دولاميراندول يعيد الإنسان إلى موطنه الأصلي ككائن له كل القدرة على الحرية والفعل والإبداع

مؤسس النزعة الإنسانية الأول وباعث إنسان عصر النهضة الجديد

جون بيك دولاميراندول
جون بيك دولاميراندول
TT

دولاميراندول يعيد الإنسان إلى موطنه الأصلي ككائن له كل القدرة على الحرية والفعل والإبداع

جون بيك دولاميراندول
جون بيك دولاميراندول

جمد التفكير الفلسفي بعد اليونان أجيالا طوالا، حيث كانت الكلمة العليا للدين الذي بسط سلطته على القلوب والعقول. فلما أقبل عصر النهضة في أوروبا كان العقل قد بدأ يستيقظ عن طريق بعث الآداب والعلوم اليونانية والرومانية والإسلامية. ومن خلال المنجزات العلمية الكبيرة التي عرفها ذلك العصر، اكتملت أسباب اليقظة والجرأة، واستغرق العقل في حب الاستطلاع الحر، وازدادت الرغبة في العلم وحب الجمال، ونبذ العقائد المتعسفة. فشكلت إيطاليا وفلورنسا، مدينة آل ميديتشي، منطلق هذه الحركة، قبل أن تنضم إليها مدن أخرى في فرنسا، وإنجلترا، لتؤسس ما سوف يعرف بالنزعة الإنسية. والنزعة الإنسية، هي تلك المرحلة من تاريخ الإنسانية، حيث سيتركز التفكير على إعادة الاعتبار للإنسان، وإرجاعه إلى موطنه الأصلي مركزا للكون، وكائنا له كل القدرة على الحرية والفعل والإبداع والخلق، بعدما ضاع داخل البناء التراتبي الكوسمولوجي لدى اليونان، أو لصالح قوى لاهوتية أعتى منه، اعتبرت الإنسان مجرد حلقة ضعيفة، تثبت في نظام الكون الكبير، المرمم والبديع الصنع، ومن ثم فكل محاولة لتجاوز هذا الموضع، تعتبر تحديا للكون والإلهة، ما يوجب الحد والعقاب.
عندما يتم استحضار هذه الحقبة من التاريخ الإنساني، فغالبا ما يتم الحديث عن ليوناردو دافنشي، وجيوردانو برونو، ودانتي أليغيري، وإتيان لابويسي وغيرهم. إلا أنني في هذا المقال قد آثرت الحديث عن واحد من أهم رواد هذه النزعة، وهو الأديب والفيلسوف الإيطالي واللاهوتي جون بيك دولاميراندول، مؤسس النزعة الإنسية، الذي ظل اسمه مغيبا، وواضع لبناتها الأساسية التي سيتم البناء عليها، نحو الإعلاء من قيمة الإنسان وحريته وكرامته.
ولد بيك دولاميراندول سنة 1463 بمدينة مودينا الإيطالية، من أسرة ميسورة الحال. نشأ وتعرف على أهم المذاهب الفلسفية واللاهوتية التي تميز بها عصره: الأفلاطونية المحدثة، والسقراطية، والفلسفة السيكولائية (المدرسيّة)، والأديان، بما فيها اليهودية والإسلام. أما حياته، فقد تميزت بنوع من القصر والزخم، والتنقل الكثير. فقد تعرض للسجن، وعانى من الضيق، خصوصا من طرف السلطة الدينية، ممثلة في المؤسسة البابوية، التي كانت تتحكم بكل شيء آنذاك، حتى توفي في سنة 1494، وهو في عز الشباب، وهناك احتمال أن يكون مات مسموما، بسبب آرائه المثيرة للجدل.
تكمن أهمية جون بيك دولاميراندول، في مقال قصير نسبيا من ثلاثين صفحة بعنوان «مقال في الكرامة الإنسانية»، كان قد كتبه سنة 1486 وهو في سن الرابعة والعشرين، وترجمته أخيرا إلى اللغة العربية، آمنة عبد الحميد جبلاوي، وصدر عن مؤسسة الديوان للنشر.
في مقاله ذلك، المستمد من أسطورة أفلاطونية رائعة، هي أسطورة برومثيوس، يحاول جون بيك دولاميراندول، التأصيل للوجود الإنساني، بكل ما يتميز به هذا الإنسان من خصائص ومقومات الكرامة والحرية، في وقت كانت فيه النظرة السائدة إلى الإنسان غير دقيقة. لم يقبل جون بيك دولاميراندول، الفكرة القائلة بأن عظمة الإنسان تكمن في كونه حلقة وسطى بين المخلوقات، أي أنه أعلى من البهائم مرتبة وأدنى من الملائكة. فهذا التحديد في نظر بيك دولاميراندول لا يشرف الإنسان ولا يمنحه أي قيمة تذكر. وإذا نظرنا إلى الأمر من هذه الزاوية، لكانت الملائكة هي الأحق بالإعجاب، وذلك أمر بسيط، فهي أعلاه شأنا ورفعة.
