معرض «السرياليون المصريون».. لوحات تعبّر عن مآسي الإنسانية

يضم أكثر من 150 لوحة ومنحوتة توثق تاريخ السريالية المصرية

جانب من المعرض ({الشرق الأوسط}) - لوحة «الطفل الأحمر» للفنان أريستيد بابا جورج
جانب من المعرض ({الشرق الأوسط}) - لوحة «الطفل الأحمر» للفنان أريستيد بابا جورج
TT

معرض «السرياليون المصريون».. لوحات تعبّر عن مآسي الإنسانية

جانب من المعرض ({الشرق الأوسط}) - لوحة «الطفل الأحمر» للفنان أريستيد بابا جورج
جانب من المعرض ({الشرق الأوسط}) - لوحة «الطفل الأحمر» للفنان أريستيد بابا جورج

يحتضن قصر الفنون بدار الأوبرا المصرية معرضا فنيا فريدا تحت عنوان: «حين يصبح الفن حرية: السرياليون المصريون (1938 - 1965)». يحمل المعرض إرثا فنيا مميزا يعكس بدايات وإرهاصات الحداثة في الفن المصري المعاصر ومدى تفاعله مع الفن الغربي المعاصر. ينظم المعرض مؤسسة الشارقة للفنون بالتعاون مع قطاع الفنون التشكيلية في وزارة الثقافة المصرية. افتتح المعرض، أول من أمس، حلمي النمنم وزير الثقافة المصري، بحضور الشيخة حور القاسمى، رئيسة مؤسسة الشارقة للفنون. كما حضر عدد من الكتاب والمخرجين السينمائيين والمهتمين بالحركة التشكيلية، منهم: الكاتب منير عامر، والمخرج خيري بشارة، والمخرج خالد يوسف، والفنان التشكيلي محمد عبلة.
يضم المعرض ما يزيد على 150 لوحة ومنحوتة وكمًّا من الوثائق والصور الفوتوغرافية التي تعكس روافد واتجاهات المدرسة السريالية المصرية. قام بالإعداد لهذا المعرض الناقد والأكاديمي السوداني د. صلاح حسن، الأستاذ بجامعة كورنيل، والنحات المصري إيهاب اللبان، بالتنسيق مع عدة جهات ومتاحف وعدد من الهواة الذين يقتنون أعمالا لكبار رواد السريالية في مصر.
انطلق المعرض في القاهرة ويستمر حتى 28 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، ومن ثم سيجوب مواقع أخرى سيتم الإعلان عنها، قبل أن يختتم جولته في المباني الفنية لمؤسسة الشارقة للفنون في عام 2018.
يسلط هذا المعرض الضوء على الحركة التشكيلية المصرية في القرن الماضي من منتصف الأربعينات وحتى أوائل الستينات وظهور الجماعات الفنية، مثل: «جماعة الفن والحرية» التي ضمت جورج حنين، ورمسيس يونان، وفؤاد كامل، وأنور كامل، وكامل التلمساني.. وغيرهم، وجماعة «الفن المعاصر» التي ضمت عبد الهادي الجزار، وكمال يوسف، وحامد ندا، وماهر رائف، وسالم الحبشي (مجلي)، وسمير رافع، وإبراهيم مسعودة.. وغيرهم ممن درسوا تحت وصاية الأستاذ الملهم حسين يوسف أمين.
وفي كلمتها عن المعرض، قالت الشيخة حور القاسمي: «يبرز المعرض الجماليات الأسلوبية للفنانين المصريين، ويُعَد توقيت معرض (حين يصبح الفن حرية: السرياليون المصريون – 1938/ 1965) ملائمًا، حيث يتزامن مع الاهتمام المتزايد بآداب السرياليين المصريين، وكتاباتهم، وأعمالهم الفنية وسياساتهم. وفي ظل تصاعد المدارس الفنية الجديدة التي سلطت الضوء على الطبيعة العالمية للسريالية كحركة فنية، يصبح هذا المشروع أكثر إلحاحًا، حيث يركز على أهمية وعمق الإرث الذي خلَّفه السرياليون المصريون على الحداثة المصرية».
