المعمّمون في الغرب.. صوت الوسطية لمواجهة التشدد

القاهرة تستضيف ممثلي 80 دولة لتصحيح النصوص «المشوّهة»

جزء من  أزمة أئمة المساجد الوافدين إلى الغرب من العالم العربي والإسلامي هو بعدهم عن المجتمع الأوروبي وثقافته
جزء من أزمة أئمة المساجد الوافدين إلى الغرب من العالم العربي والإسلامي هو بعدهم عن المجتمع الأوروبي وثقافته
TT

المعمّمون في الغرب.. صوت الوسطية لمواجهة التشدد

جزء من  أزمة أئمة المساجد الوافدين إلى الغرب من العالم العربي والإسلامي هو بعدهم عن المجتمع الأوروبي وثقافته
جزء من أزمة أئمة المساجد الوافدين إلى الغرب من العالم العربي والإسلامي هو بعدهم عن المجتمع الأوروبي وثقافته

يراهن خبراء ومتابعون لأوضاع الجاليات الإسلامية في الغرب على أن المعممين من الدعاة والأئمة الموفدين إلى أوروبا هم الأمل في نشر صوت الوسطية ووقف نزيف التشدد، الذي تسعى لنشره بعض القوى والتنظيمات والأفراد داخل المجتمعات الغربية.
وكانت ظاهرة «الإسلاموفوبيا» قد تنامت خلال السنوات الأخيرة نتيجة الأفعال الإرهابية التي تنفذها التنظيمات المتطرفة؛ بل لا يكاد يمر يوم واحد من دون أن نسمع عن مظاهرة ضد المسلمين في الدول الأوروبية حتى من دون أي مبرر، وعليه فإن مسلمي الغرب يواجهون مشكلات عدة تفرض عليهم التأكيد مرة تلو الأخرى على براءتهم من هذه الأفعال.
ومع تزايد الهجمات الإرهابية في الغرب يحاول المسلمون، وبخاصة الأئمة والدعاة هناك إلى اتخاذ خطوات جادة للتصدي لهذه الهجمات، في محاولة لتبرئة دين الإسلام مما يحدث. بينما يرى مراقبون أن «الدور الإعلامي حتى الآن لبعض الدعاة والأئمة في الغرب ما زال ضعيفًا، ولا يرقى لمستوى الطموح والتحدي والتقدم الإعلامي الحديث، لذا تسربت الجماعات الإرهابية بأفكارها إلى عقول الشباب والأسر بمفاهيم عن الإسلام خاطئة». ويلفت المتابعون إلى أن بعض من يتولون الخطابة من الدعاة غير أكفاء بالنسبة لمعلوماتهم الشرعية، ولا يعون مشكلات البلدان التي يعيشون فيها؛ ما يجعلهم في «واد» والناس ومشكلاتهم في «واد» آخر.
نظرًا لأهمية دور الأئمة المسلمين في دول الغرب، قررت مصر لأول مرة تنظيم مؤتمر عالمي لدور وهيئات الإفتاء حول العالم برعاية الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وبمشاركة وفود من 80 دولة إسلامية وعربية من مختلف قارات العالم. وفي تصريح له قال مفتي مصر الدكتور شوقي علام إن «المؤتمر يسعى لسحب البساط من التيارات المتشددة، ولتأكيد أن الأئمة والدعاة في الغرب هم نواة نشر الإسلام وتصحيح المفاهيم في الخارج».
الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، ومقرها دار الإفتاء المصرية في القاهرة، هي أول هيئة علمية متخصصة تضم ما يزيد على 21 مفتيًا وعالمًا من مختلف دول وقارات العالم يحملون المنهج الوسطي. وكان قد أعلن عنها خلال ديسمبر (كانون الأول) الماضي في العاصمة المصرية، بهدف تقليص فجوة الاختلاف بين جهات الإفتاء، من خلال التشاور العلمي بصورة المختلفة، والتصدي لظاهرة الفوضى والتطرف في الفتوى.