يصوغ دولاميراندول تأمله حول الإنسان، فيحكي لنا قصة خلقه، ويعتبر بأن الله قد خلق العالم ونظمه وزينه، وخلق كل الكائنات ومنحها ماهية محددة ونهائية، ووجودا لا يتغير. إلا أنه في المقابل، تمنى أن يكون هناك كائن قادر على التأمل والتفكر في هذا البناء البديع الصنع، فلم يكن إلا الإنسان وحده القادر على الاضطلاع بهذه المهمة، على اعتبار أن كل الكائنات الأخرى عاجزة عن ذلك، لأنها مخلوقات مبرمجة مسبقا، ومحددة بالكامل، من خلال ماهية معينة ليس بإمكانها أن تحيد عنها. فقضى الله ألا يمنح الإنسان أي طبيعة نهائية، أو هبة محددة. لذلك وضعه في مركز العالم، وفي موقع يكون، من خلاله، قادرا على أن يحتل أي منزلة أو موقع يختاره انطلاقا من إرادته الحرة. فلم يكن الإنسان، لا من موقع الأرض ولا من موقع السماء، كي يتمكن بشرفه وحرية اختياره، من إعادة تشكيل ذاته كما يشاء، فكأنه يخلق نفسه، يبني ذاته أو يهدمها، ويدنو لمرتبة البهائم أو يسمو ليقارب الآلهة. فقوة الإنسان تكمن في كونه لا يتوفر على أي طبيعة نهائية، وبالتالي فهو تبعا لذلك حر، وحريته هذه، هي كرامته التي يسمو بها أعلى من الملائكة التي لا يمكن أن تكون إلا ملائكة.
يسترجع الفيلسوف الفرنسي، لوك فيري هذا المقال في كتابه: «قصة الفلسفة.. أجمل قصة في تاريخ الفلسفة»، الصادر عن دار التنوير للنشر 2015، من ترجمة محمود بن جماعة، محللا أبعادها الفلسفية العميقة، ومعتبرا أن دولاميراندول هو مؤسس النزعة الإنسانية الأول، وباعث إنسان عصر النهضة الجديد، الذي من خلاله سوف يولد الإنسان الحر، الذي سيستمر في البناء والتشييد، مؤمنا بذاته وقدراته على الفعل والصنع، وذلك لمجموعة من الاعتبارات، التي يمكن أن نسوقها فيما يلي:
أولا: أكد جون بيك دولاميراندول، على غياب طبيعة إنسانية، بمعنى أنه لا وجود لأي نظام طبيعي يكون الإنسان ملزما بالامتثال له. وهي فكرة سنجدها بعد ذلك عن روسو وكانط وسارتر، ما يعني أن بوسع الإنسان التخلص من كل محدد مسبق لأنه حر. ولأنه حر، فله حقوق لا بد من حمايتها، وله تاريخ هو ما حققته حريته من إنجازات في كل ميادين الحياة، مثل الفنون والعلوم والعادات.
ثانيا: جون بيك دولاميراندول، هو من سيصوغ، لأول مرة، بصراحة، الفكرة الحديثة عن الحرية. بمعنى القدرة على التخلص من القواعد، سواء كانت قواعد المجتمع أو الطبيعة. وهي الفكرة التي ستشق من بعده الفلسفة الحديثة، وحتى المعاصرة، باعتبارها المبدأ الأساسي، الذي لم تنفك الإنسانية تعتمد عليه منذ ذلك الحين.
ثالثا: أسس بيك دولاميراندول فكرة كرامة الإنسان، انطلاقا من إرادته الحرة. وهي الفكرة التي تضع الإنسان خارج الطبيعة. فكون الإنسان في المرتبة الوسطى، يجعله مثيرا للإعجاب، ويعطيه سمة مميزة هي الحرية، لا الحيوانات ولا حتى الملائكة، قادرة على التفاخر بها. فالملائكة ليست حرة، وهي لا تستطيع أن تفعل إلا الخير.
وكون الإنسان في المرتبة الوسطى يجعل منه كائنا تاريخيا قادرا على التخلص من الطبيعة، ليصنع بذاته وبحريته مصيره الخاص، ويشكل تاريخه. فالإنسان لا شيء. ومن هذا اللاشيء، يستطيع أن يصبح كل شيء، ويستطيع أن يبني شتى ضروب التاريخ والمصير المختلفة.
يضيف لوك فيري، أن هذه الإنسية، التي وضع لبناتها جيوفاني بيك دولاميراندول، ستعرف تاريخا طويلا مند عصر النهضة، وصولا إلى عصر الأنوار، مرورا بديكارت. وسيرسي كانط بعد ذلك، أسسها الأكثر صلابة. وأخيرا، سيجد هيغل وماركس قاعدة أكثر اتساعا، بأن ضما إليها تفكيرا عميقا في قوانين التاريخ الجمعي، حيث أسست إنسانية الإنسان، وكرامته الخاصة، وعظمته، وقدرته على بناء تاريخ من التجديد والتقدم.
عندما ننظر إلى الفكر الأوروبي الحديث، فإننا غالبا ما نصنفه إلى مراحل فكرية أو تاريخية معينة. فنقول عصر النهضة، وعصر الأنوار، والحداثة وما بعد الحداثة. ما قبل كانط وما بعده، أو ما قبل نيتشه وما بعده. وكأن الفكر عبارة عن جزر منفصلة، بينها من أسباب الاختلاف أكثر مما بينها من دواعي الائتلاف. إلا أن الجوهري في الفكر الأوروبي الحديث، بمختلف مراحله، هو التأسيس لإنسانية الإنسان ككائن يتمركز حوله العالم. صحيح بأن هذا الإنسان قد تعرض لضربات قاسمة من طرف فلسفات الشك التي حاولت النيل منه، إلا أنه يبقى مع ذلك قادرا على النهوض من جديد، والبحث عن المعنى والحياة الطيبة، حيث يثبت وجوده وإنسانيته.

