مصير سنودن يقسم الإعلام الأميركي

تسريباته تستحق الحصول على جائزة «البوليتزر» الأميركية

إدوارد سنودن
إدوارد سنودن
TT

مصير سنودن يقسم الإعلام الأميركي

إدوارد سنودن
إدوارد سنودن

أتذكرون إدوارد سنودن؟ حسنًا، إنه المبلغ الذي - كما يقولون - سرق الآلاف من الوثائق السرية الرسمية وسلمها إلى حفنة من الصحف، التي نشرت مجموعة مختارة منها.
وبالمعنى الدقيق للكلمة، فإن سنودن سارق، لأنه أخذ ما لا يملكه وسلمه إلى أولئك الذين لا حق لهم فيه. ورغم ذلك، ومن زاوية الكثيرين في الولايات المتحدة، وغيرهم في مختلف دول العالم، فإن سنودن بطل من الأبطال الذين كشفوا الاستخدام الحكومي المفرط للاطلاع على الحياة الخاصة للمواطنين. وتم إقرار الجانب الإيجابي من هذا التصرف من خلال التعديل الذي دخل على القانون الوطني الأميركي، الذي تلقى كثيرًا من الانتقادات والسخرية اللاذعة، مع قانون الحريات الأميركي. وعلى الرغم من أنه ليس صحافيًا، فإن تسريبات سنودن قد وصلت إلى الصحف التي نشرتها، وهي تستحق الحصول على جائزة «البوليتزر» الأميركية، وهي أعلى الجوائز رفيعة المستوى في عالم الصحافة.
ومع ذلك، فإن سنودن، الذي فر من الولايات المتحدة، وبعد جولة عالمية مضنية، انتهى به المستقر في موسكو، لا يزال يعتبر طريد العدالة. والشيء الوحيد الذي اتفق عليه الرئيس باراك أوباما مع هيلاري كلينتون مرشحة الحزب الديمقراطي، ودونالد ترامب مرشح الحزب الجمهوري في انتخابات الرئاسة، هو أن سنودن لا بد أن يسدد ثمن أخطائه، ولا بد أن يحاكم بتهم غير محددة، التي قد تتضمن الاتهام بالخيانة.
يكاد سنودن، الذي يقتله الحنين إلى الوطن، بعدما عاين بنفسه طبيعة الحياة في ظل النظام الروسي، يتسول للسماح له بالعودة إلى الولايات المتحدة، حيث عاين وخبر الحرية التي يشعر بقيمتها الحقيقية الآن، شريطة ألا يتم إرساله إلى السجن هناك.
وحتى وقت قريب، بدت وسائل الإعلام الأميركية قد بلغت حد التوافق فيما بينها على أن المبلغ الشاب لا ينبغي أن يُعامل معاملة سيئة.
وبعد كل شيء، فهو لم يستفد شخصيًا من جريمته، بصرف النظر عن الشهرة التي اكتسبها، والتي - في السنوات المقبلة - قد تفسح له المجال لتأليف كتاب يعود عليه بعائد ضخم، أو قد تنهال عليه التعاقدات التلفزيونية المذهلة.
والآن، رغم كل شيء، يتعرض هذا التوافق لنوع من الضغوط، وهو في جزء منه راجع إلى أن «واشنطن بوست»، الصحيفة التي تصدرت الأحداث ونشرت الوثائق المسروقة، قد طالبت بمعاقبة سنودن وفقًا لأحكام القانون الأميركي.
وفي حين أن «نيويورك بوست» و«وول ستريت جورنال»، تؤيدان كذلك بعض أشكال العقاب بحق سنودن، فإن «نيويورك تايمز» و«يو إس داي توداي» لا تؤيدان مجاوزة الحد في عقاب سنودن.
والمثير للاهتمام في كل ذلك هو أن القضايا الكبرى والأهم المطروحة في هذا السياق لم تتم مناقشتها أبدًا.
على سبيل المثال، كيف يمكن للمرء اعتبار سنودن سارقًا ويتجاهل في نفس الوقت الصحف التي نشرت المواد التي سرقها؟
إذا ما سرقت سيارة ثم بعتها عن طريق أحد الوسطاء فسوف تواجهون معًا الاتهامات الجنائية. فلماذا الاستثناء في هذه القضية؟ والإجابة، بطبيعة الحال، تكمن أنه في ظل ديمقراطية الولايات المتحدة، فإن حرية الصحافة من الأمور المقدسة. ولا يمكنك الزج بالصحافيين في السجون كما تفعل مع باعة السيارات المسروقة.
كل ذلك جيد للغاية. ولكن كيف يمكننا أن نصف استنساخ الوثائق المسروقة التي سقطت في أيدينا بفعل المصادفة بأنها من أعمال الصحافة الحرة؟
إن الصحافة هي عمل الصحافيين الذين يسعون وراء الأخبار والقصص الصحافية المختلفة، من حيث العثور عليها، والتحقق منها، وإعادة التحقق منها مرة أخرى، وعرضها على مختلف الآراء ووجهات النظر، ثم صياغتها من أجل النشر. ولم يحدث أي شيء من ذلك في حالة وثائق سنودن المسروقة.
في الواقع، فإن القصة الوحيدة التي يمكن لصحيفة «واشنطن بوست» أن تكتب عنها تكون على النحو التالي: جاءنا اليوم مقاول شاب يعمل لدى وكالة الأمن القومي الأميركية، ويزعم بأنه يملك وثائق سرية تشير إلى انتهاكات في حقوق المواطنين.
وما بعد ذلك يتوقف بالكلية على مكتب التحقيقات الفيدرالي، والقضاء، والكونغرس، وأي مؤسسات أخرى معنية في الدولة، تكون ذات صلة بهذه القضية. ومن المؤسف، أننا نعيش في عصر صحافة ما بعد «ووترغيت»، حيث يحلم كل صحافي مغمور بأن يكون القديس جورج الذي يقتل نيكسون التنين.



إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي
TT

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي

يرى البعض في فرنسا أن موسم رحيل «العصافير الزرقاء» يلوح في الأفق بقوة، وذلك بعدما أعلنت مجموعة كبيرة من الشخصيات والمؤسسات الإعلامية انسحابها من منصّة التواصل الاجتماعي «إكس» (تويتر سابقاً).

الظاهرة بدأت تدريجياً بسبب ما وصف بـ«الأجواء السامة» التي اتسّمت بها المنصّة. إذ نقلت صحيفة «كابيتال» الفرنسية أن منصة «إكس» فقدت منذ وصول مالكها الحالي إيلون ماسك أكثر من مليون مشترك، إلا أن الوتيرة أخذت تتسارع في الآونة الأخيرة بعد النشاط الفعّال الذي لعبه ماسك في الحملة الانتخابية الأميركية، ومنها تحويله المنصّة إلى أداة دعاية قوية للمرشح الجمهوري والرئيس العائد دونالد ترمب، وكذلك إلى منبر لترويج أفكار اليمين المتطرف، ناهيك من تفاقم إشكالية «الأخبار الزائفة» أو «المضللة» (الفايك نيوز).

نقاش إعلامي محتدم

ومهما يكن من أمر، فإن السؤال الذي صار مطروحاً بإلحاح على وسائل الإعلام: هل نبقى في منصّة «إكس»... أم ننسحب منها؟ حقاً، النقاش محتدم اليوم في فرنسا لدرجة أنه تحّول إلى معضلة حقيقية بالنسبة للمؤسسات الإعلامية، التي انقسمت فيها الآراء بين مؤيد ومعارض.

للتذكير بعض وسائل الإعلام الغربية خارج فرنسا كانت قد حسمت أمرها باكراً بالانسحاب، وكانت صحيفة «الغارديان» البريطانية الأولى التي رحلت عن المنصّة تاركة وراءها ما يناهز الـ11 مليون متابع، تلتها صحيفة «فون غوارديا» الإسبانية، ثم السويدية «داكنز نيهتر».

