الزهراني: التطرف فكر متوحش.. لكن التاريخ لا يصنعه الحمقى

المدير الجديد لمعهد العالم العربي في باريس انفرد بشغفه بالثقافة الفرنسية

معجب الزهراني - جانب من معهد العالم العربي
معجب الزهراني - جانب من معهد العالم العربي
TT

الزهراني: التطرف فكر متوحش.. لكن التاريخ لا يصنعه الحمقى

معجب الزهراني - جانب من معهد العالم العربي
معجب الزهراني - جانب من معهد العالم العربي

في عام 1979 اختار معجب الزهراني فرنسا وجامعة السوربون خصوصًا لدراسته العليا، رغم أنه حصل على فرصة للتوجه لجامعة كولومبيا في الولايات المتحدة، أسوة بآلاف السعوديين الذين اختاروا الدراسة هناك، لكن الزهراني انفرد منذ ذلك الوقت بشغفه بالثقافة الفرنسية. واحتضنته باريس عشر سنوات (حتى منتصف 1989)، حيث حصل على شهادة «الدرجة العليا في اللغة الفرنسية»، من جامعة السوربون الرابعة، عام 1982، ودبلوم الدراسات المعمقة في الأدب العربي الحديث، من جامعة السوربون الجديدة، عام 1984، وشهادة الدكتوراه في الأدب العام والمقارن، من جامعة السوربون، سنة 1989. عن أطروحة بعنوان: «صورة الغرب في الرواية العربية الحديثة». وها هو يعود إليها مجددًا مطلع سبتمبر (أيلول) الماضي ، مديرًا لمعهد العالم العربي في باريس بعد أن اختاره مجلس السفراء العرب نهاية مايو (أيار) الماضي. وكان عمل قبل ذلك، أستاذا لعلم الجمال والأدب الحديث، بجامعة الملك سعود، ومشرفا على كرسي غازي القصيبي بجامعة اليمامة، كما أنه كاتب ومؤلف الكثير من الدراسات، ومشرف على الكثير من الرسائل العلمية، وناقد في مجال الشعر والأدب والنقد، وهو أيضًا روائي صدرت له مؤخرا رواية «رقص».
أما معهد العالم العربي، فقد تأسس في العام 1980 بمبادرة من 18 دولة عربية، وهو يسعى لأن يكون جسرًا ثقافيًا بين فرنسا والعالم العربي، عبر تشجيع المبادلات الثقافية والمعرفية، خصوصا في مجالات العلوم والتقنيات. وهو يُدار مناصفة بين الدولة الفرنسية والدول العربية عبر مجلس السفراء العرب، ويخضع للقانون الفرنسي، ويقوم المعهد، منذ تأسيسه، على رئيس ومدير. الأول فرنسي يرشحه رئيس الجمهورية الفرنسية، والثاني عربي يختاره مجلس السفراء العرب المؤلّف من 22 دولة. هنا حوار مع الدكتور معجب الزهراني بعد توليه مسؤوليته الجديدة:
> مع تسلمك رئاسة معهد العالم العربي في باريس، ما أولى مهامك في هذا الوقت الحرج الذي يشهد «انعدام الثقة» بين الثقافات؟
- لا علاقة لمهمتي بالظروف العابرة بكل تأكيد. المعهد مؤسسة عريقة عمرها ثلاثة عقود، وهناك أنظمة ولوائح تحدد الصلاحيات النظامية لكل موظف، بغض النظر عن موقعه. نعم ربما يكون للأحداث المؤسفة التي تشير إليها دور المحفز على ضرورة بذل المزيد من الجهد الفاعل للتواصل والتبادل لتعريف الآخرين بثقافة عريقة يمثلها المبدعون المنتجون في كل المجالات، وليس هؤلاء القتلة المنحرفون الذين يعيثون فسادًا في كل مكان.