* أستاذ فلسفة



أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

سانت إكزوبيري
سانت إكزوبيري
TT

أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

سانت إكزوبيري
سانت إكزوبيري

لم يكف البشر منذ وجودهم على هذه الأرض عن التقاتل والتذابح، وفرض سيطرة بعضهم على البعض الآخر، عبر أكثر الوسائل دمويةً وفتكاً. وسواء كانت الحروب عبر التاريخ تُشن بفعل الصراعات الإثنية والدينية والآيديولوجية والرغبة بالسيطرة والاستحواذ، أو اتخذت شكل الدفاع عن الحرية والمقاومة ضد الاحتلال، فإن نتائجها الوخيمة لم تقتصر على دمار المنازل والمباني والمعالم المادية للعيش، بل تعدت ذلك لتصيب الدواخل الإنسانية بالتصدع، ولتحدث انهياراً كاملاً في نظام القيم وقواعد السلوك، ولتضع علاقة الإنسان بنفسه وبالآخر في مهب الشكوك والتساؤلات.

همنغواي

على أن من المفارقات اللافتة أن تكون الحروب الضارية التي أصابت الاجتماع الإنساني بأكثر الكوارث فظاعةً وهولاً، هي نفسها التي أمدت الفلسفة والفكر والفن بالأسئلة الأكثر عمقاً عن طبيعة النفس البشرية، ودوافع الخير والشر، ونُظُم الاجتماع الأمثل، فضلاً عن دورها المهم في تغيير الحساسيات الأدبية والفنية، ودفعها باتجاه الحداثة والتجدد. وإذا كان السؤال حول الآثار التي تخلفها الحروب في مجالي الأدب والفن هو من بين الأسئلة التي لم يمل النقاد والمهتمون عن طرحها مع كل حرب جديدة، فإن الإشكالية التي يتم طرحها باستمرار تتعلق بدور الكتاب والمثقفين في زمن الحرب، وعما إذا كان هذا الدور يقتصر على إنتاج النصوص والأعمال الإبداعية، أم أن على الكتاب والفنانين أن يدافعوا بحكم انتمائهم الوطني والقومي والإنساني عن قضايا شعوبهم بشتى السبل والوسائل الممكنة.