ولقد أوضحت مصادر مطلعة في دار الإفتاء بمصر أن «مؤتمر القاهرة سوف يعقد تحت عنوان (التكوين العلمي والتأهيل الإفتائي لأئمة المساجد للأقليات المسلمة) لمدة يومين في 17 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، وسيثار خلال المؤتمر مناقشة عدد من القضايا المهمة التي تتعلق بالجاليات المسلمة في الدول الغربية، وكيفية تأهيل أئمة المساجد هناك لمعالجة قضايا التشدّد في الجالية المسلمة والتحديات التي تواجهها».
وأردفت المصادر أن «ملتقى القاهرة يتصدّى بقوة للجماعات المتطرفة التي تستخدم الفتوى كأداة لهدم المجتمعات ونشر الفوضى، وتستغل بعض النصوص الدينية التي تفسرها بمنطق «مشوّه» وغير علمي، من أجل تحقيق مصالحها الشخصية وتبرير أعمالها الإجرامية».
ومن جانبه، قال مفتي مصر «إننا نسعى خلال المؤتمر بمشاركة العلماء لبناء تكتل وسطي من خلال دعم وتأهيل قادة الرأي الديني من أئمة المساجد في الغرب في مجال الإفتاء، وكيفية مواجهة ظاهرة التشدّد والتحديات التي تواجه الجاليات المسلمة في الخارج».
والواقع أن بعض الجاليات المسلمة تشكو من «تقوقع» الأئمة في الغرب حول الذات، أو حول الخطاب الديني المتعلق بالمؤسسة الدينية التابعين لها. ومعلوم أنه سبق أن شن تنظيم «داعش» المتطرف الإرهابي هجمات دامية في عدد من الدول من بينها الولايات المتحدة وفرنسا وبلجيكا، الأمر الذي شجّع حركات متشددة في الغرب على شن حملات عدائية عنصرية ضد المسلمين واتهام الإسلام، بأنه دين قتل وعنف.
المصادر المطلعة في الإفتاء قالت لـ«الشرق الأوسط» إن «الأحداث الإرهابية التي تحدث في كثير من دول العالم تجعلنا أمام تحد متزايد لنقل صورة الإسلام الصحيحة أمام العالم»، مشيرة إلى «أن (داعش) يسعى بقوة لتأهيل جيل جديد من القتلة من المواطنين الأوروبيين خاصة الشباب، لا يحملون في عقولهم ولا قلوبهم سوى منهج التنظيم الدموي الذي يبتهج لرؤية الدماء ومشاهدة القتل والذبح... ولذلك سيتصدى المؤتمر لهذا الوباء اللعين».
من ناحية ثانية، أفاد خبراء بأن جزءًا من أزمة أئمة المساجد الوافدين إلى الغرب من العالم العربي والإسلامي «بعدهم عن المجتمع الأوروبي وثقافته، ما يؤثر في نظرتهم للحياة، فضلاً عن التأثيرات المحتملة على النشء الجديد الذي يتلقى تعاليم الدين على أيدي هؤلاء الأئمة الذين يحملون أفكارًا اجتماعية وثقافية مختلفة، وغالبًا ما تكون غير متوائمة مع المجتمع الجديد الذي يضمهم». ويرى مراقبون أنه في ظاهر الأمر تريد أوروبا أن يتشبّع المسلم الذي يترعرع بين جنباتها بمعظم القيم الغربية، ومنها احترام الرأي الآخر والتسامح والتواصل والالتزام بالأنظمة ومراعاتها وعدم الانحراف عنها؛ ولكن في حقيقة الأمر فهو لـ«كبح جماح» التطرف الذي قد يؤدي إلى الإرهاب من قبل بعض التفسيرات والفتاوى الخاطئة.