> هل يمكن لمعهد العالم العربي أن يكون جسرًا ثقافيًا بين فرنسا والعالم العربي يتعالى على عناصر التوتر القائمة؟
- المعهد ليس جسر عبور محايدا، بل هو فضاء تواصل وتفاعل، يلعب دوره ويؤدي وظيفته بكفاءة عالية، كغيره من المؤسسات الثقافية الجادة في كل مكان. ولأنه كسب ثقة كبيرة ومصداقية عالية لدى جمهور متنوع الاتجاهات والاهتمامات بفضل منتجاته الخلاقة خلال عقود فقد زاد عدد زواره حتى تجاوزوا المليونين الآن. وكل من يطلع على برامجه وأنشطته سيدرك أن القائمين عليه يحرصون كل الحرص على التنويع والابتكار لتلبية الحاجات، وإرضاء كافة التطلعات المتوقعة لجمهور باريسي هجين يبحث عن المتعة والفائدة في مدينة جذابة غنية كريمة مع كل مقيم وعابر.
> ماذا يلزمه لتحقيق هذا الهدف؟
- الاستمرارية مع التطوير هو هدف كل مؤسسة ثقافية حديثة فاعلة. وتراكم التجارب والخبرات هو ذخيرة ثمينة لكل من يريد أن يجتهد ويبدع ويضيف لبنة في البناء أو شجرة في الحقل ذاته. لا مجال هنا لاستئناف البدء أو للقطيعة والتأسيس كما يتوهم كثيرون في بلداننا، حيث يحولون المؤسسات إلى حقول تجارب ينقض بعضها بعضًا، فلا خبرة تتعمق ولا عمل ينجز.
> هل نحن، بصفتنا عربا، في حاجة فعليًا إلى التواصل مع فرنسا؟ ماذا تضيف لنا الثقافة الفرنسية؟
- نحن في أمس الحاجة إلى لتواصل الثقافي الخلاق مع كل العالم. ولعل فرنسا من أكثر البلدان الأوروبية أهلية وجاذبية لتواصل كهذا، والسبب بيّن بنفسه. فالجالية العربية الأكبر والأهم في الغرب تقيم في فرنسا كما نعلم. وفرنسا الرسمية والشعبية قريبة جدًا من تطلعات شعوب المنطقة وقضاياها، وفي مقدمتها قضية فلسطين. هذا فضلاً عن تقارب نخبها السياسية المتعاقبة يسارية كانت أو يمينية مع سياسات دول المنطقة العربية، وبخاصة في شمال أفريقيا ودول الخليج. ومن ينسى أن النخب الثقافية العربية التنويرية ظلت تجد في فرنسا الحديثة النموذج الأكثر جاذبية وفتنة بعد أن توجهت أولى البعثات التعليمية إلى مدينة النور منذ بداية القرن التاسع عشر، وظلت الصيرورة متصلة حتى منتصف القرن العشرين. ولعل كبار المفكرين والمبدعين الفرانكفونيين في بلدان المغرب بالأمس واليوم أهم ثمرة للتواصل مع اللغة والثقافة الفرنسية، حيث زال الاستعمار وبقيت الغنيمة.
> ما الذي يميز الثقافة الفرنسية والفرانكفونية تحديدًا، عن الثقافات العالمية الأخرى؟
- الثقافة الفرنسية جزء من الثقافة الغربية الحديثة، وتأثيراتها الكونية لم ولن تنافس تأثيرات الثقافة الإنجليزية دون ريب. لكن المؤكد أنها طالما تميزت بأمرين لا جدال فيهما. الأول تدشينها للدولة الحديثة، حيث مثلت فرنسا ما بعد الثورة الثمرة العملية لعصر التنوير وفكر الأنوار حد أن «هيغل» عد الجمهورية الأولى النموذج العملي المتحقق للوعي أو التاريخ بالمعنى الحديث. والثاني نمط الحياة الراقي المرهف، أو ما يسمى «معرفة العيش» الذي ما زال معترفًا به شرقًا وغربا، ويشمل بالطبع فنون الأكل والشرب واللباس والتخاطب، حد أن باريس تعد عاصمة الموضات الجديدة في مختلف الفنون التي قد تبدأ من أي مكان، لكنها لا تنتشر وتكسب مشروعيتها الجمالية إلا منها. وهناك طرفة شائعة لا تخلو من دلالة بهذا الصدد مفادها أن الأفكار العظيمة تخرج من ألمانيا وتستعمل في بريطانيا وتشيع أو تشع من فرنسا. ولعل أكثر من يعرف هذه المميزات أو الخصوصيات ويعترف بها هم الأميركان الذين يرون في فرنسا النموذج الحضاري الأرقى والأكثر جاذبية رغم أنهم امتداد للثقافة الإنجليزية العريقة كما نعلم. أما من منظور عربي، فالكل يعلم أن الثقافة الفرنسية شكلت المثال أو الحلم الذي رنت إليه النخب المصرية، ثم العربية جيلاً بعد آخر منذ عهد محمد علي حتى اليوم.
> عانت فرنسا من الصدام الثقافي الذي أفرز التطرف والإرهاب وآخرها ما حدث في باريس ونيس وغيرهما.. كيف يمكن لهذا المعهد أن يعيد الثقة للثقافة العربية باعتبارها صالحة للشراكة الأممية؟
- قلت في مناسبات سابقة وأكرر أن تحولات التاريخ تخضع لمنطق أبستمولوجي عميق لا تصنعه ولا تمنعه الحوادث العابرة أيًا كانت. الإرهاب آفة كونية ضرب فرنسا كما ضرب غيرها من قبل، ولا بد أن هناك جماعات عملت وستعمل على استثمار الكارثة لصالحها كما يفعل اليمين المتطرف في أوروبا وأميركا. لكن التاريخ لا يصنعه الحمقى ولا ينصت طويلاً لصراع الجهالات كما يسميه إدوارد سعيد. والمعهد بدأ استجابة لشرط تاريخي عميق، وسيظل يعمل في سياقه لتحقيق أهدافه ولو كره المتطرفون من كل الأعراق والأديان والمذاهب والأحزاب.
> بالمناسبة نتحدث عن التطرف العربي الذي غزا فرنسا، لكننا نغفل أن هناك موجة تطرف مضاد تتمثل في صعود اليمين الفرنسي والأوروبي، وصعود ترامب في الولايات المتحدة.. هل هو عصر الأصوليات المتشابكة، أم هو ردود فعل متجانسة للأصولية الإسلامية؟
- لا يوجد شيء اسمه التطرف العربي، بل هناك تطرف ديني مذهبي من جهة، وتطرف قومي أو وطني من جهة أخرى، والجامع بينهما ما سميته فكر التوحش الذي عادة ما يرى في الآخر المختلف خطرا يهدد وجوده أو هويته أو مصالحه. ومع وجاهة هذا الطرح إلا أنه من الضروري التفريق بين تطرف عبثي متفلت من كل منطق عقلي أو أخلاقي أو قانوني وبين تطرف يحاصره قانون الدولة ذاته ولا يستطيع ممثلوه التفوه بعبارة عنصرية عدائية دون أن يحاكموا بكل صرامة. وفي كل حال التاريخ لا يصنعه الحمقى وحروب الجهالات تزعج الأفراد والجماعات هنا وهناك، لكنها لن تجد لها أفقا مناسبا في عصر يفرض على الجميع المزيد من التواصل والتعاون لمواجهة الرهانات والتحديات المشتركة.
> هل يمكن للثقافة أن تنجح فيما أفسدته السياسة والأصوليات المتوحشة؟
