«دولة البغدادي المزعومة» تبحث عن أرض بعد هزائم متلاحقة

راياتها سقطت في «الفلوجة».. وجنودها يلوذون بالفرار

خسائر بالغة لـ«داعش» من ضربات التحالف الدولي في سوريا والعراق («الشرق الأوسط»)
خسائر بالغة لـ«داعش» من ضربات التحالف الدولي في سوريا والعراق («الشرق الأوسط»)
TT

«دولة البغدادي المزعومة» تبحث عن أرض بعد هزائم متلاحقة

خسائر بالغة لـ«داعش» من ضربات التحالف الدولي في سوريا والعراق («الشرق الأوسط»)
خسائر بالغة لـ«داعش» من ضربات التحالف الدولي في سوريا والعراق («الشرق الأوسط»)

«راياتها تساقطت مؤخرا في الفلوجة بالعراق، ولاذ جنود التنظيم الأكثر شهرة بالفرار»، هذا هو حال دولة أبو بكر البغدادي المزعومة «داعش»، التي باتت الآن تبحث عن أرض جديدة بعد هزائمها المتلاحقة في العراق، سواء كانت هذه الأرض في العراق ذاتها أو سوريا، أو في دول أخرى، لتبث فيها خداعها بحثا عن «خلافة وهمية».
خبراء معنيون بشؤون الحركات الإسلامية أكدوا أن «داعش» يحاول إعادة السيطرة من جديد والبحث عن مناطق جديدة في العراق لتكون منطلقا لدعايتهم من جديد.
وقال الخبراء إن «داعش» عقب هزيمته في مساحات كثيرة بالعراق ينتهج «سياسة الوحش» وانتقل من مرحلة السيطرة واسعة النطاق على الأرض وإدارة كيان خاص به عليها إلى «حرب استنزاف» مرهقة للدولة العراقية. لكن الخبراء حذروا في الوقت نفسه من أن «هزيمة التنظيم في العراق ستفتح بابا من العمليات التفجيرية في الدول الغربية والعربية بشكل ممنهج».
آراء الخبراء اتسقت مع تقرير مصري صدر مؤخرا أكد أن «هزائم التنظيم الإرهابي في الفلوجة على يد قوى التحالف الدولي أثبت فشل محاولات التنظيم للتحول لدولة الخلافة المزعومة التي حاول الترويج لها منذ ظهوره». وقال التقرير إن «التحول لدولة مثل ركيزة أساسية في فكر (داعش) بالعراق، لذا أنشأ نظاما تعليميا خاصا وألف مناهج تتسق مع أفكاره وحدد الولايات التابعة له وللدولة المزعومة التي تتكون من 35 ولاية منها 19 في سوريا والعراق».
أما المراقبون فقالوا إن «الضربات الأخيرة التي وجهها التحالف الدولي والجيش العراقي لعشرات الشاحنات التابعة لـ(داعش) كانت في طريقها للخروج من ضاحية جنوبية في الفلوجة من أجل الفرار، كانت قوية وتركت أثرا في التنظيم، وأن الخطأ الذي وقع فيه (داعش) في الفلوجة هو عدم تقدير الأمر، وذلك في أقوى إشارة على انهيار سريع لخلافته المزعومة».
وتعرض التنظيم الإرهابي الأكثر شهرة الآن بين التنظيمات المتطرفة حول العالم إلى خسائر متلاحقة على يد القوات العراقية التي يساندها الحشد الشعبي والمقاتلون العشائريون والبيشمركة في غرب وشمال البلاد، بعد أن تراجعت قدراته القتالية في تلك المناطق التي فقد السيطرة عليها، إلى جانب استهداف أبرز رموزه وقادته.
وسبق أن أعلن الجيش العراقي تحرير الفلوجة بالكامل (50 كلم غرب بغداد) التي كانت تحت سيطرة التنظيم منذ يناير (كانون الثاني) 2014. كما تم تحرير مدينة الرمادي السنية (على بعد مائة كلم غرب العاصمة بغداد) التي كانت تحت سيطرة التنظيم منذ مايو (أيار) عام 2015. كما طردت القوات العراقية تنظيم داعش في أغسطس (آب) الماضي من القيارة (في الشمال) التي تتمتع بموقع مهم، لمواصلة المعارك في الموصل آخر معاقل التنظيم الرئيسية في العراق.
مصدر مصري قال إن «التحدي الأكبر للتنظيم الإرهابي بعد خسائره الكبيرة في العراق خلال الفترة المقبلة، سيكون محاولة الحفاظ على تماسكه وترابط أعضائه ومنع انتشار عدوى الهروب من أرض الخلافة المزعومة».
التقرير المصري الذي جاء تحت عنوان «داعش.. ومعركة التحول إلى دولة»، ألقى الضوء على محاولات التنظيم الإرهابي التحول لدولة مزعومة في سوريا والعراق، وقال إن «داعش» بدأ بإطلاق مسمى الدولة على التنظيم منذ نشأته، وصولا إلى إصداره شرحا مفصلا لهيكلته وأدوار مسؤوليه ودور الولايات والدواوين وغيرها عبر إصدار جديد بعنوان «صرح الخلافة»، فضلا عن إصدار الدينار الذهبي عملة رسمية للمناطق الواقعة تحت سيطرة التنظيم.
