«روسيا الموحدة» يحتفل بالنصر

حضور منافسيه في مجلس «الدوما» غدا شكليًا.. إثر فوز حزب بوتين بالغالبية الدستورية البرلمانية

«روسيا الموحدة» يحتفل بالنصر
TT

«روسيا الموحدة» يحتفل بالنصر

«روسيا الموحدة» يحتفل بالنصر

اختار الناخبون الروس يوم الثامن عشر من سبتمبر (أيلول) ممثليهم في مجلس «الدوما» - أو مجلس النواب - وهو المجلس الأدنى في البرلمان الروسي. ومهمته سن تشريعات جديدة، والنظر في جزء من القرارات الحكومية والرئاسية للموافقة عليها أو رفضها، والمصادقة على الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، وغيره من مهام تقوم بها عادة المجالس التشريعية، بما في ذلك منح أو حجب الثقة عن الحكومة أو الرئيس. ولم تحمل نتائج الانتخابات في الدورة الحالية مفاجآت أثرت بصورة جوهرية على تركيبة البرلمان الجديد، إذ حافظت الأحزاب الرئيسية التي شكلت البرلمان في دورته السابقة على تمثيلها في البرلمان الجديد، مع فارق كبير في الأصوات لصالح حزب السلطة الذي حصد نسبة من الأصوات تمنحه الحق بثلثي التمثيل في «الدوما»، بينما يبقى الثلث للأحزاب الأخرى التي تمكنت من الحصول على التمثيل النيابي بعد تجاوزها عتبة 5 في المائة من أصوات الناخبين، أي النسبة التي تشكل الحد الأدنى لحصول أي حزب سياسي على مقاعد برلمانية. وبموجب هذه النتائج لن يكون لمجمل أصوات الأحزاب الأخرى في البرلمان تأثير على القرارات التي قد يوافق عليها أو يرفضها حزب روسيا الموحدة.
يجمع المراقبون على أن الانتخابات البرلمانية الروسية لهذه الدورة اتسمت بتراجع ملحوظ على صعيد نسبة المشاركة التي لم تتجاوز 47 في المائة من أصل قرابة 100 مليون ناخب روسي. ولعل أحد أهم أسباب هذه الظاهرة هو شعور كثيرين بأن النتيجة محسومة، وأن حزب السلطة سيحافظ على الغالبية في البرلمان، أيًا كانت نسبة الاقتراع. وحقًا، على سبيل المقارنة شارك 60.21 في المائة من الناخبين في الاقتراع خلال الانتخابات البرلمانية عام 2011، وحصد حزب «روسيا الموحّدة» بزعامة الرئيس فلاديمير بوتين، حينذاك نسبة 46.3 في المائة من تلك الأصوات التي خوّلت له شغل 238 مقعدا برلمانيًا. وفي انتخابات عام 2007 شارك في التصويت 63.78 في المائة من الناخبين وحصل «روسيا الموحّدة» حينذاك على 64.3 في المائة من الأصوات، وبالتالي، تظهر هذا الأرقام تراجعًا من عام لآخر بنسبة المشاركة في العملية الانتخابية.