- الثقافة الشاملة للفكريات والعلميات والجماليات هي ما ميز الإنسان عن غيره من الكائنات، بالأمس، وهي ما يؤنسن البشر كل يوم، في كل لحظة اليوم وغدا. السياسة يفترض أن تكون جزءا من الثقافة بهذا المعنى لأنها تعني علم أو فن إدارة الدولة وتنمية طاقاتها البشرية وثرواتها الطبيعية والصناعية بما يضمن سعادة غالبية الأفراد المواطنين. وانحراف الفعل السياسي إلى مسارات خطرة دليل خلل في فكر النخب الحاكمة، وعادة ما ينتهي بزوالها لصالح نخب جديدة تحترم منطق التاريخ ومعطيات الواقع، وتلتزم أخلاقيا وقانونيا بحقوق المجتمعات والشعوب، وهنا يعود دور الثقافة التي توجه السياسة وليس العكس.
> هل يمكن لمعهد العالم العربي أن يستفيد من الحضور الثقافي العربي المنفتح على الحداثة لتعزيز التواصل وتوسيع قاعدة التغيير الإيجابي في العالم العربي؟
- هذا ما أنشئ المعهد من أجله وما يحرص عليه دائما؛ لأن الحداثة كانت وستظل أفقا متسعا لكل فعل تواصلي يروم تعزيز علاقات التبادل والتعارف والتعاون بين الثقافات والشعوب، لكنه لا يستطيع اجتراح المعجزات، خصوصا أن عالمنا العربي مليء بمؤسسات تقليدية معتبرة تعمل ليل نهار ضد كل حداثة وتحديث، ولبعضها قدرة كبيرة على التأثير في علاقات المجتمع، بل والتحكم أحيانا في منظومات التعليم نفسها.
> هل تعول على مشاركة الدول الراعية لمعهد العالم العربي؟ هل هناك مساحة للمثقف العربي غير الرسمي لكي يسهم معكم في المعهد؟
- الدول العربية التي لعبت دورًا رياديا في تأسيس المعهد، وفي مقدمتها المملكة (العربية السعودية) حتمًا، لم تقصر في دعمه، وإن ارتبكت المسيرة في فترة معينة نتيجة اجتهادات خاطئة من إدارات سابقة، أو سوء فهم عابر من قبل حكومات معينة. هناك حاجة ماسة إلى تصحيح المسار وتجديد الثقة بين جميع الأطراف، وهذا تحديدًا ما تعمل عليه الإدارة الحالية بقيادة جاك لانج، ويسرني أن أسهم بجهدي الخاص بهذا الصدد، وكلي ثقة في حكمة المسعى ونبل الهدف المشترك.
> التواصل بين فرنسا والعالم العربي قديم، لكنه متركز في شمال أفريقيا وجزء من الشام، وأنت القادم من الخليج والشرق الأوسط، هل يمكنك أن تفتح مسارات جديدة تعزز الحضور الثقافي بين الضفتين؟
- للجغرافيا والتاريخ منطق يفرض على الجميع. الفضاءات العربية التي يشير إليها السؤال توطدت بينها وبين فرنسا علاقات تواصل وتفاعل متنوعة من بدايات الحقبة الاستعمارية دون شك. لكني واثق تماما أن المعهد اليوم يحرص كل الحرص على توسيع دائرة اهتماماته لتشمل كامل المنطقة العربية كما تدل عليه الفعاليات الكبرى الأنشطة النوعية الصغيرة التي نظمت في الماضي القريب أو البعيد. وهناك بعد آخر للقضية يجب تذكره والتذكير به دائما ويتعلق بالجالية العربية الكبيرة في باريس وفرنسا، وهي في معظمها من شمال أفريقيا والساحل الشامي، ومن حقها علينا جميعا أن نتفهم تطلعاتها وحاجاته قدر الممكن. وفي كل حال نثمن كل اقتراح مهم، وسنحاول جهدنا التفاعل معه؛ عسى أن نلبي كل الطموحات المشروعة لكل الجهات والتوجهات.



أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة
TT

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية، من كتب وتحف وصور فردية وعائلية عبر مراحل حياتها. قدمت إيزابيل الليندي عبر أربع ساعات ونصف الساعة نصائح إلى الكُتاب الناشئين أو مشروع الروائيين الجدد، من خلاصة تجربتها الشخصية في كتابة ونشر 28 كتاباً، تمّت ترجمتها لعشرات اللغات عبر العالم وبِيعت منها ملايين النسخ. يضم الكورس عشرين نصيحة أو درساً مع أمثلة من تجربتها الشخصية أو تجارب كتاب تعدّهم أعلاماً في الأدب اللاتيني والعالمي، مثل غابرييل غارسيا ماركيز.

بدأت الليندي بنقطة أساسية في مقدمة الكورس، وهي أهمية «الصدق والأصالة» في أي حكاية، ثم انتقلت مباشرة إلى الحديث بإسهاب عن صنعة الكتابة بوصفها مهنة تحتاج إلى الكثير من التمرين والانضباط وتحديداً فترة البداية. كما تتطلّب طقوساً مهمة، وتنصح هنا بعدة أمور؛ من أهمها: اختيار يوم محدد يقرّر فيه الكاتب الالتزام بالكتابة. بالنسبة إليها شخصياً، فهو اليوم الذي تلقت فيه رسالة من ناشرتها الإسبانية التي تحدّتها بكتابة كتاب ثانٍ ناجح، بعد «بيت الأرواح»، ففعلت وكان ذلك يوم الثامن من يناير (كانون الثاني)، وهو اليوم الذي لم تغيّره بعد إنجاز عشرات الكتب. تشبه الليندي بداية الكتابة بعملية زراعة بذرة، قد تبدو في بداية نموها نبتة ضعيفة، إلا أنها ستصبح شجرة قوية هي «الكتاب الأول». ركزت أيضاً على ضرورة إبقاء الكاتب مسافة ضرورية من المادة الأساسية، مستعيرة مثال الإعصار فتقول: «حين تكون داخل الإعصار لا يمكنك الكتابة عنه»، وكذلك في الكتابة يجب أن تكون لديك «غرفة توفّر لك الصمت الداخلي والعزلة». بهذا المعنى تتوفر للكاتب تصوراته ومسافته اللازمة؛ ليكتب عن الشخصيات والحدث في أي عمل.

أما عن أهمية القراءة على طول الخط فتقول: «لا يمكن أن تكتب أدباً إن لم تقرأ وتقرأ كثيراً. ربما لكاتبك المفضل، أو غيره، فبذلك تتقن السرد دون انتباه إلى ما تتعلّمه». تنتقل الكاتبة إلى الحديث في أحد الدروس عن صوت الراوي، فتعده موضوعاً بسيطاً للغاية: «إنه الشخص الذي يروي الحكاية بكل تفاصيلها، وقد يكون الحديث بصيغة المتكلم، وهو أسهل بكثير من الحديث بلغة الأنا». ثم تنتقل بنا الليندي إلى موضوع النبرة في السرد، معرفة إياها بالمزاج الذي يأخذ طابعه من الحبكة، فإما أن يكون مستفزاً، مشوقاً، مثيراً... حسب التيمة الأساسية للعمل، سواء كان تاريخياً، رومانسياً أو تراجيدياً إلخ... وهنا تحث الكاتب على التخلي عن إحساس الخوف من عيوب الكتابة مثل ارتكاب الأخطاء، قليلة أو كثيرة. فهي تعدّ ذلك أمراً طبيعياً في عملية الكتابة وتحديداً كتابة الرواية.

