المعمّمون في الغرب.. صوت الوسطية لمواجهة التشدد

القاهرة تستضيف ممثلي 80 دولة لتصحيح النصوص «المشوّهة»

جزء من  أزمة أئمة المساجد الوافدين إلى الغرب من العالم العربي والإسلامي هو بعدهم عن المجتمع الأوروبي وثقافته
جزء من أزمة أئمة المساجد الوافدين إلى الغرب من العالم العربي والإسلامي هو بعدهم عن المجتمع الأوروبي وثقافته
TT

المعمّمون في الغرب.. صوت الوسطية لمواجهة التشدد

جزء من  أزمة أئمة المساجد الوافدين إلى الغرب من العالم العربي والإسلامي هو بعدهم عن المجتمع الأوروبي وثقافته
جزء من أزمة أئمة المساجد الوافدين إلى الغرب من العالم العربي والإسلامي هو بعدهم عن المجتمع الأوروبي وثقافته

يراهن خبراء ومتابعون لأوضاع الجاليات الإسلامية في الغرب على أن المعممين من الدعاة والأئمة الموفدين إلى أوروبا هم الأمل في نشر صوت الوسطية ووقف نزيف التشدد، الذي تسعى لنشره بعض القوى والتنظيمات والأفراد داخل المجتمعات الغربية.
وكانت ظاهرة «الإسلاموفوبيا» قد تنامت خلال السنوات الأخيرة نتيجة الأفعال الإرهابية التي تنفذها التنظيمات المتطرفة؛ بل لا يكاد يمر يوم واحد من دون أن نسمع عن مظاهرة ضد المسلمين في الدول الأوروبية حتى من دون أي مبرر، وعليه فإن مسلمي الغرب يواجهون مشكلات عدة تفرض عليهم التأكيد مرة تلو الأخرى على براءتهم من هذه الأفعال.
ومع تزايد الهجمات الإرهابية في الغرب يحاول المسلمون، وبخاصة الأئمة والدعاة هناك إلى اتخاذ خطوات جادة للتصدي لهذه الهجمات، في محاولة لتبرئة دين الإسلام مما يحدث. بينما يرى مراقبون أن «الدور الإعلامي حتى الآن لبعض الدعاة والأئمة في الغرب ما زال ضعيفًا، ولا يرقى لمستوى الطموح والتحدي والتقدم الإعلامي الحديث، لذا تسربت الجماعات الإرهابية بأفكارها إلى عقول الشباب والأسر بمفاهيم عن الإسلام خاطئة». ويلفت المتابعون إلى أن بعض من يتولون الخطابة من الدعاة غير أكفاء بالنسبة لمعلوماتهم الشرعية، ولا يعون مشكلات البلدان التي يعيشون فيها؛ ما يجعلهم في «واد» والناس ومشكلاتهم في «واد» آخر.
نظرًا لأهمية دور الأئمة المسلمين في دول الغرب، قررت مصر لأول مرة تنظيم مؤتمر عالمي لدور وهيئات الإفتاء حول العالم برعاية الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وبمشاركة وفود من 80 دولة إسلامية وعربية من مختلف قارات العالم. وفي تصريح له قال مفتي مصر الدكتور شوقي علام إن «المؤتمر يسعى لسحب البساط من التيارات المتشددة، ولتأكيد أن الأئمة والدعاة في الغرب هم نواة نشر الإسلام وتصحيح المفاهيم في الخارج».
الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، ومقرها دار الإفتاء المصرية في القاهرة، هي أول هيئة علمية متخصصة تضم ما يزيد على 21 مفتيًا وعالمًا من مختلف دول وقارات العالم يحملون المنهج الوسطي. وكان قد أعلن عنها خلال ديسمبر (كانون الأول) الماضي في العاصمة المصرية، بهدف تقليص فجوة الاختلاف بين جهات الإفتاء، من خلال التشاور العلمي بصورة المختلفة، والتصدي لظاهرة الفوضى والتطرف في الفتوى.