المشهد العام
بصفة عامة، لم تخرج النتائج كثيرا عن التوقعات، فمن أصل 14 حزبا تنافست على المقاعد البرلمانية، تقاسمت الفوز بموجب القوائم الحزبية أربعة أحزاب رئيسية كانت ممثلة في البرلمان السابق، ومعها حزبان فازا بمقاعد في البرلمان بموجب القوائم الفردية. وجاء في المقدمة حزب «روسيا الموحّدة» الذي حصل على ما يزيد على 54 في المائة من أصوات الناخبين، وثانيًا جاء الحزب الشيوعي بزعامة غينادي زوغانوف الذي حصل على 13.45 في المائة من الأصوات، يليه بفارق ضئيل الحزب الليبرالي الديمقراطي الروسي بزعامة فلاديمير جيرينوفسكي الذي حصل وفق النتائج الأولية على 13.24 في المائة من الأصوات. وحل رابعًا حزب «روسيا العادلة» بزعامة سيرغي ميرونوف حاصلاً على 6.17 في المائة من الأصوات.
هذه النتائج تخوّل لحزب «روسيا الموحدة» (حزب السلطة، أي بوتين) شغل 343 مقعدًا من أصل 450 مقعدًا هو إجمالي عدد المقاعد في البرلمان الروسي. أي أنه ظفر بحجم تمثيل يتجاوز الثلثين. وهذا ما لم يسبق أن حصل الحزب على مثله في الانتخابات السابقة، وبفضله باتت له غالبية دستورية يستغني معها «روسيا الموحّدة» عن الحاجة لتعاون الأحزاب الأخرى الممثلة في البرلمان خلال التصويت على مشاريع القرارات والتشريعات. ثم إن هذا التمثيل «المريح» يتيح للحزب إدخال تعديلات على الدستور في حال تطلب الأمر ذلك. أما الحزب الشيوعي الروسي فسيشغل، بموجب النتائج، 43 مقعدًا مقابل 39 مقعدًا للحزب الليبرالي الديمقراطي، في حين يتقاسم «روسيا العادلة» المقاعد المتبقية في البرلمان مع أحزاب فازت بموجب القوائم الفردية وهي حزب «الوطن» و«المنصة المدنية»، إذ حصل كل من الأحزاب الثلاثة على مقعد بموجب القوائم الفردية.

الترجمة العملية للنتيجة
وتشكل النتيجة التي حققها حزب «روسيا الموحدة» أهمية كبرى للسلطة الروسية بشكل عام، وللرئيس فلاديمير بوتين بصورة خاصة، فهو يتجه نحو الانتخابات الرئاسية عام 2018 في ظل أوضاع معقدة داخليا نظرًا للأزمة الاقتصادية التي انعكست بصورة مباشرة على حياة المواطنين في البلاد. كذلك، هناك الوضع السياسي الذي خلفته الأزمة في العلاقات مع الجوار، لا سيما أوكرانيا والعلاقة مع أوروبا. وعليه، ستوفر الغالبية الدستورية سندًا مضمونًا بنسبة 100 في المائة يدعم سياساته وأية قرارات سيتخذها في هذه المرحلة، مما سيمكّنه من دخول الانتخابات الرئاسية من موقع قوي.
ومن ثم، فهو بحال قرر خوض انتخابات عام 2018، والأرجح أنه سيشارك وسيفوز، فإنه سيدخل ولايته الثانية والأخيرة في رئاسة روسيا مدعومًا خلال السنوات الأولى من تلك الولاية بالتركيبة البرلمانية ذاتها، حيث إن الغالبية الدستورية لصالحه، ستضمن له البقاء مسيطرا على مؤسسات السلطة التنفيذية والتشريعية، وسيستطيع اتخاذ القرارات المناسبة لتنفيذ سياساته في شتى المجالات.
ويتفق معظم أصحاب الرأي على أن النسبة العالية من الأصوات التي حصدها «روسيا الموحّدة» قد لا تعبر عن مدى تأييد الناخبين للحزب بحد ذاته، بقدر ما هي نتيجة تعكس مستوى التأييد الشعبي الذي يحظى به بوتين حتى الآن. وهكذا فإن بوتين قد يستفيد خلال عمل البرلمان بتركيبته الجديدة للسنوات الخمس المقبلة كي يتخذ إجراءات معينة ترسخ وضع حزبه بصفة «الحزب القائد» في البلاد، حتى بعد عام 2025، حين تنتهي الولاية الرئاسية الثانية والأخيرة لبوتين نفسه، مما يعني ضمانته استمرار روسيا لعدة سنوات على «النهج البوتيني».

