حزّ الرقاب.. فزّاعة «داعش»

لتأكيد أنه «ما زال باقيًا» رغم الهزائم

مشهد «حزّ الرقاب»، الذي تنتهجه عناصر «داعش» والأكثر دموية بين التنظيمات الإرهابية
مشهد «حزّ الرقاب»، الذي تنتهجه عناصر «داعش» والأكثر دموية بين التنظيمات الإرهابية
TT

حزّ الرقاب.. فزّاعة «داعش»

مشهد «حزّ الرقاب»، الذي تنتهجه عناصر «داعش» والأكثر دموية بين التنظيمات الإرهابية
مشهد «حزّ الرقاب»، الذي تنتهجه عناصر «داعش» والأكثر دموية بين التنظيمات الإرهابية

مشاهد «حزّ الرقاب»، الذي تنتهجه عناصر «داعش» الإرهابية، لا تنتهي، فكل يوم نشاهد مشهدا صادما، والأرجح أنها لن تنتهي لاعتقاد التنظيم الأكثر دموية بين التنظيمات الإرهابية المنتشرة حول العالم، أن هذه المشاهد القاسية هي «فزاعته» لتأكيد سيطرته وإظهار قوته لدى العالم، وأن الهزائم التي مني بها خلال الفترة الماضية لم تؤثر عليه. وكان أحدث المشاهد في سوريا خلال عيد الأضحى عندما نحر التنظيم 19 سوريًا، وفي حينه جرّ عناصر التنظيم الإرهابي ضحاياهم في مشهد مخيف وذبحوهم وعلقوهم كالذبائح. هذا المشهد المقزّز - على ما يبدو - كان مهما لـ«داعش» في هذا التوقيت، بالتحديد، في أعقاب الهزائم المتتالية التي مني بها في العراق وليبيا وسوريا، لتأكيد عبارته القديمة أنه «ما زال باقيًا ويتمدد»، وهي العبارة التي أطلقها التنظيم وقت ظهوره عام 2014.
ارتبطت فظائع تنظيم داعش الإرهابي المتطرف بفيديوهات قطع رؤوس المدنيين والعسكريين على حد سواء. ويشار إلى «داعش»، خلال السنة الأولى من إعلانه «خلافته» المزعومة في سوريا والعراق، قطع رؤوس ما يزيد عن 3 آلاف من المواطنين ومن عناصره بتهم مختلفة منها التجسس لصالح دول أجنبية.
ويقول مراقبون إن «داعش» يستخدم قطع الرؤوس لترهيب السكان في سوريا والعراق وليبيا، حيث أصدر سلسلة من أشرطة الفيديو الدعائية، وبث التنظيم عمليات إعدام علنية وجماعية، واحتوى بعضها على سجناء أجبروا على حفر قبورهم بأيديهم قبل إعدامهم، وكذلك أعدم عشرات المقاتلين السوريين المنتمين إلى المعارضة الثائرة ضد نظام بشار الأسد.
الهدوء واستسلام الضحايا لعناصر التنظيم، كان سمة أساسية في جميع مشاهد «النحر»، وهنا أعرب خبراء في الطب النفسي عن اعتقادهم أن «داعش» يستخدم نوعا من الحرمان الحسي لفترة معينة للضحية، وفي هذه الحالة يجري عزل الأسير عن إثارة كل الحواس، خصوصًا السمع والبصر، ما يجعله في حالة خنوع كاملة ويواجه الموت من دون مقاومة، ويقولون: إنه في هذه الحالة الإنسان يفضل الموت على انتظار مصيره. ورجح خبراء علم النفس أيضًا وجود احتمال آخر هو تخدير الضحايا بدليل أنهم لم يبدوا ردود فعل.
على صعيد آخر، قال معنيون بشؤون الجماعات المتطرفة والإرهاب إن «داعش» يرسل إلى العالم عبر مناظر إعدام الضحايا رسالة مضمونها أن من يخالفونه في الفكر والمعتقد سيكون مصيرهم الذبح. وتابعوا أن التنظيم يعمد لنشر مشاهد حزّ الرقاب نتيجة هروب الكثير من أنصاره في العراق وسوريا بسبب الخسائر والهزائم التي يتلقاها بشكل يومي على يد التحالف الدولي الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأميركية، ولتأكيد أنه لا يزال قويا وأوراق اللعبة في يده. ويذكر أن الأردني أبو مصعب الزرقاوي مؤسس التنظيم في بداياته، كان أول من مارس الإعدام ذبحًا عندما حزّ عنق الرهينة الأميركي يوجين أرمسترونغ في العراق عام 2004. ومن ثم، ذبح «داعش» رهينة يابانيًا وسوريين وعراقيين ولبنانيين، بالإضافة لاثنين من الصحافيين الأميركيين، ومصريين أقباط في ليبيا.