وأوضح التقرير الذي حصلت «الشرق الأوسط» على نسخة منه، أن هدف التحول إلى دولة مثل ركيزة أساسية في فكر «داعش» بالعراق، وقد بذل التنظيم جهودا مضنية في سبيل تحقيق هذا الهدف، حتى أنه أنشأ نظاما تعليميا خاصا به، وألف المناهج المتسقة مع الأفكار والآيديولوجيات التي يؤمن بها، وأنشأ الدواوين المختلفة، وحدد الولايات التابعة للدولة المزعومة، التي تتكون من 35 ولاية متوزعة في عدة دول، 19 منها في سوريا والعراق و16 في دول أخرى، وذلك حسب ما أعلن التنظيم. فضلا عن إنشاء «داعش» مجلس الشورى لمعاونة خليفتهم المزعوم البغدادي، وحدد هيئاته ومكاتبه الرسمية، وهي «هيئة الهجرة، وهيئة شؤون الأسرى والشهداء، ومكتب البحوث والدراسات، وإدارة الولايات البعيدة، ومكاتب العلاقات العامة والعشائر».
من جهته، قال الدكتور محمد أحمد، وهو أستاذ جامعي، متخصص في شؤون الحركات الإسلامية، إنه «عند القول بانهزام واندحار تنظيم داعش في العراق وبعض أماكن من سوريا، فقد يكون من غير الجائز التكهن بالقضاء عليهم عن بكرة أبيهم، الأمر الذي يتبقى معه الأذناب التي تحاول حفظ التوازن وإعادة السيطرة من جديد على أجزاء ذات أهمية استراتيجية في سوريا والعراق، وأنه لو تم إجلاؤهم من المناطق الرئيسية، فسيبحثون عن أكثر المناطق السنية لتكون منطلقا لدعايتهم من جديد بشكل متواز في المناطق السنية ونظيراتها في البلدان المجاورة، والبعد عن المناطق الشيعية حيث الاختلاف في الآيديولوجية».
مضيفا لـ«الشرق الأوسط»: «ربما يندفع التنظيم بعد فشله في العراق بقوة نحو فكرة التطبيق الفعلي لـ(الخلافة الإسلامية العالمية) لجذب أنصار من الغرب يؤمنون بفكرتهم فيدخلون فيه طواعية، أو عن طريق الإغراءات التي يلجأ إليها هذا التنظيم ويعتبرها أسلوبا فاعلا في استقطاب الشباب»، موضحا أن هزيمة التنظيم ستفتح بابا من العمليات التفجيرية بشكل ممنهج تعجز الأجهزة الأمنية في العراق عن ملاحقتها لعدم التنسيق والتعاون فيما بينها، مثلما حدث مؤخرا من وقوع عمليات تفجيرية رغم زرع كاميرات المراقبة على مداخل ومخارج المدن العراقية.
في حين قال المصدر المصري إن «الدولة المزعومة لـ(داعش) بدأت قواعدها تهتز بسبب هجمات التحالف الدولي، وهروب كثير من عناصره القتالية خصوصا الأجانب، الذين لاذوا بالفرار من المناطق الواقعة تحت سيطرته في العراق وسوريا، نتيجة انخداعهم بشعاراته الدينية ودعايته المضللة، قبل أن يتعرفوا على حقيقة الأوضاع على أرض الواقع، وهو ما دفعهم إلى محاولة الفرار من التنظيم، والعودة إلى مجتمعاتهم التي هجروها إلى أرض الخلافة المزعومة»، مؤكدا أن هذه الظاهرة (هروب المُقاتلين) الآخذة في التزايد، تُهدد تماسك التنظيم وسيطرته على مقاتليه خلال الفترة المقبلة.
وقدر عدد مقاتلي «داعش» في العراق وسوريا نهاية عام 2015 بنحو 25 ألف مُقاتل بعد أن كان 30 ألفا خلال عام 2014 منهم ما يقرب من 40 في المائة أجانب.
من جهته، أوضح التقرير المصري الذي أعده مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة التابع لدار الإفتاء المصرية، أن «معركة تنظيم داعش للتحول إلى دولة لن تكلل بالنجاح، حتى إن توافر لها شيء من مقومات الدولة لدى التنظيم، حيث تتوافر الأرض التي يسيطر عليها التنظيم والسكان الذين يقطنون في تلك الأرض؛ لكن من غير المتوقع أبدا أن يحصل التنظيم على القبول والاعتراف الدولي به، فهو في النهاية تنظيم يقوم على عدد من الأفكار والمبادئ التي تتناقض بالكلية مع القواعد والأعراف الدولية، كمسألة الحدود التي لا يعترف بها التنظيم، ومنظوره للتعامل مع المجتمع الدولي».