* أزمة أهلية
مفتي مصر الدكتور علام قال إن الإسلام مثل الأديان الأخرى يشهد «ظاهرة تصدي غير المتخصصين للفتوى، ممن ليس لهم نصيب وافر من التعليم الديني، وتنصيب أنفسهم مرجعيات دينية، على الرغم من أنهم يفتقرون إلى المقومات التي تؤهلهم للحديث في الشريعة والأخلاق». وأردف قائلاً: «هذا التوجه أدى إلى أن فتح الباب على مصراعيه أمام التفسيرات المتطرفة للإسلام والتي لا أصل لها في الواقع. إذ لم يدرس أحد من هؤلاء المتطرفين الإسلام في أي من معاهد التعليم الديني الموثوق بها، وإنما هم نتاج بيئات مفعمة بالمشكلات، ولقد انخرطوا في تفسيرات مشوهة ومنحرفة لا أساس لها في العقيدة الإسلامية، فغايتهم تحقيق مآرب محض سياسية لا أصل دينيا لها، وهمهم إشاعة الفوضى في العالم».
وعن موضوع المؤتمر، أضاف علام، الذي سيترأس مؤتمر القاهرة، أنه «جرى اختيار موضوع المؤتمر بدقة وعناية، إيمانًا من الإفتاء المصرية بأن الأئمة والدعاة في الغرب هم نواة نشر الإسلام وتصحيح المفاهيم في الخارج، ومن الأهمية بمكان أن يتم تدريبهم وتأهيلهم للتعامل مع النصوص الشرعية، والتعاطي مع معطيات الواقع، وامتلاك أدوات وأساليب الخطاب الديني الصحيح الوسطي البعيد عن التفريط والإفراط، وتأصيل الرباط بين الأئمة والدعاة وبين العلماء الثقات والمؤسسات الإسلامية الكبرى في العالم الإسلامي».
ثم أضاف: «لا شك أن الحوادث الإرهابية التي تقترف في الغرب باسم الإسلام - والإسلام منها براء - لها دور كبير في تصاعد حدة الهجوم على الإسلام والمسلمين، وإذا كان البعض يرى أن هذه الحوادث ظاهرة دينية، فإنها حقًا تمثل مظهرًا من مظاهر التمييز العنصري المقيت، إنه تمييز عنصري ضد الدين. لقد عاش الغرب لفترة طويلة وهو يغضّ الطرف عن المدارس الإسلامية، لأنه لم ير منها إلا كل خير؛ بل إن معظم خريجي هذه المدارس كانوا من خيرة المواطنين في بلدانهم الأوروبية، ولذلك فإن أغلب العمليات الإرهابية التي نفذت في الغرب، إنما نفذت على أيدي وافدين جدد لا ينتمون لهذه المدارس».
وأضاف المفتي الدكتور علام أن علماء الدين الإسلامي أخذوا على عاتقهم «نشر الصورة الحقيقية عن الإسلام، التي نأمل أن تعطي العالم فهم أفضل عن الإسلام»، مشيرا إلى أن خطر الإرهاب أصبح يهدد الجميع».. ولن ننجح في تحقيق أي تقدم ملموس في هذا الملف الخطير؛ إلا إذا تحمل كل طرف مسؤوليته بجدية.
* دعاة أكثر من فقهاء
في هذه الأثناء، يشدد مراقبون على أن «المجتمعات الغربية بحاجة إلى إعداد من الدعاة أكثر منها إلى إعداد من الفقهاء، كما أن هؤلاء الدعاة، بجانب العلم الشرعي، يحتاجون لإتقان فن الإلقاء والإلمام بفنون وأساليب التواصل والحوار مع الآخر». ويشار إلى أنه في أعقاب تصاعد الخطاب العنصري والتمييز ضد الجاليات المسلمة في الكثير من الدول الغربية تحت وقع التأويل المغلوط لآيات القرآن الكريم، تتواتر الادعاءات الكاذبة ضد الإسلام، صاحب الرسالة العالمية، بأنه محرّض هؤلاء القتلة على كل الجرائم التي اقترفوها ضد البشرية لمن يدعى زورًا أنه يمثل الإسلام بوجه قبيح يستحب قتل الأبرياء وترويع الآمنين بفتاوى مغلوطة وآراء محرفة.