ولقد أوضحت مصادر مطلعة في دار الإفتاء بمصر أن «مؤتمر القاهرة سوف يعقد تحت عنوان (التكوين العلمي والتأهيل الإفتائي لأئمة المساجد للأقليات المسلمة) لمدة يومين في 17 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، وسيثار خلال المؤتمر مناقشة عدد من القضايا المهمة التي تتعلق بالجاليات المسلمة في الدول الغربية، وكيفية تأهيل أئمة المساجد هناك لمعالجة قضايا التشدّد في الجالية المسلمة والتحديات التي تواجهها».
وأردفت المصادر أن «ملتقى القاهرة يتصدّى بقوة للجماعات المتطرفة التي تستخدم الفتوى كأداة لهدم المجتمعات ونشر الفوضى، وتستغل بعض النصوص الدينية التي تفسرها بمنطق «مشوّه» وغير علمي، من أجل تحقيق مصالحها الشخصية وتبرير أعمالها الإجرامية».
ومن جانبه، قال مفتي مصر «إننا نسعى خلال المؤتمر بمشاركة العلماء لبناء تكتل وسطي من خلال دعم وتأهيل قادة الرأي الديني من أئمة المساجد في الغرب في مجال الإفتاء، وكيفية مواجهة ظاهرة التشدّد والتحديات التي تواجه الجاليات المسلمة في الخارج».
والواقع أن بعض الجاليات المسلمة تشكو من «تقوقع» الأئمة في الغرب حول الذات، أو حول الخطاب الديني المتعلق بالمؤسسة الدينية التابعين لها. ومعلوم أنه سبق أن شن تنظيم «داعش» المتطرف الإرهابي هجمات دامية في عدد من الدول من بينها الولايات المتحدة وفرنسا وبلجيكا، الأمر الذي شجّع حركات متشددة في الغرب على شن حملات عدائية عنصرية ضد المسلمين واتهام الإسلام، بأنه دين قتل وعنف.
المصادر المطلعة في الإفتاء قالت لـ«الشرق الأوسط» إن «الأحداث الإرهابية التي تحدث في كثير من دول العالم تجعلنا أمام تحد متزايد لنقل صورة الإسلام الصحيحة أمام العالم»، مشيرة إلى «أن (داعش) يسعى بقوة لتأهيل جيل جديد من القتلة من المواطنين الأوروبيين خاصة الشباب، لا يحملون في عقولهم ولا قلوبهم سوى منهج التنظيم الدموي الذي يبتهج لرؤية الدماء ومشاهدة القتل والذبح... ولذلك سيتصدى المؤتمر لهذا الوباء اللعين».
من ناحية ثانية، أفاد خبراء بأن جزءًا من أزمة أئمة المساجد الوافدين إلى الغرب من العالم العربي والإسلامي «بعدهم عن المجتمع الأوروبي وثقافته، ما يؤثر في نظرتهم للحياة، فضلاً عن التأثيرات المحتملة على النشء الجديد الذي يتلقى تعاليم الدين على أيدي هؤلاء الأئمة الذين يحملون أفكارًا اجتماعية وثقافية مختلفة، وغالبًا ما تكون غير متوائمة مع المجتمع الجديد الذي يضمهم». ويرى مراقبون أنه في ظاهر الأمر تريد أوروبا أن يتشبّع المسلم الذي يترعرع بين جنباتها بمعظم القيم الغربية، ومنها احترام الرأي الآخر والتسامح والتواصل والالتزام بالأنظمة ومراعاتها وعدم الانحراف عنها؛ ولكن في حقيقة الأمر فهو لـ«كبح جماح» التطرف الذي قد يؤدي إلى الإرهاب من قبل بعض التفسيرات والفتاوى الخاطئة.