المصدر المصري قال إنه «تم رصد قيام (داعش) مؤخرا بتنفيذ كثير من أحكام الإعدام على عناصره بتهمة الهروب من الدولة المزعومة»، لافتا إلى أنه رغم محاولة «داعش» إخفاء سبب إعدامه لعناصره؛ فإن كثيرا من الروايات والمصادر والأدلة تشير إلى محاولات هرب فاشلة يقوم على إثرها التنظيم بإعدام تلك العناصر، لتكون عبرة لباقي عناصره وعنصر ردع لمن تسول له نفسه الانشقاق عن التنظيم أو مخالفة أوامره وترك أرض الخلافة المزعومة.
وسبق أن نفذ «داعش» حكم الإعدام فيما يقرب من 300 مقاتل بسبب انشقاقهم على التنظيم في العراق وسوريا خلال أربعة أشهر فقط. وأوضح المصدر المصري نفسه لـ«الشرق الأوسط» أن «تزايد نشر التنظيم للمقاطع المُصورة لتنفيذ أحكام الإعدام لعناصره الهاربة من أرض الخلافة المزعومة، هو دليل على ضعف الانسجام بين عناصره، وكشف زيف الكذبة الكبيرة التي يروج لها التنظيم باسم (دولة الخلافة المزعومة)».
ويرى مراقبون أن «داعش» لم يخسر المناطق التي كانت تحت سيطرته في العراق؛ بل خسر عددا من أبرز قياداته منهم، أبو مسلم التركماني الرجل الثاني في قيادة التنظيم الذي يعرف بـاسم حجي معتز وذلك في ضربة جوية للتحالف الدولي ضد الإرهاب شمال البلاد، ومقتل أبو علاء العفري الذي كان حلقة الوصل بين البغدادي ومستشاريه وأمراء المدن والمقاطعات عبر المناطق الخاضعة لسيطرة التنظيم، فضلا عن مقتل القيادي البارز في تنظيم داعش واسمه طرخان باتيرشفيلي ويلقب بأبو عمر الشيشاني.
في السياق نفسه، قال الدكتور حامد مصطفى الخبير في شؤون الحركات الإسلامية: «ما زال (داعش) يحاول التوسع بعد هزيمته في المساحات التي يوجد فيها دفاع ضعيف، فهو ينتهج (سياسة الوحش) الذي يرقب أضعف الفرائس لينطلق خلفها ويذبحها وينهش لحمها، ويتميز (داعش) بالقدرة على الانتشار الواسع والقتال في الوقت نفسه على أكثر من جبهة، وبعد الضغط على التنظيم وهزيمته بحث عن أماكن جديدة للهرب ومعاودة القتال».
وأضاف الخبير في شؤون الحركات الإسلامية لـ«الشرق الأوسط» أن «داعش» يسعى في سوريا إلى تحقيق أي تقدم أو خرق على حساب «جبهة النصرة» التي يراها أضعف من الأطراف الأخرى، وقبل أشهر فتح «داعش» معارك مع «النصرة» في عدد من المواقع التي تعتبر معابر استراتيجية إلى الداخل السوري.
وعن وجود اتجاه لـ«داعش» للانطلاق خارج العراق وسوريا، قال الدكتور مصطفى: «داعش» قد يتحرك في المستقبل نحو عمق المناطق المجاورة له كلبنان، حيث يمهد التنظيم الطريق إلى لبنان مستقبلا، من خلال نقل بعض عناصره وانتحارييه إلى لبنان، كأسلوب تهديدي وتشتيت الجهود المبذولة في محاربته، فضلا عن مواصلة القتال في ليبيا، ومحاولة القيام بعمليات إرهابية في الدول الغربية وفي الدول العربية أيضا.
وتشير الإحصائيات والتقارير إلى أنه تم تنفيذ ما يزيد على 1200 ضربة أو غارة جوية ضد أهداف لـ«داعش» خلال شهر واحد في العراق؛ الأمر الذي قلص زخم «داعش» الذي أصبح الآن متوجسا على الدوام من الهجوم القادم. وقال مراقبون إنه بطبيعة الحال لا يمكن للدول أن تأمل في هزيمة «داعش» من خلال العمل العسكري وحده؛ لكن من خلال الحد من تدفق المقاتلين الإرهابيين الأجانب للتنظيم، والحد من تمويله، وهزيمته حيثما يمكنه إلحاق الضرر بشكل مذهل في الفضاء الافتراضي وسوق الأفكار.
وقال الخبير في شؤون الحركات الإسلامية، إن «داعش» خسر مساحات مهمة في محافظتي الأنبار وصلاح الدين آخرها جزيرة سامراء، في حين يتكثف الحديث عن قرب إطلاق عملية تحرير الموصل مركز محافظة نينوى، لافتا إلى أن «داعش» انتقل من مرحلة السيطرة واسعة النطاق على الأرض في العراق وإدارة كيان خاص به عليها، إلى «حرب استنزاف» مرهقة للدولة العراقية، موقعا عشرات قتلى والجرحى في هجمات انتحارية، لافتا إلى أن خسارة تنظيم داعش لأراض عراقية لن تعني القضاء عليه؛ بل سيظل يستمد أسباب بقائه من ارتفاع منسوب الطائفية في العراق.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.