بول غرينغراس يوظف الكاميرا للتعبير عوضًا عن الحوار والدراما

مدير التصوير باري أكرويد يعرف ما يريده المخرج بول غرينغراس من دون أن يتبادلا كثيرا من الحوار خلال التصوير. لقد عملا معًا ثلاث مرات من قبل: «يونايتد 93» (2006)، و«المنطقة الخضراء» (2010)، و«كابتن فيليبس» (2013). هذا سبب مهم، لكن السبب الأهم هو أن كليهما يؤمن بما يمكن تسميته بـ«واقعية الصورة».
أكرويد انطلق أساسًا من خلال العمل مع المخرج كن لوتش الذي يميل إلى الواقعية الاجتماعية، كما سبق له أن صوّر أفلاما تسجيلية. والخبرة المتأتية من هذين المسارين جعلت أكرويد يخلق تصويرا يستطيع شد الفيلم إلى الأرضية الواقعية، حتى ولو كان مجرد فيلم خيالي الأحداث مصنوع للترفيه أساسًا، كما هو الحال مع «جاسون بورن»، الفيلم الجديد للمخرج بول غرينغراس.
* مغامرات واقعية
«جاسون بورن» جزء خامس من المسلسل التشويقي الذي أُطلق سنة 2002، بفيلم «هوية بورن» (Bourne Identity)، والأجزاء جميعًا من بطولة مات دامون، باستثناء «إرث بورن» (2012) الذي قام فيه جيريمي رَنر بأداء دور مشابه لشخصية مختلفة، إنما ضمن السلسلة ذاتها. ومع أن كل أفلام السلسلة تحتاج إلى شغل تقني نافذ ودقيق، واستخدام ذكي للتصوير والمونتاج، فإن السقف ارتفع في هذا الفيلم أكثر من السابق. فالفيلم عبارة عن مطاردات لا تفصلها سوى بعض المواقف التي تتطلب حوارًا يقع بين الشخصيات، وهي مواقف لا تستمر طويلاً لأن مشاهد المطاردة هي التي تحوي المشاهد الدرامية، وليس العكس.
رفع السقف أدّى إلى استخدام ثلاث كاميرات معًا، و«أحيانا أربع كاميرات» كما صرّح مدير التصوير أكرويد بنفسه. كل كاميرا كانت تصوّر المشهد الواحد، ليس فقط بغاية توفير ثراء في الاختيار لاحقا، بل كان مطلوبًا من كل كاميرا أن تصور المشهد كما لو أنها الكاميرا الوحيدة العاملة، وبذلك تم إثراء المشاهد، بحيث يأتي الاختيار بين ما تم تصويره في الكاميرا 1 مساويًا، فنيًا، مع ما تم تصويره بالكاميرا 2 أو 3.
المخرج بول غرينغراس يحب الحوارات التقنية، ولا غرابة في ذلك. فمنذ بدايته في السينما سنة 1989 (بفيلم بريطاني صغير اسمه «منبعث مجددًا») وهو يحاول التعبير عن الحكاية بالكاميرا أكثر من التعبير عنها بالحوار أو بالدراما المحضة. ومن حين أن قدّم «يوم أحد دموي» (2002)، ارتاح لأسلوب يصر على اتباع منهج واقعي في العمل، برز في «سيادة بورن» (2004)، و«يونايتد 93» و«إنذار بورن» (2007)، و«منطقة خضراء» (2010)، و«كابتن فيليبس» (2013).
وهذا الأخير يختلف بالطبع في طبيعة أحداثه. فتوم هانكس هو الكابتن الأميركي الذي تم لقراصنة صوماليين اختطافه، حيث تم وضعه في مركب ضيق قبل أن يتم للبحرية الأميركية إنقاذه. الفيلم، كما أفلام غرينغراس الأخرى، فيلم مغامرات، لكن أسلوب غرينغراس يحفظ له كل الواقعية الممكنة حتى لا يفلت الفيلم من عقاله، ويتحوّل إلى سرد بطولة أو معاناة فرديّتين.
«جاسون بورن» الذي انطلق للعروض قبل نحو شهرين بنجاح جيد، مناسبة للتعرف أكثر على منطلقات المخرج ومفاهيمه في هذا الإطار.
* هذا ثالث فيلم في سلسلة «بورن» تقوم بإخراجه. كيف يختلف هذا الفيلم عن سابقيه من وجهة نظرك؟
- القصّة تختلف، لكن قواعدها واحدة. الأحداث تختلف، لكن شخصياتها الأساسية والحبكة التي تقع هذه الأحداث تحت مظلتها واحدة. في الأساس، أنظر إلى السلسلة على أنها أفلام ترفيه ممتع؛ انطلقت كذلك، وبقيت كذلك، ولا جدوى من اعتبارها غير ذلك. لكن المختلف أساسًا في كل فيلم، وفي هذا الفيلم على الخصوص، أن جاسون بورن ليس جيمس بوند، فهو لا يعيش عالمًا لا نعرفه. إنه بطل مختلف؛ شخصية تعيش في العالم الذي نعرفه تمامًا، لذلك علينا أن نصدّقه في كل ما يقوم به. وفي هذا الفيلم، كانت هذه الرغبة في اعتقادي أكثر أهمية لأننا ندلف إلى العالم الحقيقي، أو نقترب منه أكثر مما فعلنا من قبل.