وإذا كان هذا النوع من الأسئلة لا يجد له إجابات قاطعة، لأن كل شخص يرى من وجوه الحقيقة ما يلائم مواقفه وتوجهاته، فقد تمكّننا العودة إلى التاريخ من استجلاء بعض الحقائق المتعلقة بمواقف الشعراء والمبدعين من الحروب والنزاعات الأهلية، وبما قاموا به، خارج النصوص والأعمال الفنية، من أدوار وإسهامات. ولعل أول ما يحضرني في هذا السياق هو التجربة الرائدة للشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى، خلال الحرب الدامية التي نشبت بين قبيلتي عبس وذبيان، التي عرفت عبر التاريخ بحرب داحس والغبراء. فقد حرص زهير على وصف الحرب بما يليق بها من نعوت، محذراً من نتائجها الكارثية عبر أبياته المعروفة:

وما الحرب إلا ما علمتمْ وذقتمُ

وما هو عنها بالحديث المرَجَّمِ

متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً

تضْرَ إذا ضرَّيْتموها فتضرمِ

فتعرككمْ عرْك الرحى بثفالها

وتَلْقحْ كشافاً ثم تُنتجْ فتتئمِ

إلا أن زهيراً الذي رسم في معلقته إحدى أكثر اللوحات الفنية دلالة على فظاعة الحروب وهولها الكارثي، رأى أن من واجبه كإنسان وكفرد في جماعة، أن يحرض على نبذ العنف، ويدعو إلى تحرير النفوس من الأحقاد والضغائن. وهو إذ راح يمتدح كلاً من داعيتي الصلح، الحارث بن عوف وهرم بن سنان، فلم يفعل ذلك تملقاً أو طلباً للثروة والجاه، بل فعله انتصاراً لمواقفهما الأخلاقية النبيلة، ولما قدماه من تضحيات جسام بهدف إطفاء جذوة الحرب، وإحلال السلام بين المتنازعين.

تولستوي

ومع أن الحروب بأشكالها المختلفة قد شكلت الظهير الأهم للكثير من الأعمال الملحمية والروائية، فإن قيمة العمل المتولد عنها لا تحدده بالضرورة مشاركة الكاتب الشخصية في المعارك والمواجهات، بل موهبته العالية وتفاعله مع الحدث، وكيفية الانتقال به من خانة التوصيف السطحي والتسجيلي إلى خانة الدلالات الأكثر عمقاً للعدالة والحرية والصراع بين الخير والشر، وصولاً إلى الوجود الإنساني نفسه.

وإذا كان تاريخ الأدب بشقيه القديم والحديث حافلاً بالبراهين والأدلة التي تضيق الهوة بين الخيارين المتباينين، فيكفي أن نعود إلى هوميروس، الذي لم تحل إصابته بالعمى وعجزه عن المشاركة في الحروب، دون كتابته لملحمتي «الإلياذة» و«الأوديسة»، تحفتي الأدب الخالدتين. كما يمكن الاستدلال بتولستوي الذي لم تكن رائعته الروائية «الحرب والسلم» ثمرة مشاركته المباشرة في حرب نابليون على روسيا القيصرية، وهو الذي لم يكن أثناءها قد ولد بعد، بل ثمرة تفاعله الوجداني مع معاناة شعبه، ورؤيته النافذة إلى ما يحكم العلاقات الإنسانية من شروخ وتباينات. ومع أنه لم يجد بداً من الانخراط في الجندية في وقت لاحق، فإنه ما لبث أن تحول إلى داعية للمحبة ونبذ العنف، وتحقيق السلام بين البشر.