دراسة مصرية
دراسة مصرية أعدتها أخيرًا دار الإفتاء في مصر، ذكرت أن أفعال وجرائم الدواعش تخالف كل القيم والمبادئ الدينية والإنسانية وما جاءت به جميع الأديان السماوية، ولاحظت أن أكثر ضحايا التنظيم هم من المسلمين من سكان المناطق التي يسيطر عليها التنظيم في سوريا والعراق وليبيا، ما يعني أن التنظيم إنما يحمل القتل والذبح أينما وجد.
وأشارت الدراسة إلى أن قادة تنظيم داعش يعتقدون أن القتل بوحشية يساهم في تثبيت سيطرتهم وخضوع الناس لهم خوفا من البطش في مختلف مناطق سيطرتهم، وذلك على الرغم من أن التراث الإسلامي لا يدعو إلى القتل وسفك الدماء أو إرهاب الناس وتخويفهم كي يذعنوا لهم ويعلنوا البيعة والولاء.
وعن عقيدة الذبح لدى «داعش»، قالت الدراسة إن «المرجعية الفكرية التي يستند إليها التنظيم في الذبح ترجع إلى جماعات متطرفة كانت أول من فعلوا هذه الفعلة الشنيعة في الإسلام»، مضيفة «أن قطع الرؤوس ممارسة قديمة عرفتها البشرية بمختلف أجناسها وثقافاتها، وأن هذه العملية اللاإنسانية كانت معروفة لدى بعض العرب في الجاهلية، وبعد أن جاء الإسلام لم يثبت عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه حُمل إليه رأس كافر بعد قطعه، ولا أنه أمر بحزّ الرؤوس؛ بل إن النصوص الشرعية لم تؤسس لمثل تلك العقيدة التي ينتهجها تنظيم داعش في القتل والذبح والتمثيل بالضحايا».
ورأت الدراسة «أن الكارثة الكبرى تكمن في محاولات هذا التنظيم الإرهابي إيجاد مبرّرات من الدين الشريف لشرعنة هذه الانتهاكات»، مع أنها لا تمت للإسلام بصلة.
وعن الأسباب التي تدعو «داعش» لقطع الرؤوس، تقول الدراسة إنها تشمل: إشباع سادية القائمين على التنظيم الذين أدمنوا رؤية الدماء، فأصبحت رؤية هذه الرؤوس المقطوعة عامل نشوة لهم، ومن ثم التأثير على الأهالي في الأراضي الواقعة تحت سيطرتهم، حتى يأتمروا بأمرهم وينضووا تحت سلطانهم. بالإضافة إلى رفع معنويات المقاتلين في صفوف التنظيم بإظهار قوة التنظيم. وإيصال رسالة لأعداء التنظيم بأن هذه هي نهاية من يعاديهم وأن قطع الرؤوس والتمثيل بالجثث جزاء من يحاربهم. وشن حرب أعصاب باستخدام وسائل الإعلام المختلفة كي يصل الخبر بكل مقوماته العنيفة لجميع أنحاء العالم.
حول ما يظهر من استسلام ضحايا «داعش»، تقول عبير مرسي، وهي خبيرة نفسية في مصر: «هناك نوعان من الوعي يسيطران على الإنسان في كل الأوقات: الأول الوعي العادي المتمثل في الفعل ورد الفعل، والآخر هو حالة الذهول التي تسيطر على الشخص، بحيث يكون عاجزًا عن استيعاب الوضع ما يجعله في حالة استسلام شديدة». موضحة أن من يأسرهم «داعش» يسيطر عليهم الوضع الثاني، فضلا عن احتمال أن يتم تخدير الضحايا، وأن يحقنهم بمواد معينة قوية وشديدة التأثير.
من جانبه، يقول الدكتور عبد الحليم منصور، وهو أستاذ للفقه المقارن، إن «من أسوأ أنواع القتل ما يفعله (داعش) ومن على شاكلته من التنظيمات المتطرفة من ذبح البشر، وسفك دمائهم على النحو الذي تظهره وسائل الإعلام المختلفة، وهذا الأمر يدل على وحشية لا نظير لها في عالم البشر اليوم، وأن هذه القلوب هي كالحجارة بل أشد أقسوة، ذلك أن الحجارة ترق وتهبط من خشية الله»، مضيفا: «إنهم بذلك يرسلون رسالة إلى العالم أن من يخالفونهم سيكون مصيرهم إلى الذبح، وأن من لا يؤمن بفكرتهم فهو كالحيوانات لا قيمة له، ولا يستحق إلا القتل على هذه الصفة. وهؤلاء القتلة وسفاكو الدماء ينطلقون في جرائمهم هذه من منطلق تكفيرهم لكل من يخالفهم، واستحلال دمائهم وأموالهم وأعراضهم على النحو الذي تنقله وسائل الإعلام المختلفة في العالم».
