على (تويتر) قائلاً: «كان صديق المنتديات والملتقيات منذ عرفته قبل خمس وعشرين سنة».



سيّدتا الحجر تحافظان على سرّ هويتهما الفنية

تمثالان من متحف البحرين الوطني بالمنامة (مقبرة الحجر الأثرية)
تمثالان من متحف البحرين الوطني بالمنامة (مقبرة الحجر الأثرية)
TT

سيّدتا الحجر تحافظان على سرّ هويتهما الفنية

تمثالان من متحف البحرين الوطني بالمنامة (مقبرة الحجر الأثرية)
تمثالان من متحف البحرين الوطني بالمنامة (مقبرة الحجر الأثرية)

تحوي جزيرة البحرين سلسلة كبيرة من المقابر الأثرية، منها مقبرة تُعرف باسم الحجر، تضم مجموعة كبيرة من المدافن الفردية والجماعية، تختزل تاريخاً طويلاً من التقاليد الجنائزية يمتد من الألفية الثانية قبل الميلاد إلى القرون الأولى من عصرنا. في هذه المقبرة التي لم تكشف بعد عن كل مكوّناتها، تم العثور على تمثالين أنثويين في مدفن فارغ من أي عظام بشرية، ويتميّزان بأسلوب فني لا نجد ما يشابهه في مدافن البحرين الغنية بشواهد القبور التصويرية الآدمية، ويشكّلان معاً حالة فريدة في هذا الميدان الأثري الذي ظهرت معالمه تدريجياً خلال أعمال المسح المتواصلة في العقود الأخيرة.

تحمل مقبرة الحجر اسم القرية التي تجاورها، وتحدّها جنوباً قرية أخرى تُعرف باسم القدم. تتوسط المقبرة هاتين القريتين المشرفتين على شارع البديع في المحافظة الشمالية، وتشكل موقعاً أثرياً واسعاً استكشفته إدارة الآثار البحرينية في مطلع السبعينات. تبيّن سريعاً أن هذا الموقع يحوي مقبرة تعود إلى مرحلة استيطانية موغلة في القدم، برزت فيها البحرين حاضرةً من إقليم وسيط امتدّ على ساحل الخليج، عُرف باسم دلمون. أنشئت هذه المقبرة خلال فترة دلمون المبكرة، بين عامي 2000 و1880 قبل الميلاد، وتطوّرت خلال فترة دلمون الوسطى، بين 1400 و1300 يوم خضعت البلاد لسلطة سلالة الكاشيين التي حكمت بلاد الرافدين بعد انهيار دولة بابل الأولى، كما جرى استخدامها في حقبة دلمون الأخيرة، بين 900 و800 قبل الميلاد.

تواصل هذا الاستخدام في الحقبة التالية التي شهدت غياب اسم دلمون، حيث برزت البحرين في ظل العالم الهلنستي المتعدد الأقاليم، وعُرفت باسم تايلوس، كما برزت في ظل الإمبراطورية الفرثية التي شكلت قوة سياسية وثقافية كبرى في إيران القديمة. هكذا تعاقبت الأزمنة في مدافن الحجر الأثرية، وبات من الصعب تحديد مراحل تعاقبها بدقة. تتمثل هذه المدافن بمجمعها الشمالي من القبور المحفورة في الصخور المطلة على شارع البديع في زمننا، وتقابل هذا المجمع سلسلة من المدافن تقع في الجزء الجنوبي من الموقع، تعود إلى حقبة تايلوس. من هذه المدافن مجموعة شواهد القبور من الحجر الجيري المحلي، تتميّز بطابعها التصويري الآدمي، وتشكّل تقليداً تتعدّد شواهده في مقابر البحرين الأثرية.