كيف تحقق الفوز
توجه اتهامات كثيرة لحزب «روسيا الموحدة»، حزب بوتين، بشأن الآليات التي سمحت له بتحقيق الفوز بالغالبية الدستورية وتغييب أحزاب كانت تطمح إلى دخول المعترك السياسي الداخلي عبر البرلمان. ومن الاتهامات التي تطلق عادة هي التزوير أثناء عملية الاقتراع، حيث عرض نشطاء مشاهد فيديو من عدة مراكز اقتراع يظهر فيها العاملون في المركز وهم يدسّون كميات من البطاقات الانتخابية في الصناديق. وفي كل المشاهد يبدو واضحًا كيف يقوم بعض العاملين في المركز بالمراقبة والتغطية بينما يتولّى آخرون رمي تلك «الدستات» من البطاقات الانتخابية في الصناديق. وبالفعل، إثر ذلك أعلنت اللجنة المركزية للانتخابات عن إلغاء النتائج في بعض المراكز، والتحقيق في حالات أخرى بالانتهاكات التي أبلغ عنها ممثلو الأحزاب. إلا أن المراقبين يجمعون على أن إعادة الاقتراع في تلك المراكز وعدد البطاقات الانتخابية المزوّرة لن يتركا تأثيرا يُذكر على النتيجة النهائية وسيبقى حزب «روسيا الموحدة» محافظًا على الغالبية الدستورية.
من جهة ثانية، رأى معلّقون أن فوز حزب السلطة جاء نتيجة طبيعية لسياسة ممنهجة اعتمدها الكرملين في الحد من نفوذ أحزاب المعارضة وملاحقة رموزها والزجّ بهم في السجون، فضلا عن السيطرة شبه الكاملة على وسائل الإعلام مقابل تضييق الخناق على وسائل الإعلام المعارضة، التي تكاد تكون شبه غائبة في روسيا حاليًا. إلا أن مؤيدي الكرملين ينفون تلك الاتهامات، ويشيرون بهذا الصدد إلى السماح لأحزاب يصفونها بأنها «متشددة جدًا في معارضتها للكرملين» بخوض الانتخابات البرلمانية، مثل حزب «يابلوكو» الليبرالي الذي يعارض الكرملين في قضية غاية في الحساسية مثل ضم شبه جزيرة القرم لكيان روسيا، وكذلك حزب «باراناس» الذي يحمّل السلطات الروسية الحالية المسؤولية عن تردّي الوضع الاقتصادي في البلاد، والتوتر في العلاقات مع الجوار، وتحديدًا أوكرانيا، فضلا عن التوتر في العلاقات مع الغرب. وللعلم، يدعو «باراناس» علانية إلى تغيير السلطة في روسيا، ولكن رغم هذا سُمح له بالمشاركة في الانتخابات، وفق ما يقول مؤيدون لحزب السلطة في دحضهم للاتهامات بقمع القوى المعارضة.
في أي حال، وبغض النظر عن مدى دقة تلك الاتهامات، فإن ثمة مجموعة حقائق موضوعية يمكن لأي متابع أو محلل ملاحظتها وإدراجها ضمن جملة الأسباب التي ساعدت حزب «روسيا الموحّدة» على تحقيق تلك النتيجة في الانتخابات البرلمانية. ومن هذه الحقائق يشير كثيرون إلى استفادة «روسيا الموحّدة» من موقعه على رأس السلطة خلال الفترة الماضية، الأمر الذي سمح له دون انتهاك أي قوانين، بأن يحظى، على سبيل المثال، بتغطية إعلامية لمختلف نشاطاته، وهو ما لم تكن تحصل عليه بتلك الصورة حتى الأحزاب الأخرى الممثلة في البرلمان السابق.
ومن جانب آخر فإن شغل ممثلي «روسيا الموحدة» المفاصل الرئيسية في الدولة على المستويين الفيدرالي والمحلي، أثر نفسيًا ولا شك على المزاجية الانتخابية للمواطنين الروس الذين، حالهم حال كثيرين، ينطلقون في اتخاذ القرار «لمَن يصوتون» من مبدأ «مَن تعرفه أفضل ممَّن تجهله»، ناهيك بأن مزاجية المجتمع الروسي ضمن الظروف المعقدة التي يمرّ بها حاليًا بسبب الأزمة الاقتصادية ليست مهيأة لتقبل أي تغيرات مجهولة النتائج، فكان الخيار لصالح حزب «روسيا الموحّدة». وأخيرًا، لعب التصادم مع الغرب ودفاع بوتين بشراسة عما يعتبره «الكرامة الوطنية» بوجه الغرب - أي اللعب على الوتر القومي والوطني - دوره في صياغة مزاجية نسبة كبيرة جدًا من الناخبين الروس، لا سيما أولئك الذين يذكرون التسعينات عندما كان الغرب يتعامل مع روسيا باستخفاف وكأنها «دولة صغيرة». كل هذه بعض العوامل التي أسهمت بشكل أو بآخر بفوز حزب «روسيا الموحّدة» في الانتخابات الحالية بأغلبية دستورية في البرلمان.