يستكشف المعرض تاريخ وتطور السرياليين المصريين، وعلاقتهم القوية بنظرائهم الغربيين، خصوصا السرياليين الفرنسيين، ومساهماتهم بمبدأ الأممية، ومناهضة الفاشية، والاحتجاج العالمي ضد الحروب، وضد الاستعمار في القرن العشرين.
في أحد أرجاء المعرض، وقف مجموعة من شباب التشكيليين الفرنسيين يناقشون الرموز التي تتضمنها لوحات عبد الهادي الجزار وصور فان ليو ويعقدون المقارنات مع أعمال الفنان الفرنسي إيفي تانجي، وفيكتور برونو، ومارسيل دو شامب، بينما ذهبت مجموعة من السينمائيين المصريين لتفقد الخطابات والوثائق الخاصة بكامل التلمساني.
لا شك أن المعرض يثير شهية الباحثين والنقاد المتخصصين لمزيد من البحث حول تاريخ وإرث المذهب السريالي، خصوصا المصري، حيث اعتنق عد كبير من الفنانين والمفكرين هذا المذهب الغني وترجمه كل منهم وفقا لثقافته وشخصيته، وذلك في مجتمع متعدد الجنسيات والثقافات، حين كانت مصر كوزموبوليتانية.
الفنان إيهاب اللبان، الدينامو المحرك للمعرض، ظل يجوب أدوار قصر الفنون وممراته متابعا ردود فعل زوار المعرض، وقال لـ«الشرق الأوسط»: «هذا المعرض جاء نتاج مؤتمر عالمي عقد في الجامعة الأميركية بالقاهرة نهاية العام الماضي، ويأتي المعرض بعد عامين من التنسيق والإعداد مع مؤسسة الشارقة للفنون، وسوف يخرج في نهاية المعرض كتيب شامل عن المعرض وعن الحركة السريالية المصرية». ويؤكد أن «هدفنا هو التعريف بالفن السريالي المصري، والتوثيق لأعمال رواد هذه الحركة المهمة التي لم تأخذ حقها في الدراسة والبحث، إلى جانب إنعاش سوق الفن المصري والترويج له عربيا وأوروبيا». وقال: «يضم وثائق تعرض لأول مرة تكشف قيمة هؤلاء الفنانين فكريا وفنيا»، مضيفا: «سوف يرى الجمهور معرضا مغايرا عن هؤلاء الفنانين».
تجولت في أرجاء المعرض الغني الذي يحتاج لأكثر من زيارة، لكن بصفة عامة تجمع اللوحات والصور الفوتوغرافية، مجموعة سمات مشتركة بين مبدعيها، وهي: تركيزها على الرموز ذات المضامين الفكرية، أو تلك المستوحاة من الطبيعة، وقوة بناء اللوحات وكثرة تفاصيلها، التي تجعل المشاهد لها يغوص في كل مكون للوحة ويهيم بين التشكيلات اللونية وكأنها تدفعه للغوص في كوامن اللحظة اللاشعورية التي استحضرها الفنان.
في حضرة اللوحات ستحلق في عالم الميتافيزيقا وعالم من الأفكار والتوجهات وستشعر بسحر الخيال. سوف تستشعر ضربات الفرشاة التي تعكس خواطر الفنانين العابرة وأحاسيسهم وحركتهم العضلية التلقائية وتشرد بذهنك متسائلا: كيف استطاع هؤلاء الفنانون التعبير عن تلك المشاعر والهواجس الإنسانية التي تتخطى الأزمنة والعصور فنشعر بأنها وليدة إنتاج عصرنا هذا، بل إنها تتحدث عن الأحداث التي تمر بنا، لا سيما في عالم يعيش يوميا على أخبار القتال والتفجيرات والاغتيالات؟
أما عن تنسيق لوحات المعرض، فقد تم بعناية تامة تعكس هدف القائمين عليه بالمقاربة ما بين السريالية المصرية ونظيرتها الأوروبية. كما ضم فاترينات لعرض الوثائق والخطابات ونسخ من مجلة «التطور» أول مجلة اشتراكية عربية التي صدر أول أعدادها عام 1940، ومنشورات جماعة «فن وحرية» التي تكشف رغبة الجماعة في تغيير المجتمع المصري.