أما الجانب الآخر من الخيارات فتمثله تجارب كثيرة مغايرة، بينها تجربة الكاتب الأميركي آرنست همنغواي الذي قدم عبر حياته الحافلة، النموذج الأكثر سطوعاً عن العلاقة بين الكتابة والحياة، وهو الذي لم يكتف بوصف الحرب عن بعد، كما فعل كتاب كثيرون، بل عمد إلى الالتحام المباشر بميادينها المحفوفة بالمخاطر، الأمر الذي وفرته له مهنته كمراسل حربي للصحف التي عمل فيها. والواقع أن فائض القوة العضلي لهمنغواي، والتزامه الوطني والإنساني، لم يكونا الدافعين الوحيدين لمشاركته في الحروب التي خاضها، بل كان دافعه الأساسي متمثلاً في البحث عن أرض ملموسة لكتابة رواياته وقصصه المختلفة. وإذا كان انخراط الكاتب الفعال في الحرب العالمية الأولى هو الذي يقف وراء تجربته الروائية المبكرة «وداعاً أيها السلاح»، فإن مشاركته في الحرب الأهلية الإسبانية دفاعاً عن الجمهوريين، وجنباً إلى جنب مع كتاب العالم الكبار، هي التي ألهمته رائعته الروائية اللاحقة «لمن تُقرع الأجراس».

وفي السياق نفسه يمكن لنا أن نضع تجربة الكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبيري، الذي دفعه شغفه البالغ بالطيران إلى الالتحاق بقوات بلاده الجوية، ولم يثنه تحطم طائرته في إحدى الطلعات، عن الإمعان في مغامرة التحليق وصولاً إلى نهايته المأساوية عام 1944. غير أن ذلك التحليق بالذات هو الذي أتاح لسانت إكزوبيري أن يرسم عبر «الأمير الصغير» صورة لكوكب الأرض، بعيدة عن العنف ومترعة بالنقاء الطفولي.

قيمة العمل المتولد عن الحروب لا تحدده بالضرورة مشاركة الكاتب الشخصية فيها

ثمة بالطبع شواهد كثيرة، لا تتسع لها هذه المقالة، على الخيارات المتباينة التي اتخذها الكتاب والفنانون في أزمنة الحروب، والتي يتجدد السجال حولها مع كل حرب تقع، أو كل مواجهة تخوضها الشعوب مع غزاتها المحتلين. وإذا كان بعض المبدعين لا يرون علة لوجودهم سوى الإبداع، ولا يجدون ما يقدمونه لأوطانهم في لحظات محنتها، سوى القصيدة أو المعزوفة أو اللوحة أو سواها من ضروب التعبير، فإن بعضهم الآخر يرسمون لأنفسهم أدواراً مختلفة، تتراوح بين الدفاع عن الأرض، لمن استطاع إلى ذلك سبيلاً، وبين التظاهر وإصدار البيانات المنددة بارتكابات الاحتلال ومجازره وفظاعاته، وصولاً إلى إسهام الكاتب الشخصي في التخفيف من معاناة شعبه، ورفده بأسباب المقاومة والصمود.

على أن أي حديث عن دور الكتاب والفنانين في زمن الحرب، لن يكون له أن يستقيم، دون الإشارة إلى عشرات الإعلاميين والمصورين والمراسلين في فلسطين ولبنان، الذين أسهمت تقاريرهم الميدانية الجريئة في إظهار الطبيعة الوحشية للاحتلال، وفي فضح ادعاءاته الزائفة عن الالتزام بقواعد الحرب الأخلاقية والإنسانية. وإذا كان من المتعذر تماماً استعادة أسماء الإعلاميين والمراسلين الكثر، الذين أصروا على المواءمة بين الواجبين المهني والإنساني، حتى لو كانت حياتهم نفسها هي الثمن، فيكفي في هذا السياق أن نتذكر الكاتبة والإعلامية اللبنانية نجلاء أبو جهجه، التي قامت بالتقاط صور مختلفة لجثث الأطفال المدلاة من سيارة إسعاف بلدة «المنصوري»، أثناء الاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني عام 1996، فيما حرصت في الوقت ذاته على مد يد العون للجرحى المتبقين منهم على قيد الحياة. وفيما غادرت نجلاء هذا العالم، وقد أنهكها مرض عضال، قبل أيام معدودة، لن تكف العيون المطفأة للأطفال، عن ملازمة صوَرها المؤثرة، وتجديد عقدها مع الضوء، وتوزيع نظرات اتهامها الغاضبة بين عدالة العالم المفقودة ووجوه الجلادين.