وعن استسلام الضحايا في مشاهد الإعدامات، قال منصور «الملاحظ أن قتل الضحايا يتم في هدوء تام، واستكانة كاملة دون مقاومة، وهذا يعود إما لأن هؤلاء الضحايا يخضعون للتعذيب والضرب المبرح في أماكن متفرقة وغير ظاهرة من البدن، الأمر الذي يجعل هؤلاء الضحايا خائفين مستكينين يمشون طوع ما يريده الدواعش خوفا من التعذيب والضرب المبرح لا سيما أنهم يعلمون أن مصيرهم إلى القتل لا محالة، فيكون هذا سببا في الاستكانة والطاعة الكاملة لهم، أو أن الضحايا يمكن أن يكونوا قد خضعوا لتأثير عقاقير مهدئة تجعلهم هادئين مستجيبين للأوامر دون أدنى مقاومة». وتابع منصور «أما فكرة الوعد بالعفو هذه التي يرددها البعض والتي من شأنها أن تجعل الأسير هادئا ولا يقاوم، فأرى أنها غير واردة بالمرة لأنهم من الجبروت بمكان، ولديهم من وسائل التعذيب المختلفة، والوسائل العلمية الحديثة ما يخضعون به ضحاياهم لما يريدون دون وعد بعفو أو غيره».
وفي السياق ذاته، قال الدكتور أحمد علي سليمان، المدير التنفيذي السابق لرابطة الجامعات الإسلامية، إن «جرائم تنظيم داعش لم تتوقف عند قتل وذبح المدنيين والعسكريين في البلاد العربية والمناطق التي يسيطر عليها في العراق وسوريا أو حتى ليبيا؛ بل امتدت لذبح الرعايا الأجانب الذين يعملون في الدول العربية، وكله باسم الدين والدين منه براء». أما عن التصوير الذي يقوم به «داعش»، فلم يستبعد سليمان استخدام «داعش» للخدع السينمائية والصور المركبة والتكنولوجيا البصرية عند ذبح الأجانب، لافتًا إلى أن «داعش» برع في إنتاج دعاية الرعب عبر تصوير عمليات الإعدام المروّعة لمن يقعون تحت قبضته «وهذه الفيديوهات المفبركة أو الحقيقية التي يبثها مع استخدام طريقة تخدير الضحايا تصيب من يشاهدها بالرعب والألم والتوتر، وهذا مقصود ومستهدف وليس اعتباطًا».
من ناحية أخرى، رصدت الدراسة المصرية، أن تنظيم داعش يعتمد في رؤيته القتالية على عدد من الأحاديث والروايات «التي يسيء تأويلها وتفسيرها، ويلوي أعناق نصوصها لتتوافق مع سياسته الإجرامية في القتال والحرب، ليبرّر بها شرعيته المزعومة وادعاءاته التي يزعم من خلالها زورًا وبهتانا تأسيس الخلافة الإسلامية في الأرض، كما يبرر بها ما يرتكبه من فظائع وجرائم في حق الإنسانية». وقالت: إن التنظيم الإرهابي أصدر فتوى تبيح لمقاتلي التنظيم ذبح كل من يخالفهم، ونصّت فتوى «داعش» على أن «الذبح فريضة إسلامية غائبة» واستدل التنظيم بعبارة من حديث نبوي شهير «جئتكم بالذبح» دون الوقوف على مدلولاته وسياقه.
وتابعت الدراسة «استند التنظيم التكفيري إلى جزء من حديث آخر وهو (وجعل رزقي تحت ظل رمحي)، وهو ما نشره التنظيم في مجلة (دابق) أحد أذرعته الإعلامية، حيث أوضح التنظيم أن هذا الحديث إشارة إلى أن الله لم يبعث الرسول (صلى الله عليه وسلّم) بالسعي في طلب الدنيا ولا بجمعها واكتنازها ولا الاجتهاد في السعي في أسبابها، وإنما بعثه داعيا إلى توحيده بالسيف، ومن لازم ذلك أن يقتل أعداءه الممتنعين عن قبول التوحيد، ويستبيح دماءهم وأموالهم، ويسبي نساءهم وذراريهم». وفندت تأويلات تنظيم داعش لمثل هذه الأحاديث.
وأضافت الدراسة أن «داعش» ارتكب جرما كبيرا في حق الكلام النبوي، حيث انتزع عبارة من الحديث الشريف الذي رواه أحمد وغيره، وفيه «استمعوا يا معشر قريش، أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح»، فذهبوا في فهمها مذهبا غريبا لا أساس له، ينسبون به إلى الهدي النبوي ظلمات وجرائم، مشيرة إلى أن التنظيمات الإرهابية زعمت أن النبي (صلى الله عليه وسلم) جعل الذبح والقتل شعارا لهذا الدين وحاشاه صلى الله عليه وسلم من هذا الفهم المنحرف، وسوّغوا به لأنفسهم قطع الرقاب، وذبح الآدميين بصورة مفعمة بالبطش والفتك، لا يرضاها دين الله ولا يقرها؛ بل ينكرها أشد الإنكار.
واختتم الدكتور سليمان أن التمويل الضخم ووسائل التقنية الحديثة الماثلة للعيان في الفيديوهات والمنشورات التي ينشرها «داعش» عبر آلياته الإعلامية تدل دلالة واضحة على أن الدوائر التي تقف خلف التنظيم كبيرة جدا، وهي تمده بأرقى وأحدث ما وصلت إليها من تكنولوجيا الاتصالات وآليات الإعلام الحديث، فضلا عن إمداد التنظيم بالموارد المالية والأسلحة.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.