التفاعل الثقافي العربي في مستواه الأدنى

الهزائم المتوالية، والنزاعات المتفاقمة، والإحباط المتواصل، كل ذلك انعكس على سلاسة التواصل بين العرب عمومًا، وأبناء البلد الواحد في بعض الأحيان. والمبدعون جزء من النسيج الاجتماعي، لا يمنحهم عملهم في مجالات فكرية (أدبية أو فنية) المناعة، بل هم ربما أكثر هشاشة في مواجهة أمراض التحاسد والتباعد من الفئات البسيطة. لا، بل إن الشاعر اللبناني شوقي بزيع يعتبر أن هناك انعداما للصلات الوثيقة بين المثقفين، بسبب «طبيعة المثقف الذي تقترب نرجسيته من البارانويا المرضية، حيث يطغى عليه شعور بالعظمة من جهة، والاضطهاد والإنكار من جهة ثانية، لذلك تسود بين المثقفين حروب صغيرة، ومكائد متصلة بالنميمة والتباغض وإلغاء الآخر. وقد ولى زمن كان فيه السجال يتخذ طابعًا فكريًا نقديًا عميقًا، كما حصل بين مدرستي (أبولو) و(الديوان) في مصر، أو بين مجلتي (الآداب) و(شعر) في خمسينات وستينات القرن الماضي».
ويضيف بزيع: «ومع ذلك، هناك كتاب وروائيون وشعراء ورسامون ومغنون وموسيقيون يقدمون ضروبًا من الإبداع في غاية الأهمية والجدة، بعيدًا عن النقابات والاتحادات الرسمية التي تحولت إلى مجرد أبواق لسلطاتها المحلية، وتخلت عن دورها في النقد والاعتراض والدفاع عن الديمقراطية».
مدير عام «المنظمة العربية للترجمة»، هيثم الناهي، يدعو إلى «ثورة ثقافية أكثر منها سياسية وتنموية ومعيشية، فحين يجد شخص ما أنه يتعذر عليه دفع ثمن كتاب قيمته 20 دولارًا، بينما هو على أتم الاستعداد لشراء جوال بقيمة 700 دولار، فهذا معناه أن المشكلة ليست في القدرة المادية قدر ما هي في تحديد الأولويات. وحين تكون الأولوية للحصول على الشهادة، لا المعرفة التي يحصدها الإنسان، فهذا معناه أن المشكلة بنيوية، وليست في الفئة المثقفة دون غيرها».
وردًا على سؤال حول سبب تراجع التفاعل بين المثقفين العرب، وسبل توطيد الأواصر، يرى الكاتب اللبناني أحمد الغز أن الحال ليست واحدة في كل الدول العربية، فبعض هذه الدول يعيش استقرارًا ثقافيًا نسبيًا، بينما انهارت القيم في دول أخرى بسبب النزاعات والحروب.
ويضيف الغز: «المواطنة، واللاعنف، وقبول الآخر، كلها مفاهيم تعبر عن ثقافة المجتمع. ونحن نخطئ حين ننسب الثقافة إلى المثقف، ونلحقها به لا بالمجتمع، والواقع غير ذلك، إذ إن الأكل ثقافة، والزي ثقافة، والغناء ثقافة، وبالتالي فإن الثقافة ليست فقط الإبداعات الفنية والأدبية التي وظيفتها الأساسية تحويل المستجد إلى بديهي. إن الفنون لها وظيفة ثقافية، لكنها ليست الثقافة بذاتها».
ويستطرد الكاتب اللبناني: «المجتمع المغربي مثلا يعيش استقرارًا ثقافيًا، وثمة نقاشات ومخاضات. أما لبنان، فيعاني من انهيار؛ هناك انقسام على كل شيء، ومقومات الثقافة انهارت، وتحول البلد إلى حديقة خلفية لنزاعات المنطقة، فنحن منذ 11 سنة بلا موازنة، ونعاني انهيارًا أخلاقيًا، وانهيارًا في منظومة القيم الثقافية».