* أزمة أهلية
مفتي مصر الدكتور علام قال إن الإسلام مثل الأديان الأخرى يشهد «ظاهرة تصدي غير المتخصصين للفتوى، ممن ليس لهم نصيب وافر من التعليم الديني، وتنصيب أنفسهم مرجعيات دينية، على الرغم من أنهم يفتقرون إلى المقومات التي تؤهلهم للحديث في الشريعة والأخلاق». وأردف قائلاً: «هذا التوجه أدى إلى أن فتح الباب على مصراعيه أمام التفسيرات المتطرفة للإسلام والتي لا أصل لها في الواقع. إذ لم يدرس أحد من هؤلاء المتطرفين الإسلام في أي من معاهد التعليم الديني الموثوق بها، وإنما هم نتاج بيئات مفعمة بالمشكلات، ولقد انخرطوا في تفسيرات مشوهة ومنحرفة لا أساس لها في العقيدة الإسلامية، فغايتهم تحقيق مآرب محض سياسية لا أصل دينيا لها، وهمهم إشاعة الفوضى في العالم».
وعن موضوع المؤتمر، أضاف علام، الذي سيترأس مؤتمر القاهرة، أنه «جرى اختيار موضوع المؤتمر بدقة وعناية، إيمانًا من الإفتاء المصرية بأن الأئمة والدعاة في الغرب هم نواة نشر الإسلام وتصحيح المفاهيم في الخارج، ومن الأهمية بمكان أن يتم تدريبهم وتأهيلهم للتعامل مع النصوص الشرعية، والتعاطي مع معطيات الواقع، وامتلاك أدوات وأساليب الخطاب الديني الصحيح الوسطي البعيد عن التفريط والإفراط، وتأصيل الرباط بين الأئمة والدعاة وبين العلماء الثقات والمؤسسات الإسلامية الكبرى في العالم الإسلامي».
ثم أضاف: «لا شك أن الحوادث الإرهابية التي تقترف في الغرب باسم الإسلام - والإسلام منها براء - لها دور كبير في تصاعد حدة الهجوم على الإسلام والمسلمين، وإذا كان البعض يرى أن هذه الحوادث ظاهرة دينية، فإنها حقًا تمثل مظهرًا من مظاهر التمييز العنصري المقيت، إنه تمييز عنصري ضد الدين. لقد عاش الغرب لفترة طويلة وهو يغضّ الطرف عن المدارس الإسلامية، لأنه لم ير منها إلا كل خير؛ بل إن معظم خريجي هذه المدارس كانوا من خيرة المواطنين في بلدانهم الأوروبية، ولذلك فإن أغلب العمليات الإرهابية التي نفذت في الغرب، إنما نفذت على أيدي وافدين جدد لا ينتمون لهذه المدارس».
وأضاف المفتي الدكتور علام أن علماء الدين الإسلامي أخذوا على عاتقهم «نشر الصورة الحقيقية عن الإسلام، التي نأمل أن تعطي العالم فهم أفضل عن الإسلام»، مشيرا إلى أن خطر الإرهاب أصبح يهدد الجميع».. ولن ننجح في تحقيق أي تقدم ملموس في هذا الملف الخطير؛ إلا إذا تحمل كل طرف مسؤوليته بجدية.
* دعاة أكثر من فقهاء
في هذه الأثناء، يشدد مراقبون على أن «المجتمعات الغربية بحاجة إلى إعداد من الدعاة أكثر منها إلى إعداد من الفقهاء، كما أن هؤلاء الدعاة، بجانب العلم الشرعي، يحتاجون لإتقان فن الإلقاء والإلمام بفنون وأساليب التواصل والحوار مع الآخر». ويشار إلى أنه في أعقاب تصاعد الخطاب العنصري والتمييز ضد الجاليات المسلمة في الكثير من الدول الغربية تحت وقع التأويل المغلوط لآيات القرآن الكريم، تتواتر الادعاءات الكاذبة ضد الإسلام، صاحب الرسالة العالمية، بأنه محرّض هؤلاء القتلة على كل الجرائم التي اقترفوها ضد البشرية لمن يدعى زورًا أنه يمثل الإسلام بوجه قبيح يستحب قتل الأبرياء وترويع الآمنين بفتاوى مغلوطة وآراء محرفة.
