عندما أمر ميتران بقطع رأس فرنسي مؤيد لاستقلال الجزائر

الروائي الفرنسي جوزيف أندراس يعود إلى منتصف الخمسينات من القرن الماضي

عندما أمر ميتران بقطع رأس فرنسي مؤيد لاستقلال الجزائر
TT

عندما أمر ميتران بقطع رأس فرنسي مؤيد لاستقلال الجزائر

عندما أمر ميتران بقطع رأس فرنسي مؤيد لاستقلال الجزائر

رغم مرور أكثر من نصف قرن على استقلال الجزائر، وثورة المليون شهيد، التي فتحت جرحا غائرا في نفوس الفرنسيين، ما زالت القضية الجزائرية تحظى باهتمام باحثين، ومؤرخين، وأدباء. فهذه الحقبة التاريخية لم تستوفِ حقها بعد من البحث، والتأريخ، وسرد كل القصص والحكايات الأليمة التي رافقت فترة من أصعب الفترات التي عايشها الجزائريون، والفرنسيون على حد سواء. تحت عنوان «من إخواننا الجرحى» (de nos frères blessés) عاد جوزيف أندراس لينكأ الجرح من جديد، ويروي قصة من هذه القصص الحزينة، لكن هذه المرة يروي قصة شاب فرنسي كان مؤيدا للثورة الجزائرية.
يعود الكاتب (غير المعروف في الأوساط الأدبية، فهذا أول عمل روائي له) إلى منتصف الخمسينات من القرن الماضي عندما كانت الجزائر لا تزال مستعمرة فرنسية استيطانية ينعم فيها الفرنسيون بكل ما تجود من نعم، ومن من وسلوى.
فهذه الثورة التي حصدت مئات آلاف الأرواح من الجزائريين على أيدي الجيش الفرنسي وميليشياته، زجت في أتونها بعض الفرنسيين الذين كانوا يؤمنون بعدالة هذه الثورة، وحقوق الجزائريين في نيل حريتهم واستقلالهم بعد قرن ونيف من استعمار جثا على الصدور.
في هذه الرواية يحكي الكاتب قصة فيرناند إيفتون (وهي قصة حقيقية) أحد أعضاء الحزب الشيوعي، الذي ينشط ضمن خلية تقوم بزرع متفجرات في أماكن مختلفة غير آهلة تتحاشى فيها وقوع ضحايا، ويسعون من ورائها خلق حالة من الإرباك في صفوف الأمن الفرنسي. فيرناند إيفتون الذي كان عاملا في أحد المصانع في العاصمة الجزائرية طلب منه زرع متفجرة في المصنع الذي يعمل فيه، شريطة اختيار مكان منعزل داخل المصنع لا تؤمه الأقدام. قام بالمهمة باحترام حذافيرها، لكن ما أن غادر المكان القصي الذي وضعها فيه حتى تم القبض عليه واكتشاف المتفجرة. وهنا تبدأ رحلة العذاب والتعذيب.
في أقبية المخابرات مورست ضده أقسى عمليات التعذيب، وكان هذا منافيا لمبادئ الجمهورية الفرنسية التي تمنع عمليات التعذيب. أجهزة المخابرات التي كانت تخشى وجود متفجرات أخرى كانت تريد الحصول على اعترافات من إيفتون تحت التعذيب كما كانت تفعل بكل المعتقلين الجزائريين بأمر من الحاكم العام الذي يقول: «لا يمكن أن نكسب حربا باحترام المبادئ والصلوات».
وإيفتون الذي كان شابا فرنسيا في مطلع العمر ويتحدر من عائلة متواضعة قد وقع منذ أربع سنوات خلت بهوى هيلين تلك الفتاة الشقراء الجميلة في إحدى زياراته لباريس، وأخذها معه إلى الجزائر بعد أن تزوجها، ومع إلقاء القبض عليه فإن سعادتها معه لم تكتمل وراحت تناضل من أجل إخراجه من هذه المشكلة العصيبة التي وقع فيها. وقد تعاطف معها الجزائريون من حولها.
بعد انتزاع كل الاعترافات منه تحت عمليات تعذيب لا تطاق كي يقر بأسماء الشبكة بأكملها، تم تحويله إلى سجن العاصمة الجزائرية برباروس تحت رقم 6101 في مهجع (س م إ) (سجين محكوم بالإعدام) وعين المحامي ألبيرت سمجا للدفاع عنه. سمجا الذي أكد لموكله أن القضاء الفرنسي لم يحكم بالإعدام على أي فرنسي لم يرتكب جريمة قتل، وأن القنبلة التي زرعها في المصنع والتي لم تنفجر أصلا ولم تتسبب بأي أذى يذكر لا يمكن أن يحكم عليه بسببها بالإعدام. وحتى هؤلاء الذين حكم عليهم بالإعدام تم منحهم عفوا رئاسيا من رئيس الدولة رينيه كوتي. ي سجن برباروس أخذ المحامي إفادة موكله بأنه تعرض للتعذيب، وانتزعت منه اعترافات، وأشار تقرير الطبيب الشرعي إلى وجود آثار كدمات وحروق على جسد إيفتون دون أن يؤكد بأنها نتيجة عمليات التعذيب. وتم تحديد موعد للمحاكمة. هيلين توجهت للسجن للمطالبة بزيارة زوجها، وألحت على مقابلة مدير السجن بعد أن رفض طلبها عدة مرات. إزاء هذا الإلحاح وافق المدير مقابلتها وأعجب بجمال هذه المرأة وإصرارها على رؤية زوجها، وتسليمه حقيبة كانت بيدها وتحتوي على ملابس نظيفة كي يظهر بمظهر لائق أمام المحكمة.
أمام كاتب العدل والقضاة، وبحضور المحامين قال إيفتون ردا على سؤاله لماذا قمت بهذا العمل؟ قال: «إني أعتبر نفسي كجزائري، ولا يمكن أن أكون عديم الشعور إزاء هذا الشعب الذي يطالب باستقلاله، إني أحب فرنسا أيضا، وأنا فرنسي أيضا وعلى كل فرنسي أن يناضل من أجل هذه القضية العادلة».
القضاء العسكري يحكم على إيفتون بالإعدام رغم مرافعات محامين ثلاثة حضروا للدفاع عنه، والذين أكدوا أن القوانين الفرنسية لا تحكم في مثل حالة كهذه بإعدام المتهم، ورغم رفع القضية إلى محكمة الاستئناف فإن الحكم لم يتغير، وأصرت المحكمة على تثبيته. ولم يتبق أمام المتهم سوى التماس العفو من رئيس الجمهورية رينيه كوتي، ووزير العدل في حينه فرنسوا ميتران - الذي أصبح رئيسا فيما بعد، وشهدت مواقفه إبان الثورة الجزائرية أنه كان ضد استقلال الجزائر. وتوجه المحامي نوردمان برسالة إلى غي موليه، رئيس مجلس الوزراء، وطلب أيضًا التماسا من وزير العدل فرنسوا ميتران، ومن رئيس الجمهورية رينيه كوتي.
قام المحامون الثلاثة بمقابلة الرئيس في قصر الإليزيه، وتم اللقاء معه وقد عرض المحامون القضية من جميع جوانبها، وأشاروا إلى أن موكلهم لم يرتكب جريمة قتل بحق أحد. لكن الرئيس كان مصرا مع وزير عدله ميتران على إبقاء حكم الإعدام.
في فجر الحادي عشر من فبراير (شباط) 1957 قام حارسان بإيقاظ فيرناند إيفتون وساقوه إلى المقصلة مع محكومين آخرين من الثوار الجزائريين محمد الأخنش ومحمد اونوري، الذي بات يصرخ بأعلى صوته تحيا الجزائر، تحيا الجزائر وراح السجناء الذين استيقظوا جميعا وعلموا بعملية الإعدامات وراحوا ينشدون دعما وتأييدا للمحكومين:

يا بلادي يا بلادي أنا لا أهوى سواك
قد سلا الدنيا فؤادي وتفانى في هواك
لك في التاريخ ركن مشرق فوق السماك
(كلمات الشاعر محمد المحبوب اسطمبولي)
تحت باب منزل إيفتون وجدت هيلين رسالة بخط اليد كتب عليها بالفرنسية قصيدة قصيرة تقول:

قبل صياح الديك هذا الصباح
تجرأوا أن يقتلوك
تجرأوا بفعل ما ليس مباح
في أجسادنا الصلبة تختلط دماؤك
بمثالنا الأسمى
كي لا يجرؤون غدا
كي لا يجرؤون أبدا بقتلنا
في كتابه «ضربات وجراح» الصادر في العام 2011 كتب وزير خارجية فرنسوا ميتران السابق رولان دوما: «إن فرنسوا ميتران أصر على إلغاء حكم الإعدام في فرنسا عندما تولى الرئاسة في العام 1981 كي يكفر عن ذنوبه في حرب الجزائر ومنها قطع رأس فيرناند إيفتون»



أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر
TT

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر، شارك فيها نحو 40 شاعراً ومجموعة من النقاد والباحثين، في الدورة التاسعة لمهرجان الشعر العربي، الذي يقيمه بيت الشعر بالأقصر، تحت رعاية الشيح سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، وبالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ودائرة الثقافة بالشارقة، وبحضور رئيسها الشاعر عبد الله العويس، ومحمد القصير مدير إدارة الشئون الثقافية بالدائرة.