* تحديات التصوير
* كيف؟
- العالم الذي نعيش فيه، أنت وأنا وسوانا، عالم مليء اليوم بالمشكلات والحروب والأزمات الأمنية. ومن المعلوم لكل شخص اليوم السعي الحثيث لوكالة الأمن القومي في الولايات المتحدة ولوكالة المخابرات وباقي الأجهزة المعنية لحماية الأمن. نتيجة لذلك، يجد المشاهد نفسه يتعامل مع حقبة ما بعد إدوارد سنودن، وما كشفه من أسرار؛ حقبة التجسس على كل واحد، وكل شيء، ضمانة للأمن. لذلك، في الفيلم عنصر المجابهة بين متطلبات الأمر وانتشار عصر المعلومات. السُلطة التي تريد أن تضع يدها على نظم التواصل الاجتماعي. والمشاهد يتآلف معه، ويقبل بما يرد فيه. هذا الصراع الذي هو استحواذ للمعلومات المفترض بها أن تكون مستقلة وسرية بات معروفًا ومفهومًا، والفيلم عليه أن يتطرّق إليه بصيغة واقعية تناسب العمل بأسره.
* لكن المجابهة بين جاسون بورن ووكالة المخابرات الأميركية يبقى الأساس..
- صحيح.. كل ما أقصده هو التشديد على أن الدافع في هذه السلسلة هي تقريب صورة المخاطر التي يتعرض لها جاسون بورن إلى المشاهد، ولكي تفعل ذلك على الفيلم أن يُعالج بأسلوب واقعي، كما لو أن الكاميرا حدث أنها كانت هناك وقت الحدث الدائر.
* ما هي التحديات في سبيل إتقان هذا الشرط؟
- كثيرة.. كلها تتعلّق بكيف سنصوّر المشهد على نحو مثير وصادق في الوقت ذاته؟ في هذا الفيلم، أكثر من الأفلام السابقة، كنا نريد إتقان المطاردات على كثرتها وتنوّعها، والتحدي الأكبر كان في تأمين حياة الممثلين البدلاء الذين يقومون بها.. اخترنا أفضل السائقين، وأجرينا تمارين كثيرة على كل مشهد لأنها كانت مشاهد صعبة، ولم نكن نرغب في أي مفاجآت. فعلنا أقصى ما نستطيع لإتقان التمارين قبل أن ننصرف إلى التصوير.
* البعض يعتقد أنه لكي تقدم على فيلم فيه نفحة سياسية، موجودة في هذه السلسلة عن طريق تصوير مسؤولين منحرفين في وكالة المخابرات الأميركية، عليك أن تنال موافقة الاستوديوهات المسبق.. هذا لا يحدث معك، أليس كذلك؟
- لقد اشتغلت لاستوديوهات كثيرة في هوليوود، وكانت جميعًا متعاونة، وليس لديها ما تتدخل فيه على أي نحو.. كل الاستوديوهات كانت مؤيدة ومحبذة لأفلامي. لذلك، فإن هذا القول أو الاعتقاد هو تخمين غير صحيح على الإطلاق.
من دون قلق
* هذه السلسلة قامت على شخصية عميل «سي آي إيه» سابق فقد ذاكرته. في هذا الفيلم الأخير، بدأ يستعيد شيئًا منها. ألم يمثل ذلك تحديًا، كون الجمهور أحب جاسون فاقدا لذاكرته، وبالتالي لو استعادها لبدا مجرد عميل آخر ضد القوى الكبرى؟
- هو لم يستردها كاملة بعد، لكن ما يعنينا هنا هو أنه يبدأ بالبحث عن جذور لمشكلته لم نتطرق إليها من قبل، متمثلة بوالده الذي مات في بيروت. هذا وحقيقة أن جهازًا في الوكالة ما زال يحاول التخلص منه كان ضمانتنا على أن الجمهور ما زال يريد أن يرى هذه السلسلة، وأنه ما زال يحب شخصية جاسون بورن المختلفة عن أي شخصية أخرى.
* أنت ومدير التصوير باري أكرويد لكما خلفية متشابهة؛ هو جاء من أفلام واقعية، وأنت تحب النحو الواقعي أيضًا.. كيف تعملان معا على التفاصيل؟
- هذا صحيح؛ خلفياتنا متشابهة، وهذا يسعدني كثيرًا لأنني أترك له مهام تصميم الطريقة التي ينفّذ بها المشهد، والقرارات المتعلقة بكل ما هو تصوير وإضاءة من دون قلق. إننا على مقربة كل من الآخر بالطبع، لكننا نفهم بعضنا بعضا تمامًا، وهذا مهم جدًا.
* الواقعية التي تتحدث عنها تعني عدم وجود مؤثرات ديجيتال، أو شغل على الكومبيوتر (غرافيكس).. صحيح؟
- صحيح، والفيلم ليس فيه لقطة واحدة من الكومبيوتر. الآن، تستطيع أن تكون داخل الاستوديو الصغير، وتصوّر بطلك كما لو كان يركض في شوارع مدينة نيس أو لندن. لكننا كنا في تلك الشوارع، وفي تلك المدن التي انتقلنا للتصوير فيها. فقد صوّرنا في أثينا، وفي لندن، وفي ميامي، وسواها، على الطبيعة، وساعدتنا السُلطات في تلك المدن على ذلك. ولم يكن هناك داعيًا لفبركة أو تزييف أي شيء. لذلك، حين سألتني عن التحديات، ذكرت لك أن المطاردات – مثلاً - وهي أخطر ما في الفيلم مورست بالفعل بعد تمارين مجهدة. كان عندنا خبرات مهمّة في هذا المجال، والرغبة في منح الفيلم طابعًا واقعيًا يفرض أساسًا خيار التصوير في الواقع، وعلى نحو مباشر.