مسيحيون سوريون يحذرون من تهجيرهم خارج دمشق القديمة

بكثير من الاستغراب عبّر أستاذ الموسيقى الحلبي عما شاهده في سهرة ليل الخميس في أحد مطاعم منطقة باب شرقي بحي باب توما بدمشق. وأستاذ الموسيقى القادم من حلب الهارب من حلب المشتعلة إلى دمشق ينحدر من عائلة مسيحية محافظة، قال: إنه صدم بأجواء السهر بمنطقة باب شرقي بحي باب توما، واصفا المشهد بـ«كرخانة بالهواء الطلق»، مستهجنا صمت البطاركة المسيحيين عن مشاهد المجون والخلاعة في الشوارع المحيطة بأكبر بطريركيتين في المشرق (بطركية الروم الملكيين وبطركية الروم الأرثوذكس). هذا إضافة للاستفزاز المذهبي الذي يقوم به مقاتلو ما يسمى «حزب الله» والميليشيات الشيعية الإيرانية وغيرها، في الأحياء المسيحية.
أستاذ الموسيقى، الذي رفض الإفصاح عن اسمه، جاء من حلب إلى دمشق ليسكن في منزل قريب له هاجر من الحي العام الماضي إلى ألمانيا، وقال: إنه كان مسرورا؛ كونه سيعيش في حي قريب إلى بيئته لكنه فوجئ بعدد البارات والمطاعم التي تكتظ بالساهرين مساء يومي الخميس والسبت، في «بلد كل شيء فيه عاطل عن الحياة ما عدا آلة القتل والدمار». حسب تعبيره.
وقالت مصادر أخرى من السكان إن الحكومة التابعة للنظام سمحت لأصحاب نواد ليلية بافتتاح نواد في حي باب توما، وهم من الذين كانت قد توقفت أنديتهم عن العمل قبل أربع سنوات جراء الانفلات الأمني وتعطل النشاط السياحي، لدى اندلاع الثورة السورية ضد نظام الأسد، وكانت تلك الأندية والملاهي الليلية تقع على طريق التل، وتعتمد في عملها على السياح، على طلاب الترفيه والفن الهابط. ومع اندلاع العنف أغلقت أبوابها لتعود وتفتح في حي باب شرقي وسط البيوت السكنية؛ ما فسره أهالي الحي بأنها إحدى وسائل تهجير المسيحيين وإفراغ الحي التاريخي من أهله. ويقول أبو نضال، الذي كان يسكن في حي العازية بباب توما (المسيحي)، إنه انتقل للسكن في منزل شقيقته في حي القصور بعد هجرة شقيقته وعائلتها إلى السويد، غير أنه قرر مغادرة حي باب توما «خشية على أولادي وبالأخص البنات من الفساد الأخلاقي الذي احتل الحارة»، مشيرا إلى أن باب توما لم يعد حيا مسيحيا، بل هو محل عمومي لميليشيات جيش الدفاع الوطني تحرسه ميليشيات إيرانية وعراقية ولبنانية شيعية، وأن صور زعيم ما يسمى «حزب الله» وأعلامه الصفراء تحتل جدران الحي إلى جانب صور القديسين والرموز المسيحية.
وتحدثت تيريزا، وهي موظفة في إحدى الوزارات الحكومية، عن استفزز المسيحيين في مناطقهم، مثل مرور مسيرات العزاء الشيعية في حي كله مسيحي، والكتابة على الجدران عبارات مذهبية ليس لها جمهور بين سكان المنطقة، مثل «لبيك يا زهراء، أو يا لبيك حسين»!
وكانت منظمة تسمى «مسيحيون من أجل السلام» قد حذرت، أمس، مما اعتبرته عملية «تهجير ممنهج» للمسيحيين في سوريا، وأدانت في بيان أصدرته أمس: «التجاهل المتعمد لقيم وأخلاقيات المناطق ذات الأغلبية السكانية المسيحية في دمشق، وبالأخص في منطقة باب توما».
وأوضح البيان، أن أهالي باب توما يشتكون من تحويل منطقة سكنهم إلى «مرتع لا أخلاقي رواده من غير أبناء المنطقة ينتهكون حرمتها وأمنها»، ونقل البيان عن أهالي الحي خشيتهم على أطفالهم من «التعرض للاعتداء أو الخطف، وأنهم أصبحوا يتوقون للسفر إلى أمكنة أكثر أمانًا».
وحذرت منظمة «سوريون مسيحيون من أجل السلام» من «التردي الأمني والأخلاقي؛ كونه منهجية متعمدة من قبل نظام بشار الأسد، يهدف منها إلى تهجير من بقي من المسيحيين، ودفعهم لبيع بيوتهم وأملاكهم في منطقة دمشق القديمة المحيطة بمناطقهم المقدسة، ومنها أقدم الكنائس في العالم مثل كنيسة المريمية وكنيسة حنانيا».