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً، على طاولته التقت أشكال وأصوات شعرية مختلفة، فكان لافتاً أن يتجاور في الأمسيات الشعرية الشعر العمودي التقليدي مع شعر التفعيلة وقصيدة النثر وشعر العامية، وأن يتبارى الجميع بصيغ جمالية عدة، وتنويع تدفقها وطرائق تشكلها على مستويي الشكل والمضمون؛ إعلاء من قيمة الشعر بوصفه فن الحياة الأول وحارس ذاكرتها وروحها.

لقد ارتفع الشعر فوق التضاد، وحفظ لكل شكلٍ ما يميزه ويخصه، فتآلف المتلقي مع الإيقاع الصاخب والنبرة الخطابية المباشرة التي سادت أغلب قصائد الشعر العمودي، وفي الوقت نفسه كان ثمة تآلف مع حالة التوتر والقلق الوجودي التي سادت أيضاً أغلب قصائد شعر التفعيلة والنثر، وهو قلق مفتوح على الذات الشعرية، والتي تبدو بمثابة مرآة تنعكس عليها مشاعرها وانفعالاتها بالأشياء، ورؤيتها للعالم والواقع المعيش.

وحرص المهرجان على تقديم مجموعة من الشاعرات والشعراء الشباب، وأعطاهم مساحة رحبة في الحضور والمشاركة بجوار الشعراء المخضرمين، وكشف معظمهم عن موهبة مبشّرة وهمٍّ حقيقي بالشعر. وهو الهدف الذي أشار إليه رئيس المهرجان ومدير بيت الشعر بالأقصر، الشاعر حسين القباحي، في حفل الافتتاح، مؤكداً أن اكتشاف هؤلاء الشعراء يمثل أملاً وحلماً جميلاً، يأتي في صدارة استراتيجية بيت الشعر، وأن تقديمهم في المهرجان بمثابة تتويج لهذا الاكتشاف.

واستعرض القباحي حصاد الدورات الثماني السابقة للمهرجان، ما حققته وما واجهها من عثرات، وتحدّث عن الموقع الإلكتروني الجديد للبيت، مشيراً إلى أن الموقع جرى تحديثه وتطويره بشكل عملي، وأصبح من السهولة مطالعة كثير من الفعاليات والأنشطة المستمرة على مدار العام، مؤكداً أن الموقع في طرحه الحديث يُسهّل على المستخدمين الحصول على المعلومة المراد البحث عنها، ولا سيما فيما يتعلق بالأمسيات والنصوص الشعرية. وناشد القباحي الشعراء المشاركين في المهرجان بضرورة إرسال نصوصهم لتحميلها على الموقع، مشدداً على أن حضورهم سيثري الموقع ويشكل عتبة مهمة للحوار البنّاء.

وتحت عنوان «تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة»، جاءت الجلسة النقدية المصاحبة للمهرجان بمثابة مباراة شيقة في الدرس المنهجي للشعر والإطلالة عليه من زوايا ورؤى جمالية وفكرية متنوعة، بمشاركة أربعة من النقاد الأكاديميين هم: الدكتور حسين حمودة، والدكتورة كاميليا عبد الفتاح، والدكتور محمد سليم شوشة، والدكتورة نانسي إبراهيم، وأدارها الدكتور محمد النوبي. شهدت الجلسة تفاعلاً حياً من الحضور، برز في بعض التعليقات حول فكرة التلاقي نفسها، وشكل العلاقة التي تنتجها، وهل هي علاقة طارئة عابرة أم حوار ممتد، يلعب على جدلية (الاتصال / الانفصال) بمعناها الأدبي؛ اتصال السرد والمسرح والدراما وارتباطها بالشعر من جانب، كذلك الفن التشكيلي والسينما وإيقاع المشهد واللقطة، والموسيقي، وخاصة مع كثرة وسائط التعبير والمستجدّات المعاصرة التي طرأت على الكتابة الشعرية، ولا سيما في ظل التطور التكنولوجي الهائل، والذي أصبح يعزز قوة الذكاء الاصطناعي، ويهدد ذاتية الإبداع الأدبي والشعري من جانب آخر.