... والمعارضة تشكك
لقد سارع حزب «روسيا الموحّدة» إلى الاحتفال بانتصاره في الانتخابات بعد ساعات قليلة على إغلاق مراكز الاقتراع، حين بدأت الشاشات تبث النتائج الأولية لفرز الأصوات في أقاليم أقصى شرق روسيا وغيرها، وبينما كانت مراكز استطلاع الرأي تبث النتائج الأولية بناء على مسح عام أجرته خارج مراكز الاقتراع بين الناخبين بعد التصويت، أظهرت تقدّم الحزب. وبهذه المناسبة زار الرئيس بوتين مقر «روسيا الموحّدة» في العاصمة موسكو يرافقه الزعيم الحالي للحزب رئيس الحكومة الروسية ديمتري ميدفيديف، الذي قال إن «النتيجة التي حققها الحزب في الانتخابات جيدة. حزبنا سيحصل على الغالبية المطلقة في البرلمان». وأكد بوتين بعده على أن النتيجة جيدة، معربًا عن اقتناعه بأن «الناس في ظل هذه الظروف المعقّدة يختارون دون شك الاستقرار، ويمنحون ثقتهم للقوة السياسية القائدة في البلاد. يثقون بالحكومة التي تعتمد على كتلة روسيا الموحدة في البرلمان، ويثقون بأننا سنعمل كلنا معا بمهنية وبما يخدم مصالح المواطنين والبلاد».
وبينما أعلن كل من فلاديمير جيرينوفسكي زعيم الحزب الليبرالي الديمقراطي الروسي، وسيرغي ميرونوف زعيم حزب «روسيا العدالة» عن رضاهما على نتائج الانتخابات، لم يكن غينادي زوغانوف زعيم الحزب الشيوعي راضيًا، بل اشتكى من «سرقة أصوات» كان يفترض أن تكون لصالح حزبه، ويقصد بذلك حزبين هما «حزب الشيوعيين الروس» و«حزب المتقاعدين»، ووصفهما بأنهما حزبا «نصب» استخدمهما الكرملين في العملية الانتخابية. وحذّر زوغانوف حزبي «النصب» هذين، وحزب السلطة ذاته من «اللعب بالنار»، وفق ما قال زوغانوف في حديث عبر وسائل الإعلام الروسية.
غير أن الانتقادات الأكثر شدة للانتخابات البرلمانية الروسية الحالية جاءت على لسان رئيس الحكومة الروسية سابقًا ميخائيل كوسيانوف، زعيم حزب «باراناس»، الذي اعتبر أن «الانتخابات لم تكن حرة، ولم تكن نزيهة، والنتائج لم تكن دقيقة». وأردف أن «هذا يدفع إلى استنتاج وحيد: الانتخابات لم تكن شرعية، والبرلمان الذي سيتشكّل بناء على نتائجها لن يكون مؤسسة شرعية». أيضًا، وصف كوسيانوف الانتخابات بأنها «كانت الفرصة الأخيرة لتغيير السلطة في البلاد بأسلوب ديمقراطي»، معربا عن قناعته بأنه بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات «تراجعت إلى حد كبير فرصة التغيير الدستوري السلمي للسلطة».
أما الحزب المعارض الآخر «يابلوكو»، فقد اعتبر على لسان زعيمه غريغوري يافلينسكي أن نسبة التصويت المتدنية بشكل عام لصالح حزبه أتت على خلفية موقفه من الأزمة مع أوكرانيا وموضوع القرم. وتجدر الإشارة إلى أن يافلينسكي يعارض ضم القرم إلى روسيا الاتحادية، وكان قد دعا إلى إعادة الاستفتاء في شبه الجزيرة حول مصيرها، لكن على أساس إجراء الاستفتاء وفق القوانين الأوكرانية. واقترح أيضًا إقامة «حزام أمان» بين روسيا وأوكرانيا، وحذر من أن رفض إعادة القرم قد يتحوّل إلى مسألة تؤرق روسيا لسنوات طويلة.