ويتساءل الغز في معرض كلامه: «لمن نكتب؟ وعن من نكتب؟ الكاتب الواحد يتنقل بين المنابر والمواقع الإلكترونية، والمواقف والتوجهات، ويتلون بين الطائفي والتقدمي والمتشدد حتى نكاد لا نعرف من هو، وبماذا يفكر. تكتب نصًا عميقًا، فلا تجد من يناقشك فيه، كما لو أنك تضع ماء في سلة مثقوبة. نعم، في دول الخليج توجد نقاشات وحيوية عالية، وكذلك في مصر والمغرب، وبالتالي ثمة تباين بين بلد وآخر».
ويعتقد الكاتب الغز أن النتاجات الأدبية والفنية تعاني انفصالاً عن الواقع، لذلك فإنها لا تعبر عن مجتمعها. ويتساءل: «أين كرة القدم في الدراما المصرية، مع أن المجتمع المصري مفتون بهذه اللعبة؟ في السينما الأميركية، نجد لكل فريق 30 أو 20 فيلمًا. المحاكم بكل أنماطها نجدها أيضًا، البيت الأبيض استوديو للتصوير. أين نبيل عبد الفتاح أو جابر عصفور في الدراما، بينما لا يوجد كاتب أميركي له وزن إلا وله أثر في الدراما الأميركية؟ ميزتهم أنهم احتضنوا ثقافتهم، وأوصلوها للآخرين. ومن هنا، يأتي نجاحهم. نحن لم نؤمن بثقافتنا، لذلك لم نتمكن من التعبير عنها. الرحابنة، مثلاً، يشبهون بيئتهم والمجتمع الذي خرجوا منه، وزكي ناصيف يشبه سهل البقاع، لكن فناني اليوم من يشبهون؟ وعن من يعبرون؟ هذا هو السؤال الكبير المطروح».
وبوصفه مستشارا لرئيس «مؤسسة الفكر العربي»، يتحدث أحمد الغز عن تجربته، معتبرًا أن المؤتمرات التي تنظمها المؤسسة باتت تعنى بالسؤال، وكيف تضع سؤالا لا يتضمن إجابة، وكيف أن كل إجابة صحيحة تأتي من السؤال الصحيح. ويشرح أن 130 باحثًا وكاتبًا شاركوا في الورش التحضيرية للمؤتمر الأخير، و70 في الأعمال الاستشارية، لصياغة 5 أسئلة في النهاية. ويعتبر الغز أن التحدي البعيد المدى الذي يواجه الكاتب هو كيف يصيغ أسئلة الناس والمجتمع، وكيف يعمل الجميع من أجل الوصول إلى تكامل ثقافي، مضيفا: «أسوأ ما في الوحدة العربية أنها حصلت في 24 ساعة، وانتهت في 24 ساعة».
لا داعي للخلاف حول كيف وصلنا إلى الدرك الذي نحن فيه، ولننشغل بالسؤال حول كيفية الخروج. إننا بحاجة لإعادة صنع استقرارنا. في عام 2003، اعترف العالم في اجتماعات «باريس 2» أن لبنان صار دولة. يومها، كدنا نعبر الجسر، لكننا عدنا وتراجعنا بعد 2005، ولا نزال نتراجع.
ويختم الغز كلامه، قائلا: «إن الاتحاد الأوروبي وجد في النهاية أنه أضاع الوقت في التشخيص، وأهمل نقطتين رئيسيتين: إن الرأسمال البشري وأسئلة الأجيال المقبلة هي الأساس.. ومن دروس غيرنا يجب أن نتعلم».
وبالعودة إلى الدكتور هيثم الناهي، ومن خلال تجربته في المنظمة العربية للترجمة، نستطيع أن نفهم مشكلة تدني التفاعل بين المبدعين من زاوية مختلفة، فهو يشرح أن «الكتاب يطبع منه ألفًا أو ألفا نسخة لا يباع منها سوى 200 أو 300 نسخة. ولعل السبب الأول هو الوضع المعيشي، والسبب الثاني هو الانحدار الثقافي والتربية التي لم تعط الطفل الإحساس بأن الكتاب يحمل منفعة له في الأساس، فالدول العربية تصرف ملايين من الدولارات على المشاريع الترفيهية، لكنها لا تصرف بالسخاء نفسه على مشاريع ثقافية، وهناك عدم احترام للكاتب والقارئ معًا. وفي حين أحيت شعوب أخرى لغات لها ميتة، نقتل نحن لغتنا الحية».