يتجلّى هذا التقليد الفني في البحرين تحديداً، كما تدل هذه الشواهد التي تتبع أساليب فنية متعدّدة تجمع بين التقاليد الفرثية والهلنستية في قوالب محلية خاصة، كما في نواحٍ متعددة من الشرق الأدنى وبلاد ما بين النهرين. من هذه الشواهد، يبرز تمثالان من مدافن الحجر، عثرت عليهما بعثة بحرينية خلال أعمال المسح التي قامت بها في مطلع تسعينات الماضي، وكشفت عنهما للمرة الأولى حين تمّ عرضهما عام 1999 ضمن معرض خاص بالبحرين، أقيم في معهد العالم العربي بباريس. خرج هذان التمثالان من قبر يقع في تل يحمل رقم 2 في الكشف الخاص بأعمال هذه البعثة، والغريب أن هذا القبر خلا من أي عظام بشرية، كما خلا من أي أوانٍ جنائزية، على عكس ما نراه عادة في القبور المعاصرة له. في هذا القبر الخالي، عُثر على هذين التمثالين منصوبين جنباً إلى جنب، وهما تمثالان متشابهان من النوع النصفي الذي يقتصر على الجزء الأعلى من الجسم، يجسدان سيدتين تتماثل ملامحهما إلى حد التطابق.

يتشابه التمثالان في الملامح والحجم، حيث يبلغ طول الأول 74.5 سنتمتر، ويبلغ طول الثاني 72 سنتمتراً، وعرض كل منهما 37.5 سنتمتر، وسمكه 15 سنتمتراً. تتبع شواهد القبور البحرينية عادة طراز النقش الناتئ على المسافة المسطحة، وتجسّد قامات آدمية تحضر بين أعمدة تعلوها أقواس في أغلب الأحيان. تخرج سيدتا الحجر عن هذا التقليد، وتتبعان تقليداً آخر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالنحت الثلاثي الأبعاد. تغيب الحركة عن هذين التمثالين بشكل كامل، وتحضر حالة من السكون والثبات تميّزت بها التقاليد الشرقية في الدرجة الأولى. الوجه كتلة دائرية ثابتة فوق عنق مستطيلة، وملامحه محدّدة بشكل يمزج بين النحت والنقش. العينان لوزتان واسعتان مجرّدان من البؤبؤ، تحدّ كل منهما أهداب عريضة ناتئة، يعلوها حاجب على شكل قوس. قوسا الحاجبان منفصلان، ومن وسطهما ينسل طرف الأنف المستطيل. الثغر مطبق، مع شق في الوسط يفصل بين شفتيه. الأذنان ظاهرتان، وهما منمنمتان، وتتمثل كل منهما بحِتار مقوّس يحيط بالصيوان، ويضم الشحمة السفلى. الجبين أملس وعريض، ويعلوه شعر يتكون من خصلات منقوشة متجانسة، يفصل بينها فرق في الوسط. تلتف هذه الخصلات إلى الوراء، وتحيط بشبكة أخرى من الخصلات تنسكب عمودياً على الكتفين.

البدن كتلة واحدة، والذراعان ملتصقان به، ويحدّهما شقّان عموديان ناتئان. الصدر الأنثوي ناتئ بخفر شديد، ويعلوه كما يبدو لباس بسيط مجرّد، كما يوحي الشق الناتئ الملتف حول العنق كعقد. تنتصب هاتان السيدتان فوق منصّتين تختلفان في الحجم، وتمثلان حالة فريدة لا نجد ما يماثلها في ميدان النحت الجنائزي البحريني الذي لم يكشف بعد عن سائر مكوناته، وهما على الأرجح من نتاج نهاية القرن الثاني الميلادي، أي من نتاج تايلوس الأخير.

في محاولة لتحديد خصوصية هذين التمثالين، عمد البعض إلى مقارنتهما بقطع من فلسطين تعود إلى تلك الحقبة، وكشفت هذه المقارنة عن شبه لا يبلغ التماثل والتطابق. في الختام، تحافظ سيّدتا الحجر على سرّهما، في انتظار اكتشافات أخرى تسمح بالكشف عن هويتهما الفنية بشكل جليّ.