جدير بالذكر أنه كان قد اتفق 25 مفتيًا من مختلف دول العالم خلال سبتمبر (أيلول) الماضي في القاهرة على تأسيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم. وقالت المصادر المطلعة في الإفتاء نفسها إن «مهام الأمانة العامة التنسيق بين دور الإفتاء لبناء منظومة إفتائية وسطية علمية منهجية، تعمل على بناء استراتيجيات مشتركة بين دور وهيئات الإفتاء الأعضاء لطرح خطاب إفتائي علمي متصل بالأصل ومرتبط بالعصر؛ لمواجهة التطرف في الفتوى». وأضافت: «تهدف (أي الأمانة) كذلك إلى التبادل المستمر للخبرات بين دور وهيئات الإفتاء أعضاء الأمانة، وتقديم الاستشارات الإفتائية لمؤسسات الإفتاء والمفتين حول العالم، وأيضًا تقديم الدعم العلمي للدول والأقليات الإسلامية لإنشاء دور إفتاء محلية في هذه الدول».
وفي السياق ذاته، قال بعض الأئمة المصريين الذين عملوا لسنوات في الخارج، إنه مطلوب تأهيل وتدريب الأئمة والدعاة سواءً في مجال تعليم اللغات الأجنبية أو العلوم الشرعية وقضايا العصر، فضلاً عن تطوير قدرات الأئمة وتدريبهم على استخدام وسائل العصر، بهدف تخريج جيل من الدعاة قادر على الحوار مع الغرب بلغته، وذلك من أجل تصحيح صورة الإسلام. ويلفت هؤلاء إلى أن المؤتمر بحضوره الواسع من العلماء سيسهم في المساعدة على ذلك، خاصة، أن المؤتمر مهم جدًا في هذا التوقيت، لأن الغرب عندما يجد إمامًا يتحدث بلغتهم، هذا يمثل نقطة فارقة في التواصل والحوار.
* أهمية الترجمة
وهنا علّق سعيد محمود، وهو إمام وخطيب مصري، قائلاً إن «الترجمة لها دور مهم في الدعوة، وهذه الرسالة تهم الإسلام والمسلمين في جميع أنحاء العالم، لأن التواصل مع الغرب بلغتهم أمر ضروري، لتصحيح صورة الإسلام والتواصل مع المسلمين في الخارج. ولا بد أن نعرف كيف يفكر الغرب، وذلك بهدف التواصل والحوار... فالإسلام دين الحوار وليس دين الصدام».
وأضاف محمود أن «على الداعية في الغرب العمل على كشف حقيقة ظاهرة (الإسلاموفوبيا) التي يسببها الجهل بالإسلام وحضارته، والتحذير من آثارها السلبية في السلم العالمي، بما تعمقه من جراحات الماضي، وما تستنبته من بذور العداء والكراهية. وعليه أيضًا التأكيد على التعاضد في إنهاء الحروب والصراعات التي أذاقت الإنسانية الويلات، وخلفت الكثير من الآلام، بالإضافة إلى ضرورة تحصين الشباب من التيارات والأفكار التي تتناقض مع قيم الإسلام وتوجيهاته، والنأي عن كل ما يؤجج الفتن، ويثير عداء الآخرين عن الإسلام وحضارته وأبنائه».
أخيرًا، أكدت المصادر المطلعة في الإفتاء بمصر أن «مؤتمر القاهرة سيحث على ضرورة تعاون المسلمين في الغرب مع الدول والمؤسسات الإسلامية، بما يحفظ سمعة المسلمين، ويصون مقدساتهم عن العبث والعدوان لتصحيح المفاهيم، ولتكوين صورة حقيقية عن الإسلام والمسلمين، فضلاً عن وضع خطط تعزيز الاتصال مع الجهات الموضوعية في الغرب، وحثها على توظيف منابرها الإعلامية والثقافية والأكاديمية في خدمة الحقيقة المسلمة. وأيضًا، الكف عن بث المواد التحريضية ضد الإسلام، والعمل على إشاعة ثقافة التسامح والحوار وترسيخهما في المجتمعات الإنسانية، والتصدي للعنف والتطرف والإرهاب والنظريات المسمومة المروّجة لصراع الحضارات وحتمية المواجهة بين الثقافات المختلفة».



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.