جدير بالذكر أنه كان قد اتفق 25 مفتيًا من مختلف دول العالم خلال سبتمبر (أيلول) الماضي في القاهرة على تأسيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم. وقالت المصادر المطلعة في الإفتاء نفسها إن «مهام الأمانة العامة التنسيق بين دور الإفتاء لبناء منظومة إفتائية وسطية علمية منهجية، تعمل على بناء استراتيجيات مشتركة بين دور وهيئات الإفتاء الأعضاء لطرح خطاب إفتائي علمي متصل بالأصل ومرتبط بالعصر؛ لمواجهة التطرف في الفتوى». وأضافت: «تهدف (أي الأمانة) كذلك إلى التبادل المستمر للخبرات بين دور وهيئات الإفتاء أعضاء الأمانة، وتقديم الاستشارات الإفتائية لمؤسسات الإفتاء والمفتين حول العالم، وأيضًا تقديم الدعم العلمي للدول والأقليات الإسلامية لإنشاء دور إفتاء محلية في هذه الدول».
وفي السياق ذاته، قال بعض الأئمة المصريين الذين عملوا لسنوات في الخارج، إنه مطلوب تأهيل وتدريب الأئمة والدعاة سواءً في مجال تعليم اللغات الأجنبية أو العلوم الشرعية وقضايا العصر، فضلاً عن تطوير قدرات الأئمة وتدريبهم على استخدام وسائل العصر، بهدف تخريج جيل من الدعاة قادر على الحوار مع الغرب بلغته، وذلك من أجل تصحيح صورة الإسلام. ويلفت هؤلاء إلى أن المؤتمر بحضوره الواسع من العلماء سيسهم في المساعدة على ذلك، خاصة، أن المؤتمر مهم جدًا في هذا التوقيت، لأن الغرب عندما يجد إمامًا يتحدث بلغتهم، هذا يمثل نقطة فارقة في التواصل والحوار.
* أهمية الترجمة
وهنا علّق سعيد محمود، وهو إمام وخطيب مصري، قائلاً إن «الترجمة لها دور مهم في الدعوة، وهذه الرسالة تهم الإسلام والمسلمين في جميع أنحاء العالم، لأن التواصل مع الغرب بلغتهم أمر ضروري، لتصحيح صورة الإسلام والتواصل مع المسلمين في الخارج. ولا بد أن نعرف كيف يفكر الغرب، وذلك بهدف التواصل والحوار... فالإسلام دين الحوار وليس دين الصدام».
وأضاف محمود أن «على الداعية في الغرب العمل على كشف حقيقة ظاهرة (الإسلاموفوبيا) التي يسببها الجهل بالإسلام وحضارته، والتحذير من آثارها السلبية في السلم العالمي، بما تعمقه من جراحات الماضي، وما تستنبته من بذور العداء والكراهية. وعليه أيضًا التأكيد على التعاضد في إنهاء الحروب والصراعات التي أذاقت الإنسانية الويلات، وخلفت الكثير من الآلام، بالإضافة إلى ضرورة تحصين الشباب من التيارات والأفكار التي تتناقض مع قيم الإسلام وتوجيهاته، والنأي عن كل ما يؤجج الفتن، ويثير عداء الآخرين عن الإسلام وحضارته وأبنائه».
أخيرًا، أكدت المصادر المطلعة في الإفتاء بمصر أن «مؤتمر القاهرة سيحث على ضرورة تعاون المسلمين في الغرب مع الدول والمؤسسات الإسلامية، بما يحفظ سمعة المسلمين، ويصون مقدساتهم عن العبث والعدوان لتصحيح المفاهيم، ولتكوين صورة حقيقية عن الإسلام والمسلمين، فضلاً عن وضع خطط تعزيز الاتصال مع الجهات الموضوعية في الغرب، وحثها على توظيف منابرها الإعلامية والثقافية والأكاديمية في خدمة الحقيقة المسلمة. وأيضًا، الكف عن بث المواد التحريضية ضد الإسلام، والعمل على إشاعة ثقافة التسامح والحوار وترسيخهما في المجتمعات الإنسانية، والتصدي للعنف والتطرف والإرهاب والنظريات المسمومة المروّجة لصراع الحضارات وحتمية المواجهة بين الثقافات المختلفة».



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».