تدور الموضوعات التي تعالجها لوحات المعرض حول: التحرر وتحرير المرأة، والتمرد على التقاليد الاجتماعية والدينية، وتقديس الحرية الإنسانية، والطفولة وأحلامها، وما وراء الطبيعة، والقصص الأسطورية، ومشاعر الكبت والحرمان.
تستوقفك لوحة «نذير العاصفة»، إحدى لوحات رمسيس يونان، وهي من مقتنيات المتحف المصري للفن الحديث، بشخوصها الهلامية التي تشبه شخوصا ضبابيين وسط الدخان. ومن مقتنيات متحف الفنون الجميلة بالإسكندرية، تأخذ لوحة «الطفل الأحمر» للفنان أريستيد بابا جورج العقل ببساطتها وقدرتها القوية على التعبير عن عذابات الطفولة، وقد شعرت بمدى تقاربها مع صورة الطفل السوري عمران، فكلاهما يحمل تساؤلات وهواجس عن المستقبل مع ذهول وشرود. كما تعبر لوحة الفنان محمد القباني «الإنسان والإصرار» التي رسمها عام 1971 عن هول مأساة الهجرة غير الشرعية في وقتنا الحالي أو معاناة اللاجئين الهاربين من جحيم الحروب عبر البحار.. إنها براعة الفنان في التعبير عن قضايا الإنسانية. أما منحوتة «نظرة» للفنان عبد الهادي الوشاحي، فعلى الفور سوف تلحظ فيها تأثره بالنحات ألبرتو جياكوميتي، واستخدم فيها خامة البوليستر بانسيابية وفخامة النحب الإغريقي.
تحدثت إلى صاحب فكرة معرض ومؤتمر «السرياليون المصريون» د. صلاح حسن، بروفسور كرسي أستاذية غولدوين سميث، ومدير معهد دراسة الحداثات المقارنة، بجامعة كورنيل، الذي قال: «لم يكن هذا المعرض ليخرج للنور لولا اهتمام مؤسسة الشارقة للفنون ودورها في تعميق سرديات تاريخ الفنون الحديثة، وإلقاء الضوء على أهم التجارب الإبداعية في العالم العربي. وبكل تأكيد السريالية المصرية، إحدى أهم المدارس الفنية التي اصطبغت بصبغة عالمية، وهي حركة حداثية ما زالت مؤثرة، لذا أطلقنا على بعض اللوحات: (ما بعد السريالية)، لأن بعض الفنانين واصلوا التيار السريالي».
وأضاف: «السريالية انبثقت عن الحركة الدادية، ولكن لا يمكن فصلها عن الحركات السياسية في ذاك الوقت من القرن الماضي، وهي متأثرة بشدة بالشيوعية والتروتسكية».
وحول الشعور الذي يتملك مشاهد اللوحات من أنها شديدة المعاصرة للوقت الحالي وقد تشابهت مع اللوحات التي تستعين بالتقنيات التكنولوجية الحديثة، قال: «التيار السريالي هو تيار واحد ومؤثر، لكنه انتهى، لكن الخلق والإبداع مستمر، لكن العالم العربي حاليا في مرحلة معقدة وأشياء خطيرة من الممكن أن تنبثق عنها حركات فنية مهمة، خصوصا أن هناك كثيرا من الفنانين مهتمين بقضايا الحرب والسلام». وأضاف: «وظيفة الفن دائما هي تجاوز الواقع والحلم بالمستقبل والتأثيرات، الحالية ستتمخض عنها حركة فنية، لكن لا يمكن التنبؤ بالمستقبل».
وأشار حسن إلى أن المعرض مهمته التعريف بكل رواد السريالية، لذا «سوف نضيف للمعرض مزيدا من المقتنيات واللوحات في الجولات المقبلة».