المواقف الدولية من الانتخابات
والواقع أن قضية شبه جزيرة القرم، المطلة على البحر الأسود، طفت من جديدة على سطح الخلافات بين «الجارتين»، روسيا وأوكرانيا، إبان حملة الانتخابات الروسية، إذ عارضت أوكرانيا بشدة نيات روسيا إجراء الانتخابات في القرم أيضًا، كما قررت رفض السماح للمواطنين إذا ما أصرّت موسكو على مشاركة القرم في العملية الانتخابية. ومن ثم، لم تكترث روسيا للاعتراضات الأوكرانية، ونظم التصويت في القرم حالها حال مختلف الأقاليم الروسية خلال الانتخابات يوم 18 سبتمبر الحالي. ولقد أدانت أوكرانيا في بيان رسمي عن وزارة الخارجية تلك الانتخابات محذّرة من أنها ستسلّم الشركاء الغربيين قائمة بأسماء الشخصيات الضالعة، بصورة مباشرة، في تنظيم تلك الانتخابات بغية ضمهم إلى قائمة العقوبات الغربية ضد روسيا.
وفي سياق متصل انتقدت منظمة «فريدوم هاوس» Freedom House إجراء الانتخابات البرلمانية الروسية في القرم، واعتبرت أنها لا يمكن أن تمنح الشرعية لضم السلطات الروسية شبه الجزيرة. كذلك وصفت المنظمة الانتخابات هناك بأنها «لم تكن شرعية حرة وعادلة»، نظرًا لأن «سكان القرم لم يتمكنوا من اتخاذ القرار بخصوص مَن سيفوز في تلك الانتخابات ومن سيمثلهم»، حسب بيان رسمي عن روبرت غيرمان نائب رئيس «فريدوم هاوس». وتبنّى الاتحاد الأوروبي موقفا مماثلا، وعلما بأن فيديريكا موغيريني، المفوضة الأوروبية لسياسة الأمن والشؤون الخارجية، كانت قد صرحت في بيان رسمي بعد ظهور نتائج الانتخابات بأن «الاتحاد الأوروبي لا يعترف بالضم غير الشرعي لشبه جزيرة القرم و(ميناء) سيفاستوبول إلى الاتحاد الروسي، وبالتالي، لا يعترف بنتائج الانتخابات البرلمانية الروسية في القرم وسيفاستوبول».
وأكدت موغيريني أن المراقبين من منظمة الأمن والتعاون في أوروبا والدبلوماسيين من دول الاتحاد الأوروبي لم يشاركوا في مراقبة العملية الانتخابية في القرم وسيفاستوبول، مشددة على تمسك الاتحاد الأوروبي بدعمه لوحدة الأراضي الأوكرانية. وكانت الولايات المتحدة قد أعلنت عن موقف مماثل قبل الانتخابات بيوم. وفي ضوء هذه المواقف يحذر مراقبون سياسيون من أن تؤدي هذه المواقف لاحقًا إلى التشكيك بشرعية القرارات التي يصوّت عليها مجلس «الدوما» بمشاركة ممثلي، أو نواب، القرم.
وفي السياق نفسه، أشارت المفوضة موغيريني إلى تقرير منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، الذي، وإذ أكد على زيادة مستوى الشفافية والثقة في الانتخابات البرلمانية الحالية، فإنه سجل «مجموعة من المشكلات التي شابت العملية الانتخابية، ومنها تراجع نسبة المشاركة في التصويت، والتأثير السلبي الذي تركه على الانتخابات وعلى مشاركة المواطنين فيها، والحد من الحريات الرئيسية والحقوق، والتحكم بوسائل الإعلام وممارسة الضغط على المجتمع المدني»، وفق ما جاء في تقرير مراقبي منظمة الأمن والتعاون في أوروبا. ومما أورده المراقبون «جملة انتهاكات» ادعوا أنه حدثت خلال فرز الأصوات، وأن الأحزاب التي تنافست في الانتخابات البرلمانية لم تقدم برامج انتخابية واضحة الأمر الذي أدى إلى الحد من خيارات الناخبين.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.