ويعدد الدكتور الناهي عناصر وأسبابًا مختلفة، لكنه يعتبر أن عنصر التعليم هو الأساس في إعادة الاعتبار للمعرفة في الأصل، فمرض النخبة المثقفة يبدأ من رياض الأطفال ليصل إلى الجامعة، مذكرًا أن المكتبات العامة في كل من مصر وسوريا والعراق والجزائر شحت ميزانياتها إلى الحد الأدنى، مما يعني أنه حتى من يريد أن يكتسب المعرفة بجهده الذاتي لن يجد الأدوات متوفرة.
ولا يتردد الدكتور الناهي في أن يقول إن «المثقف العربي لا وجود له. فهناك، حسب تعريف (اليونيسكو)، أمية حضارية وأمية أبجدية، ونحن نعاني من الأميتين معًا. لا، بل إن الأمية الحضارية مكتسبة راسخة، فحين نتحدث عن عشرين مثقفًا يخرجون لنا في التلفزيونات من أصل 350 مليون عربي، فهذا لا يعني شيئًا». وكما ذهب الكاتب أحمد الغز، يقول الدكتور الناهي إن ثمة مشكلة في تعريف الثقافة التي يفترض أنها «تبدأ من الإتيكيت، وتمر باللسان والطعام واللباس، وصولا إلى الفلسفة. وبسبب قصور التعريف هذا، وحصرنا إياها في الأدب وبعض الفنون، تبقى مواضيعنا التي نعبر عنها محدودة ضيقة لا تفي بالحاجة المجتمعية».
ويعتبر الشاعر شوقي بزيع أن «الوهن بلغ العظام، وأنه شامل. فالتفكك والانحلال يحتلان كل المسارات، ومن بينها الثقافة. وذلك أن الزمن الذي كانت فيه قصيدة شعرية تهز العالم قد ولّى إلى غير رجعة، والشيء الوحيد الذي يهز العالم اليوم هو تلك الأفكار البالغة التطرف والتأثير التي تصدر عن بعض المفكرين والكتاب الكبار، خصوصا فيما يخص انتهاك الثالوث المحرم: الدين والسياسة والجنس. أما المواقف العقلانية الموضوعية، فهي لا تعني أحدًا».
ويضيف بزيع: «ما يلفت هو غياب الحال النقدي الذي كان يتصدى له المثقفون، والذي كان في القرن الـ19 والـ20 جزءًا أساسيًا من النهضة، مما يعني أن هناك ترهلاً كاملاً يمس الحياة الثقافية، والمثقفون تحول بعضهم إلى كتاب وشعراء بلاط، وبعضهم لاذ بالصمت»، مستطردا: «هناك قنوط ويأس، خصوصا أن المثقف التنويري يرى أن ما يحدث في العالم العربي هو نقيض ما دعا إليه، من ديمقراطية ومساواة وعدالة وحرية في المعتقد، وأن مصير الشعوب العربية قد بات بين استبدادين أحلاهما مر؛ استبداد الأنظمة، خصوصا الاشتراكية والتقدمية زورًا وكذبًا، التي لم تكتف بمصادرة أحلام شعوبها، بل تجاوزت ذلك لسحقها وقتل الحياة السياسية، والاستبداد التكفيري الذي أخذ معه العنف أشكالا غير مسبوقة».
وفي النهاية، يدعو شوقي بزيع إلى تأسيس روابط ونقابات وجمعيات بديلة عن تلك الرسمية، متحررة من ربقة السلطة، بحيث يصبح للشعراء اتحادهم أو رابطتهم، وكذلك الأمر بالنسبة للروائيين والرسامين وغيرهم، كما هو الحال في الغرب، مضيفا: «لا يجوز على الإطلاق أن يفوق عدد المنتسبين إلى اتحاد الكتاب اللبنانيين نظراءهم في روسيا أو الصين لأن معظمهم يحملون لواء هذا الزعيم أو ذاك، وهذا الحزب أو ذلك التنظيم، ويتم تنسيبهم على أسس سياسية وانتخابية».