وأولت الليندي اهتماماً كبيراً بالبحث عن المزيد، خصوصاً في الروايات التاريخية. فالتفاصيل هي ما يبعث الحياة في القصص. وهنا قدمت مثالاً عن كيفية بحثها قبيل كتابتها لرواية «ابنة الحظ». فتقول: «لقد بحثت في موضوع الرسائل التي كان يرسلها عمال مناجم الذهب، ويدفعون أونصة منه، مقابل إيصال رسالة إلى عائلاتهم. لقد كانت مهنة ساعي البريد خطيرة وتستغرق مخاطرة السفر لمدة قد تستغرق شهرين لعبور مسافة وعرة من الجبال إلى مكان إرسال الرسائل»، قرأت الليندي مثل هذه المعلومات في رسائل من أرشيف المكتبة الوطنية في تشيلي.

في منتصف هذه الدورة التعليمية، وتحديداً في الدرس التاسع، ركزت الليندي على تفصيل رسم شخصيات مقنعة: «ليس مهماً أن تحب الشرير في الرواية أو المشهد المسرحي، المهم أن تفهم شره». وكما في مجمل أجزاء الكورس، أعطت الكاتبة أمثلة من تجربتها الروائية وطريقتها في رسم ملامح شخصياتها، فهي تتجنّب الوصف الشكلي إن لم يكن ضرورياً، وإن اضطرت تحرص أن يكون مختلفاً وبعيداً عن المعتاد والكليشيهات.

احتلّت الحبكة والبنية موضوع الدرس الثاني عشر، وفيه عدّت إيزابيل أن أهم نصيحة يمكن إعطاؤها هي تشكيل بداية بسيطة للحبكة، فذلك يفسح مجالاً للشخصية أو الشخصيات كي تتجول بحرية في الزمان والمكان. أما الجملة الأولى فكانت موضوع الدرس الثالث عشر، وتعدّه الليندي مهماً جداً، فهي «الباب الذي يفتحه الكاتب لقارئه كي يدخل في الحكاية». أما المقطع الأول فهو يهيئ للصوت الأساسي في الرواية. مع ضرورة تجنب الكليشيهات، خصوصاً في الاستعارات التي قد تنقلب وتصبح فخاً مملاً.

خصصت الكاتبة درساً أيضاً عن الروتين والانضباط وعملية خلق عادة للكتابة، فهي بمثابة تكوين «عضلات لجسد الكتابة»، يتطلّب التمرين والتكرار. يلاحظ المستمع في هذا الدرس نقاطاً طُرحت في الدروس الأولى عن طقوس الكتابة. وهنا كما في «سن الأربعين، وأنا أعمل في وظيفتين، استلزم مني ذلك العمل منذ الساعة السابعة صباحاً والعودة في السابعة مساء». لم أكن أفوّت وقتاً لتدوين ملاحظاتي في دفتر أحمله معي أينما ذهبت «كطفلي الصغير»، وخلال عام كتبت 560 صفحة شكلت مسودة «بيت الأرواح». لقد صممت الليندي على كتابة ما تراكم في داخلها خلال السنوات الماضية، بعد مغادرتها القسرية لتشيلي، بسبب انقلاب بينوشيه الذي أطاح بسلفادور الليندي. استخدمت الكاتبة هذه الاستعارة أكثر من مرة؛ لتؤكد أهمية الشغف «إن كنت تود الكتابة، يمكنك فعل ذلك في أي مكان، فالكتابة كممارسة الحب، إن أردتها من أعماقك فستجد دوماً الوقت والمكان لفعلها».

في الدرس السادس عشر، تشبه الكاتبة تفاصيل الرواية بخصلات الشعر التي يمكن ضفرها بإتقان خصوصاً الخصلة الوسطى، فهي التي تجمع طرفي الحكاية بجزالة. يمكن للكاتب أن يضيف خصلات إضافية لجديلة الحكاية، ويجعل الشخصيات أكثر عدداً وقصصها أكثر تعقيداً. استخدمت الليندي مثال أي مسرحية من مسرحيات شكسبير، مشبهة إياها بعشرات الخصل المعقدة التي تتضافر معاً وتخلق نصاً مذهلاً.