وأشارت الدكتورة نانسي إبراهيم إلى أن الدراما الشعرية تتعدى فكرة الحكاية التقليدية البسيطة، وأصبحت تتجه نحو الدراما المسرحية بكل عناصرها المستحدثة لتخاطب القارئ على مستويين بمزج جنسين أدبيين الشعر والمسرح، حيث تتخطى فكرة «المكان» بوصفه خلفية للأحداث، ليصبح جزءاً من الفعل الشعري، مضيفاً بُعداً وظيفياً ديناميكياً للنص الشعري.

وطرح الدكتور محمد شوشة، من خلال التفاعل مع نص للشاعر صلاح اللقاني، تصوراً حول الدوافع والمنابع الأولى لامتزاج الفنون الأدبية وتداخلها، محاولاً مقاربة سؤال مركزي عن تشكّل هذه الظاهرة ودوافعها ومحركاتها العميقة، مؤكداً أنها ترتبط بمراحل اللاوعي الأدبي، والعقل الباطن أكثر من كونها اختياراً أو قصداً لأسلوب فني، وحاول، من خلال الورقة التي أَعدَّها، مقاربة هذه الظاهرة في أبعادها النفسية وجذورها الذهنية، في إطار طرح المدرسة الإدراكية في النقد الأدبي، وتصوراتها عن جذور اللغة عند الإنسان وطريقة عمل الذهن، كما حاول الباحث أن يقدم استبصاراً أعمق بما يحدث في عملية الإبداع الشعري وما وراءها من إجراءات كامنة في الذهن البشري.

وركز الدكتور حسين حمودة، في مداخلته، على التمثيل بتجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ومن خلال هذا التمثيل، في قصائد درويش رأى أنها تعبّر عن ثلاثة أطوار مرّ بها شعره، مشيراً إلى أن ظاهرة «الأنواع الأدبية في الشعر» يمكن أن تتنوع على مستوى درجة حضورها، وعلى مستوى ملامحها الجمالية، عند شاعر واحد، عبر مراحل المسيرة التي قطعها، موضحاً: «مما يعني، ضِمناً، أن هذه الظاهرة قابلة لأن تتنوع وتتباين معالمها من شاعر لآخر، وربما من قصيدة لأخرى».

ورصدت الدكتورة كاميليا عبد الفتاح فكرة تلاقي الأجناس الأدبية تاريخياً، وأشارت، من خلال الاستعانة بسِجلّ تاريخ الأدب العربي، إلى أن حدوث ظاهرة التداخل بين الشعر وجنس القصة وقع منذ العصر الجاهلي، بما تشهد به المعلقات التي تميزت بثرائها الأسلوبي «في مجال السردية الشعرية». ولفتت إلى أن هذا التداخل طال القصيدة العربية المعاصرة في اتجاهيها الواقعي والحداثي، مبررة ذلك «بأن الشعراء وجدوا في البنية القصصية المساحة الكافية لاستيعاب خبراتهم الإنسانية». واستندت الدكتورة كاميليا، في مجال التطبيق، إلى إحدى قصائد الشاعر أمل دنقل، القائمة على تعدد الأصوات بين الذات الشعرية والجوقة، ما يشي بسردية الحكاية في بناء الحدث وتناميه شعرياً على مستويي المكان والزمان.

شهد المهرجان حفل توقيع ستة دواوين شعرية من إصدارات دائرة الثقافة في الشارقة للشعراء: أحمد عايد، ومصطفى جوهر، وشمس المولى، ومصطفى أبو هلال، وطارق محمود، ومحمد طايل، ولعب تنوع أمكنة انعقاد الندوات الشعرية دوراً مهماً في جذب الجمهور للشعر وإكسابه أرضاً جديدة، فعُقدت الندوات بكلية الفنون الجميلة في الأقصر، مصاحبة لافتتاح معرض تشكيلي حاشد بعنوان «خيوط الظل»، شارك فيه خمسون طالباً وطالبة. وكشف المعرض عن مواهب واعدة لكثيرين منهم، وكان لافتاً أيضاً اسم «الأصبوحة الشعرية» الذي أطلقه المهرجان على الندوات الشعرية التي تقام في الفترة الصباحية، ومنها ندوة بمزرعة ريفية شديدة البساطة والجمال، وجاءت أمسية حفل ختام المهرجان في أحضان معبد الأقصر وحضارة الأجداد، والتي امتزج فيها الشعر بالأغنيات الوطنية الراسخة، أداها بعذوبة وحماس كوكبة من المطربين والمطربات الشباب؛ تتويجاً لعرس شعري امتزجت فيه، على مدار أربعة أيام، محبة الشعر بمحبة الحياة.