واعتبرت المنظمة أن «تغيير التركيبة السكانية لسوريا وإحلال شعوب محتلة غريبة عوضًا عن الشعب السوري الأصيل، هي جريمة تطال كافة مكونات الشعب السوري من مسلمين ومسيحيين، فإما بالقصف أو بفرض المحتل على أهل البلد ينتهك أرضهم ويفرض عادات غريبة لا تمت لهم بصلة، فيصبحون غرباء في بيوتهم ويهجّرون منها قسريًا».
وأشار البيان إلى أن هذه الجريمة تطال المسيحيين اليوم بطرق غير مباشرة، مما «يقوض مرة جديدة ادعاءات النظام بحمايتهم، فلا أمن ولا أمان في مناطقهم، على العكس هم مهددون في كل لحظة يرفضون فيها الذل والمهانة». ودعت منظمة «سوريون مسيحيون من أجل السلام» كافة رجال الدين المسيحي لاتخاذ موقف «حازم تجاه هذه الممارسات والكفّ عن محاباة نظام مستبد قتل ما يزيد على نصف مليون شهيد، وهجّر ما يزيد على عشرة ملايين سوري وتسبب بدمار نصف البلد ولتوقف عن دعمه على حساب حياة السوريين وعدم الخضوع لرغبته بتفريغ البلد من أهلها، فالوجود المسيحي في سوريا أمانة أكبر من أن تباع من أجل أي سلطة». ويتركز المسيحيون في دمشق في أحياء عدة متجاورة، هي، باب شرقي وباب توما في المدينة القديمة ويتصل بهما حي القصاع، ومن ثم حي جناين الورد وحي القصور. وتعتبر دمشق مقرا لثلاث بطريركيات للروم الأرثوذكس الإنطاكيين والروم الكاثوليك، وثالثة للسريان الأرثوذكس، كما تعتبر مقر أبرشية لأغلب الطوائف المسيحية السورية الأخرى.
ويشكل المسيحيون 10 في المائة من مجموع السكان في سوريا، في حين تقول المصادر الرسمية إن نسبة المسيحيين في سوريا هي 8 في المائة. وتختلف الكثافة المسيحية حسب المناطق السورية، فبينما تصل إلى 20 في المائة في منطقة الجزيرة الفراتية و10 في المائة في حلب والمنطقة الساحليّة 15 في المائة، تنخفض إلى 5 في المائة في كل من دمشق ومنطقة سهل الغاب في حماة.
ونجحت دعايات النظام في تعزيز مخاوف المسيحيين من الإسلاميين، ولا سيما تنظيم داعش الإرهابي. ويقول سامر من القصاع، إنه بصفته معارضا لا يجرؤ على الإفصاح عن حقيقة رأيه بالنظام؛ لأن الغالبية في الحي يخافون من «داعش»، ويعتبرون أنه البديل الوحيد لنظام الأسد، بحسب ما روى لـ«الشرق الأوسط»، مضيفا، أنه باع منزله وسيارته كي يؤمّن سفر زوجته وابنتيه المراهقتين إلى النرويج؛ على أمل أن يلحق بهن؛ لأن أجواء القصاع وباب توما لم تعد صالحة لتنشئة ابنتيه.
ويتوقع سامر أنه إذا استمر الوضع على ما هو عليه الآن فلن يبقى مسيحي واحد في الشام. لافتا إلى عمليات بيع البيوت والممتلكات.
وتقول مصادر مطلعة من العاصمة السورية، تحفظت عن ذكر هويتها، لـ«الشرق الأوسط»، إن الأجهزة الأمنية وضعت يدها بشكل مباشر على كل مدينة دمشق، فلا يؤجر أو يباع أو يشترى بيت إلا بعد الحصول على موافقة أمنية، وبالتالي الأجهزة الأمنية تغير ديموغرافية دمشق على هواها، وتختار سكان كل حي حسب ما تريد، فسكان المحافظات والأرياف البعيدة، ولا سيما النازحين من المناطق الثائرة داخل البلد، يمنع عليهم السكن أو التملك داخل مدينة دمشق أو ما يعرف بالمربع الأمني ضمن دمشق.
أما باب توما، فقد أصبح المربع الأمني الخاص بالشيعة الإيرانيين الذين يحرسون الطرق كافة المؤدية إلى مقام السيدة رقية والجامع الأموي. ولا يحمل سامر النظام المسؤولية عما يجري للمسيحيين بالكامل، بل يلقيها على عاتق السلطة الدينية المسيحية التي تسعى هي أيضا لتهجير المسيحيين، سواء بالصمت عن انتهاك رعيتها، أو بتسهيل بعض الكنائس للهجرة، والأهم محاباتها للنظام بذريعة الخوف من الإرهابيين.