أما في فرنسا فكانت أولى وسائل الإعلام المنسحبة أسبوعية «ويست فرنس»، وهي صحيفة جهوية تصدر في غرب البلاد، لكنها تتمتع بشعبية كبيرة، إذ تُعد من أكثر الصحف الفرنسية قراءة بأكثر من 630 ألف نسخة تباع يومياً ونحو 5 ملايين زيارة على موقعها عام 2023. ولقد برّر نيكولا ستارك، المدير العام لـ«ويست فرنس»، موقف الصحيفة بـ«غياب التنظيم والمراقبة»، موضحاً «ما عاد صوتنا مسموعاً وسط فوضى كبيرة، وكأننا نقاوم تسونامي من الأخبار الزائفة... تحوّلت (إكس) إلى فضاء لا يحترم القانون بسبب غياب المشرفين». ثم تابع أن هذا القرار لم يكن صعباً على الأسبوعية الفرنسية على أساس أن منصّة التواصل الاجتماعي هي مصدر لأقل من واحد في المائة من الزيارات التي تستهدف موقعها على الشبكة.

بصمات ماسك غيّرت «إكس» (تويتر سابقاً)

«سلبيات» كثيرة بينها بصمات إيلون ماسك

من جهتها، قررت مجموعة «سود ويست» - التي تضم 4 منشورات تصدر في جنوب فرنسا هي «سود ويست»، و«لاروبوبليك دي بيريني»، و«شارانت ليبر» و«دوردون ليبر» - هي الأخرى الانسحاب من منصّة «إكس»، ملخصّة الدوافع في بيان وزع على وسائل الإعلام، جاء فيه أن «غياب الإشراف والمراقبة، وتحديد عدد المنشورات التابعة لحسابات وسائل الإعلام، وإبدال سياسة التوثيق القديمة بواسطة أخرى مدفوعة الثمن، كانت العوامل وراء هذا القرار».

أيضاً الموقع الإخباري المهتم بشؤون البيئة «فير» - أي «أخضر» - انسحب بدوره من «إكس»، تاركاً وراءه عشرين ألف متابع لدوافع وصفها بـ«الأخلاقية»، قائلا إن مضامين المنصّة تتعارض مع قيمه التحريرية. وشرحت جولييت كيف، مديرة الموقع الإخباري، أنه لن يكون لهذا القرار تأثير كبير بما أن الحضور الأهم الذي يسجّله الموقع ليس في «إكس»، وإنما في منصّة «إنستغرام»، حيث لديه فيها أكثر من 200 ألف متابع. ولكن قبل كل هؤلاء، كان قرار انسحاب برنامج «لوكوتيديان» الإخباري الناجح احتجاجاً على التغييرات التي أحدثها إيلون ماسك منذ امتلاكه «إكس» قد أطلق ردود فعل كثيرة وقويّة، لا سيما أن حساب البرنامج كان يجمع أكثر من 900 ألف متابع.

سالومي ساكي

... الفريق المتريّث

في المقابل، وسائل إعلام فرنسية أخرى فضّلت التريّث قبل اتخاذ قرار الانسحاب، وفي خطوة أولى اختارت فتح باب النقاش لدراسة الموضوع بكل حيثياته. وبالفعل، عقدت صحيفة «ليبيراسيون»، ذات التوجّه اليساري، جلسة «تشاور» جمعت الإدارة بالصحافيين والعمال يوم 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي للبحث في مسألة «البقاء مع منصّة (إكس) أو الانسحاب منها؟». وفي هذا الإطار، قال دون ألفون، مدير الصحيفة، في موضوع نشر بصحيفة «لوموند»، ما يلي: «نحن ما زلنا في مرحلة التشاور والنقاش، لكننا حدّدنا لأنفسنا تاريخ 20 يناير (كانون الثاني) (وهو اليوم الذي يصادف تنصيب دونالد ترمب رئيساً للمرة الثانية) لاتخاذ قرار نهائي».

الوضع ذاته ينطبق على الأسبوعية «لاكروا» التي أعلنت في بيان أن الإدارة والصحافيين بصّدد التشاور بشأن الانسحاب أو البقاء، وكذلك «لوموند» التي ذكرت أنها «تدرس» الموضوع، مع الإشارة إلى أن صحافييها كانوا قد احتفظوا بحضور أدنى في المنصّة على الرغم من عدد كبير من المتابعين يصل إلى 11 مليوناً.