أما عن التعاطي مع أصوات الرواية والانتباه لأصالة المكان الذي قد يتطلّب استخداماً معيناً بثقافة أو جغرافية ما، فقد خصّصت له الكاتبة أيضاً درساً مستقلاً أتبعته مباشرة بالحديث عن أهمية الحوار بين الشخصيات. وهنا أشارت الليندي إلى إمكانية تجريب أي كاتب للقراءة الشخصية بصوت عالٍ. مخطوط روايته مثلاً، قد يضطره الأمر إلى تعديل الحوار أو اختصاره.

بالاقتراب من نهاية تلك الدورة التعليمية المصغرة، تطرّقت الليندي إلى موضوع التصعيد، مستعيرة مثال نقاط الصمت بين العلامات الموسيقية ومدى أهميتها. وكذلك مثال من يلقون النكت الساخرة أو المزحات، حين يؤجلون جوهر المزحة تقريباً للنهاية، مما يجعل المستمع متشوقاً.

أربع ساعات ونصف الساعة أطلّت خلالها الكاتبة الشهيرة عبر منصة «مايسترو» في «هيئة الإذاعة البريطانية»، قدّمت خلالها إلى قرّائها ومحبيها خلاصة تجربتها في محبة الكتابة وطرائق صناعتها

أما عن نهاية القصة أو الرواية التي صمّمت على أن تكون نهاية النصائح، في آخر الكورس، فتكثفها بالقول: «في سياق الكتابة وتطوير الحبكة وتصعيدها، ليس مستغرباً أن يفهم الكاتب جميع شخصياته ويحدّد نبرات أصواتهم، وكذلك منتهى الحكاية ومآل الشخصية الأساسية أحياناً أو الشخصيات. قد تغيّر جملة أو حركة مسار الحكاية كلها، وتُعطي للنهاية لمسة لا تُنسى». استعارت الكاتبة كلمة واحدة من المشهد الأخير في رواية «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، عن العاشقين الأبديين في لقائهما المتأخر بعد خمسين عاماً من الفراق: «لقد أبحرا، أبحرا إلى الأبد». فتعلّق بالقول: «لو اكتفى الكاتب بجملة (أبحرا)، لن يكون لتلك النهاية ذات التأثير. حين أضاف لهما (إلى الأبد) منح الخلود لتلك النهاية، وأعطى القارئ مشهداً لا يُنسى».

اختتمت الليندي نصائحها المهمة بخلاصة شخصية وعامة عن النشر، مركزة على ضرورة الكتابة من أجل المتعة، لأنها بصفتها مهنة لن تمنح الشهرة أو المال بسهولة أو بسرعة. ومع ذلك حثت المستمع والمشاهد على الكتابة بكل الأحوال. وهنا نبهت الكاتبة على أهمية العلاقات الاجتماعية والمهنية لجميع الكتاب الناشئين، وحتى المشهورين. وكذلك على حضور مؤتمرات ومهرجانات تساعد جميعها على توسيع دائرة المعارف.

نصائح إيزابيل العشرون، أشبه بحكاية حب حقيقية عن تجربة الروائية الثمانينية التي لم يوقفها شيء عن الكتابة، لا المنفى ولا إخفاقات الزواج والطلاق لأكثر من مرة، ولا خسارة ابنتها الوحيدة... بل جعلت من كل محنة نقطة انطلاق، أو سبباً للكتابة، وهذا ما ذكرته في لقطة الدعاية للكورس: «إن الأدب العظيم غالباً ما ينطلق من المحن الشخصية أو العامة».

يُذكر أن هذه الدورة التعليمية وشبيهاتها غير مجانية، إلا أنها بالقياس لقيمتها وأهميتها تُعدّ رمزية، بل متواضعة وقد استقطبت «هيئة الإذاعة البريطانية» قبل إيزابيل الليندي كتاباً آخرين؛ مثل: مارغريت أتوود وسلمان رشدي وغيرهما؛ لتقديم محتويات مشابهة.