في أحد أركان المعرض، ستجد مجموعة من صور «البورتريه» هي مجموعة الفنان والمصور ليو بويادجيان الشهير باسم فان ليو (1920 - 2002)، وكان يدير استوديو بالقاهرة، تلك الصور التي التقطها بحرفية مبهرة لشخصية آنجيلو دي ريتز التي التقطت في ميزون دي ارتيستس.. تبرز الصور تأثره بالفنان فان غوخ، الذي اختار أن يضع مقطعا من اسمه مع اسمه الأصلي تعبيرا عن ولعه الشديد به، وهو ما انعكس بصريا على صوره الفوتوغرافية. استخدم ليو تقنية التصوير عبر الألواح الزجاجية لإنتاج صور ضبابية، وتوظيف التأثيرات الضوئية لإحداث ظلال متباينة، كظل الطائرة الذي يظهر في أحد البورتريهات الشخصية له تعبيرا عن الحرب العالمية الثانية، بينما تعبر صورته الشخصية مع تمثال نصفي لماري أنطوانيت عن غياب الأنثى في حياته أو ربما وجودها غير المكتمل. تتضمن المعروضات الخاصة بفان ليو أيضا تقنيات غريبة، مثل استخدام الصور السلبية أو النيجاتيف، بتعريضها لضوء الشمس وما يحدثه ذلك من تأثير يشبه تقنية الغرافيك الحالية. ويثير هذا الجزء من المعرض الشغف لمعرفة المزيد عن علاقة ليو بالحركة السريالية المصرية وعلاقته بالفنان جاك أوفاديا عضو «جماعة الفن والحرية» الذي قال في أحد مقالاته إن ليو لم يؤمن قط بالسريالية!
وفي أحد ممرات قصر الفنون، تأسرك لوحات الفنانة المصرية إنجي أفلاطون التي تتلمذت على يد الفنان كامل التلمساني، وتبهرك براعتها في ترويضها عناصر الطبيعة بأشكال وأجساد إنسانية تتعذب وتتألم في طريقها للتحرر والانطلاق من براثن سطوة ما، وتبدو في لوحاتها نزعات التمرد والثورة على الواقع، فقد كانت تسعى مع «جماعة الفن والحرية» للتحرر على المستوى الفني من القيود والقواعد الأكاديمية في الرسم والمنقولة من الخارج، وربما قد يساعد المتلقي أن يقرأ سيرة إنجي أفلاطون ومذكراتها حتى يمكنه تلقي أحاسيس حية جسدتها أفلاطون مع كل ضربة فرشاة.
في بهو قصر الفنون وبين لوحات لجماعة الفن والحرية، تحدث الفنان التشكيلي محمد عبلة لـ«الشرق الأوسط» عقب جولة في المعرض متحدثا عن انطباعاته الأولية، قائلا: «المعرض من أهم المعارض التشكيلية، فهو يقدم فرصة كبيرة جدا لنا لكي نرى كل هذه الأعمال متجاورة، تلك التي كنا نراها في الكتب فقط، وأن ندرسها عن كثب، ونتعرف على أثر تلك الحركة الفنية على الفنانين من روادها». وبشغف شديد يقول: «لقد كان من الرائع أن نرى هذا الكم من الوثائق والخطابات والمراسلات بين الفنانين المصريين ونظرائهم الغربيين، وقد أبهرتني لوحات الفنان عبد الهادي الجزار الكبيرة جدا، وأيضا (الاستكتشات) الخاصة به، وهذا المعرض يحتاج لزيارات متأنية لدراسة تلك اللوحات وقراءتها جيدا».
ويعترض عبلة على بعض اللوحات التي ضمها المعرض تحت عنوان: «ما بعد السريالية» قائلا: «أعتبره إقحاما في غير محله، وعلى تيار السريالية، لأن السريالية بصفتها مدرسة فنية انتهت، ولا يصح مع وجود أعمال وفنانين حداثيين بعدها أن ينتسبوا إليها، لأنها كانت فكرا وتيارا فنيا له أبعاده وخصوصيته المرتبطة بحقبة زمنية هي زمن الحروب العالمية والشيوعية»، ويضيف: «كما لفتني وجود أعمال للفنان أحمد مصطفى تنتمي لفترة السبعينات التي أراها لا تنتمي لتيار السريالية، لذا أقول إن المعرض له أهمية وله ثقل، لكنه يحتاج لقراءة متأنية».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)