من جانب آخر، إذا كان القرار صعب الاتخاذ بالنسبة لوسائل الإعلام لاعتبارات إعلانية واقتصادية، فإن بعض الصحافيين بنوا المسألة من دون أي انتظار، فقد قررت سالومي ساكي، الصحافية المعروفة بتوجهاتها اليسارية والتي تعمل في موقع «بلاست» الإخباري، إغلاق حسابها على «إكس»، ونشرت آخر تغريدة لها يوم 19 نوفمبر الماضي. وفي التغريدة دعت ساكي متابعيها - يصل عددهم إلى أكثر من 200 ألف - إلى اللّحاق بها في منصّة أخرى هي «بلو سكاي»، من دون أن تنسى القول إنها انسحبت من «إكس» بسبب إيلون ماسك وتسييره «الكارثي» للمنّصة.

وفي الاتجاه عينه، قال غيوم إرنر، الإعلامي والمنتج في إذاعة «فرنس كولتو»، بعدما انسحب إنه يفضل «تناول طبق مليء بالعقارب على العودة إلى (إكس)». ثم ذهب أبعد من ذلك ليضيف أنه «لا ينبغي علينا ترك (إكس) فحسب، بل يجب أن نطالب المنصّة بتعويضات بسبب مسؤوليتها في انتشار الأخبار الكاذبة والنظريات التآمرية وتدّني مستوى النقاش البنّاء».

«لوفيغارو»... باقية

هذا، وبين الذين قرّروا الانسحاب وأولئك الذين يفكّرون به جدياً، يوجد رأي ثالث لوسائل الإعلام التي تتذرّع بأنها تريد أن تحافظ على حضورها في المنصّة «لإسماع صوتها» على غرار صحيفة «لوفيغارو» اليمينية. مارك فويي، مدير الصحيفة اليمينية التوجه، صرح بأنها لن تغيّر شيئاً في تعاملها مع «إكس»، فهي ستبقى لتحارب «الأخبار الكاذبة»، وتطالب بتطبيق المراقبة والإشراف بحزم وانتظام.

ولقد تبنّت مواقف مشابهة لـ«لوفيغارو» كل من صحيفة «لي زيكو» الاقتصادية، ويومية «لوباريزيان»، وقناة «تي إف1» و«إم 6»، والقنوات الإخبارية الكبرى مثل «بي إف إم تي في»، و«سي نيوز». وفي حين تتّفق كل المؤسّسات المذكورة على أن المنّصة «أصبحت عبارة عن فضاء سام»، فهي تعترف في الوقت نفسه باستحالة الاستغناء عنها، لأن السؤال الأهم ليس ترك «إكس»، بل أين البديل؟ وهنا أقرّ الصحافي المعروف نيكولا دوموران، خلال حوار على أمواج إذاعة «فرنس إنتير»، بأنه جرّب الاستعاضة عن «إكس» بواسطة «بلو سكاي»، لكنه وجد الأجواء مملة وكان النقاش ضعيفا، الأمر الذي جعله يعود إلى «إكس»، حيث «الأحداث أكثر سخونة» حسب رأيه.

أما الصحافي المخضرم جان ميشال أباتي، فعلى الرغم من انتقاده الشديد للمنصّة وانسحاب برنامج «لوكوتيديان» - الذي يشارك فيه - من «إكس» - فإنه لم يفكر في إغلاق حسابه لكونه الإعلامي الفرنسي الأكثر متابعة؛ إذ يسجل حسابه أكثر من 600 ألف متابع.

في هذه الأثناء، وصفت كارين فوتو، رئيسة موقع «ميديا بارت» الإخباري المستقّل الوضع «بالفخ الذي انغلق على وسائل الإعلام»، حيث «إما البقاء وتعزيز أدوات الدعاية لليمين المتطرّف وإما الانسحاب والتخلّي عن مواجهة النقاش». وللعلم، من الملاحظ أن المنصّة غدت حاجة شبه ماسة لأصحاب القرار والساسة، حيث إن بعضهم يتوجه إليها قبل أن يفكّر في عقد مؤتمر صحافي، وهذا ما حدا بالباحث دومينيك بوليي، من معهد «سيانس بو» للعلوم السياسية، إلى القول في حوار لصحيفة «لوتان» إن منصّة «إكس» بمثابة «الشّر الذي لا بد منه»، إذ تبقى المفضّلة لدى رجال السياسة للإعلان عن القرارات المهمة، وللصحافيين لتداولها والتعليق عليها، مذكّراً بأن الرئيس الأميركي جو بايدن اختار «إكس» للإعلان عن انسحابه من السباق الرئاسي الأخير.